المجموعة الثانية
الكتاب المقدس
نضع تحت هذا العنوان الأسئلة التي تتناول الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. وقد اخترنا الأسئلة التي فيها فائدة كبرى للقراء، وتحاشينا عن قصد الأسئلة السهلة التي لا تحتاج الإجابة عليها إلا التأكيد أو النفي. نحن نعيش في عصر يكثر فيه الحديث عن الكتاب المقدس بين المسيحيين على اختلاف مذاهبهم، وكثرت فيه الشروحات التي تُعبِّر عن آراء أصحابها ولا تُعبِّر عن رأي الكنيسة المقدسة وشروحات الآباء والقديسين. ولذلك، في الإجابة على الاسئلة المطروحة، نحن نعتمد تعليم الكنيسة الكاثوليكية، ونذكّر القارىء الكريم بأن الكتاب المقدس هو قبل كل شيء موضوع إيمان لأنه كلمة الله للبشر.
1 – عموميات في الكتاب المقدس
120
أنا أقرأ كتب العهد القديم للتسلية ومن باب حب الاطلاع. لأني لا أرى فيها أية فائدة، ألا تشاطرني الرأي؟
لا أشاطرك الرأي على الاطلاق للأسباب التالية:
1 – العهد الجديد هو قصة خلاص البشر الذي أتمه السيد المسيح. والعهد القديم هو قصة الوعد بهذا الخلاص. فالعهد القديم هو مقدمة للعهد الجديد، وهو يوصل إلينا كلام الله بلسان الأنبياء والكٌتّاب الملهمين. إنه زمن الوعد وزمن الإنتظار. نصوص الأنبياء والمزامير تعلن البشرى بأن الرب سياتي في ملكه ويمنح السعادة للمساكين. انتظر اليهود المسيح، وعندما جاء رفضته سلطتهم الدينية بينما قبله المسيحيون مسيحا وربا مخلصا. فالوعد الذي يتضمنه العهد القديم يبقى المخطط الذي حققه يسوع المسيح. فالمسيح هو محور العهدين: القديم والجديد، وهو محور تاريخ الخلاص. فمن الضروري أن نطلع على نصوص العهد القديم وأن نتعمق في معانيها كي نكتشف سر الخلاص.
2 – لأن كتب العهد القديم كلها موحاة، وهي تعطينا معلومات دينية عن الله الخالق الذي يحب الإنسان ولا يهمله في خطيئته. وهي تطلعنا على أن الرب علّم شعبه أجيالا وأجيالا. وقد أراد المسيح أن يولد من شعب وفي أرض لينطلق منهما فيبشر جميع الشعوب بالخلاص والملكوت. فالعهد القديم يحمل الينا كلام الله، وهو مسيرة الإنسان إلى الله وينير الطرق إلى الله. وهي صعبة وطويلة يظهر فيها الله طويل الأناة وكثير الرحمة، وهو في النتيجة يوصل شعبه الخاطىء والضعيف إلى الشريعة الكاملة في المسيح.
3 – لأن العهد القديم يكشف لنا معاني نصوص العهد الجديد. فهناك عبارات أصولها في العهد القديم مثل ألقاب يسوع النبوية وأسمائه الحسنى. فهو المسيح، وابن داود، وابن الله، وابن الإنسان، وعبد الله المتألم، والنبي، والرب، والمعلم، والطريق، والحق، والحياة، والنور.
4 – في شعب العهد القديم نرى ذواتنا، ونكتشف مسيرتنا من خلال الأخبار التي نقرأها والأقوال التي نسمعها. فالبشر الذين قادهم الله هم خاطئون مثلنا، وضعفاء مثلنا، ولكن النعمة بدلت حياتهم، وتبدل حياتنا. بالاضافة إلى ذلك، نحن نقف أمام سر الألم حائرين، مثل أيوب البار. ونقول مع سفر الجامعة: "باطل الأباطيل". ونصلي مع صاحب المزامير في كل حين. وفي سفر الخروج نلمس حاجتنا إلى التحرر من خطايانا وتنمو فينا الرغبة في أن نكون احرارا. والانبياء يطالبون بالعدالة والحفاظ على الوصايا كما نطالب اليوم بالعدالة الإجتماعية والسياسية، والحفاظ على القيم والأخلاقية عند الأسر والأفراد.
5 – وأخيرا، فإن السيد المسيح عندما ظهر لتلميذيه على طريق عماوس، يوم أحد القيامة، شرح لهما ما قيل فيه في كتب العهد القديم من موسى والأنبياء. ثم كشف عن سره لهما عند كسر الخبز. بولس الرسول يقول ان أحداث العهد القديم كانت "صورة وتنبيها" (1 كو 10/6، 11). فعلى سبيل المثال، فإن تجارب يسوع في البرية هي الأصل، وأما الصورة عنها فكانت تجارب بني اسرائيل في البرية في أيام الخروج. عاشها الشعب العبراني مؤمنا صابرا على الضعف والزلات، بينما المسيح انتصر عليها وأصبح لنا فيها قدوة ومثالا. ونحن كالشعب العبراني نعيشها مؤمنين وعلى اوهاننا صابرين. فالألم والشر والخطيئة، ما زالت موجودة وما زال الإنسان ينتصر عليها حينا، وأحيانا تنتصر عليه.
121
جاءت المسيحية قبل ألفي سنة بينما العالم يبلغ من العمر ملايين السنين، فلماذا انتظر الله زمنا طويلا ليرسل ابنه الوحيد؟ وهل نهاية العالم قريبة؟
نعم، جاءت المسيحية قبل ألفي سنة بينما العالم يبلغ من العمر ملايين السنين. وقد انطلقت مسيرة الخلاص مع ابراهيم الذي عاش حوالي سنة الألفين قبل المسيح. الله يعلم لماذا انتظر هذه المدة الطويلة قبل أن يرسل ابنه ليخلص به العالم. ولكن حكمة الله تفوق حكمة البشر، ورحمته ومحبته فوق كل تصور. وقال بولس الرسول:
"فلما تم الزمان، أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني" (غلا 4/4-5)
أما نهاية العالم، فلا يعلم سرها أحد، ولا الملائكة في السماء. قال السيد المسيح بهذا الصدد:
"أما ذلك اليوم وتلك الساعة، فما من أحد يعلمهما، لا ملائكة السموات ولا الابن إلا الآب وحده" (متى 24/36). الابن لا يعلمهما كبشر، لكنه كإله يعلم غيب السموات والأرض. ويعلم يوم النهاية وساعتها. قبل صعوده إلى السماء قال يسوع لتلاميذه:
"ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي حددها الآب بذات سلطانه" (رسل 1/7).
ولذلك يجب على الناس أن يكونوا مستعدين دائما أبدا لساعة موتهم، لان ابن الإنسان يأتي عند نهاية حياتهم، في ساعة لا يعلمها أحد (متى24/44).
122
يُقال أن اليهود في زمن السيد المسيح كانوا يتكلمون اللغة الآرامية وليس اللغة العبرية. فكيف تشرح ذلك؟
التاريخ يشرح ذلك. كان الآراميون أصلا، تجارا وفلاحين ورعاة. وقد نجحوا في القرن الحادي عشر قبل المسيح في بناء وجودهم السياسي. والعهد القديم من الكتاب المقدس يوفر لنا معلومات هامة عن دويلتين من دويلات الآراميين وهما: دمشق وصوية (2 صم 8/1 – 13) اللتين انتصر عليهما الملك داود، ولكنهما استعادتا استقلالهما عند الإنشقاق السياسي والديني في عهد رحبعام (933 – 916 ق.م.) على يد ياربعام الذي أصبح ملكا على إسرائيل ولم يبق تابعا لبيت داود إلا سبط يهوذا وحده. وكان بين رحبعام وياربعام حرب كل الأيام (1 مل 14/30). فاللغة الآرامية هي إحدى اللغات السامية التي انتشرت وأصبحت اللغة الرئيسية في أقطار كثيرة واسعة. وبعد رجوع اليهود من السبي، حلت اللغة الآرامية محل اللغة العبرية في فلسطين. ومنذ بداية القرن الرابع قبل الميلاد استخدم بعض العرب أيضا اللغة الآرامية، ومنها اشتقت النبطية التي استخدمت في البترا.
في القرن الثاني قبل الميلاد، حقق الآراميون نجاحا كبيرا في مجال الثقافة. لأن لغتهم كانت أكثر اللغات انتظاما من بقية اللغات المعاصرة، في شكلها وتركيبها. وأصبحت واسعة الانتشار في الشرق الأوسط. وكان بعض ملوك أشور يستعينون بكتبة من الآراميين. ويبدو أن اللغة الآرامية أصبحت اللغة المستخدمة في الدبلوماسية الأشورية (2 مل 18/26). ولعل هذا يرجع إلى استعمالها كلغة دولية على نطاق واسع، فقد كانت تُعتبر لغة رسمية في الإمبراطورية الفارسية، ومن قبلها في الإمبراطورية الأشورية. أهم ما قدمه الآراميون للشرق الاوسط هو اللغة الآرامية التي ما زال أثرها قويا لدى المسيحيين، الكلدان والاشوريين في العراق.
123
بأية لغة كتب العهد القديم؟
1 - ان العهد القديم كتب معظمه باللغة العبرية وبعض النصوص باليونانية والآرامية. أقدم المخطوطات العبرية التي وصلت الينا تعود إلى الجيل التاسع بعد المسيح. أما مخطوطات الترجمة اليونانية، المعروفة بالترجمة السبعينية، فيتراوح عهدها بين الجيل الثاني قبل المسيح والجيل الرابع بعد المسيح. وقد عُثر في قمران على مخطوطة كاملة لأشعيا النبي يعود تاريخها إلى حوالي مائة سنة قبل المسيح.
2 – وأما العهد الجديد فكتب معظمه باللغة اليونانية. وأما نصوصه الأصلية فقد ضاعت أو طالها الحريق أو اندثرت ولا نستغرب ذلك لأن الاضطهادات التي تعرضت لها الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى كانت تدمر الكتب وأمكنة العبادة المسيحية. إلا أن النص الأصلي نسخ وحفظ، وأقدم النصوص تعود إلى الجيل الثاني.
124
لماذا تتمسك الكنيسة بالعهد القديم، ما دام لنا العهد الجديد؟ وهل لنا ان نقارن بينه وبين العهد الجديد؟
تتمسك الكنيسة بالعهد القديم لأن الله هو واضع الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، فهو الذي ألقى الوحي إلى الكُتّاب، لكي يكتبوا ما أراد. إن وحدة العهدين القديم والجديد من وحدة قصد الله ووحيه، والعهد القديم يهيىء العهد الجديد، والعهد الجديد يتمم العهد القديم. فالواحد منهما يشهد للآخر، وكلاهما كلمة الله الحقيقية.
وأما بالنسبة للمقارنة بينهما فإني اكتفي بأن اذكر النقاط التالية:
1 – في العهد القدبم، كانت الدعوة إلى الخلاص مقتصرة على الأمة اليهودية، أما في العهد الجديد فهي مفتوحة لكل الأمم.
2 – شريعة العهد القدبم نقشت على لوحين من الحجر، وفي ذلك إشارة إلى قساوة ضمير الإنسان في العهد القديم. بينما، شريعة الإنجيل فهى نُقشت في قلب الإنسان مباشرة داعية إياه إلى اعتبار الله أبا حنونا يفتح له ذراعية. وإذا أخطأ الإنسان فالله رحيم يقبل توبته.
3 - امتزجت السيادة في العهد القديم بالممالك الزمنية. أما في العهد الجديد فتتجلى السيادة الإلهية بطابع روحاني محض، بحيث يتوجه المؤمن إلى الرب طالبا مجىء ملكوته (متى 6/10) القائم على البر والصلاح (رو 3/2). وبما أن لكل ملكوت مستقرا، فإن مستقر ملكوت الله هو السماء والأرض، فيهما ينبغي أن تتم مشيئته على السواء: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض" (متى 6/10)
4 – كانت العبادة في العهد القديم تقيدها الطقوس، أما في العهد الجديد فالمسيح كشف للمرأة السامرية (يو 4/23) أن العبادة لله تكون بالروح والحق.
5 – كان العهد القديم عهد انتظار للوعود، وقد تحققت هذه الوعود في العهد الجديد فانقلبت الوعود حقائق. وكان موضوع الإنتظار مجىء السيد المسيح: "لما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا لامرأة في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة لينالوا التبني" (غلا 4/4).
6 - إن الكنيسة في العهد الرسولي أولا ثم في تقليدها بطريقة مستمرة، أوضحت وحدة التصميم الإلهي في العهدين، حيث يصير الله كلا في الكل. ففي أعمال الله في العهد القديم نجد صورا مسبقة لما حققه الله عند اكتمال الأزمان في المسيح. فدعوة الآباء مثلا، والخروج من مصر هما في تصميم مراحل في مخطط الخلاص.
7 - المسيحيون يقرأون العهد القديم على ضوء المسيح الذي مات وقام. ومن ناحية أخرى يتطلب العهد الجديد أن يُقرأ في ضوء القديم أيضا. وقد كانت الكرازة المسيحية الأولى دائما تستند إلى العهد القديم. قال القديس أغسطينوس: "إن العهد الجديد كامن في القديم، في حين يتكشّف القديم في العهد الجديد". (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 128-129).
125
كم كانت الفترة الزمنية التي تكون بها العهد القديم؟
إذا اعتبرنا أن العهد القديم يبدأ مع خلق الإنسان الاول، أي مع آدم وحواء، فلا أحد يستطيع أن يعرف على وجه التقريب كم دامت فترة تكوُّن العهد القديم.
اعتاد العلماء أن يسموا حقبة ما قبل التاريخ بالعصر الحجري القديم، ويُقال أنه دام اربعمائة ألف سنة، ثم العصر الحجري الحديث الذي بدأ بظهور الخزف قبل حوالي أربعة الآف وخمسمائة سنة قبل المسيح.
أما الحقبة التاريخية فتبدأ قبل حوالي 3500 سنة في بلاد ما بين النهرين بظهور السومريين حيث ظهرت الكتابة المسمارية، ثم قبائل أكّد. وفي مصر ظهرت الكتابة الهيروغليفية. ثم العصر البرونزي القديم قبل حوالي 2200 سنة. والعصر البرونزي الأوسط حوالي سنة 1900، ثم حوالي سنة 1800 بدأ قدوم عشائر الآباء الى كنعان، ومن ثم إلى مصر.
وظهر موسى النبي حوالي سنة 1300 ق.م. وقد خرج مع الاسرائيليين من مصر حوالي سنة 1250. ثم بدأ عصر القضاة حوالي سنة 1200. وأصبح شاول ملكا حوالي سنة 1030 ثم ملك بعده داود فسليمان. ومن بعده انشقت المملكة: إلى مملكة الشمال أي إسرائيل ومملكة يهوذا. وظهر إيليا النبي حوالي سنة 850 وتبعه أليشاع حوالي سنة 800، والنبي عاموس حوالي سنة 750 والنبي هوشع حوالي سنة 730. وتم الاستيلاء على مملكة الشمال من قِبَل ملك أشور حوالي سنة 722 وتم جلاء السكان إلى بابل. وأما مملكة يهوذا فقد تم حصارها على يد نبوكدنصر فاستسلمت المدينة وتم الجلاء الأول حوالي سنة 597. وبعد تمرد صدقيا حوالي سنة 589 حوصرت أورشليم مرة أخرى ودُمّر الهيكل وتم الجلاء الثاني ثم الجلاء الثالث سنة 582.
ثم جاء العصر الفارسي من سنة 538 إلى سنة 333، وتبعه العصر الهلينستي من سنة 333 – 63. وأخيرا العصر الروماني حتى مجىء المسيح وما بعد مجيئه. وحوالي سنة 27 تزوج هيرودس انتيباس ابنة الحارث ملك الأنباط ثم تزوج هيروديا زوجة أخيه. وبدأت كرازة يوحنا المعمدان حوالي سنة 27 ومن ثم بدأ يسوع حياته العلنية وكرازته.
وتجد في الكتاب المقدس "العهد القديم" (الطبعة اليسوعية:الحجم الكبير) جدولا تاريخيا مفصلا من صفحة 17 الى صفحة 27.
126
عندما يسألونني: ما هو الكتاب المقدس، فبماذا أستطيع أن أجيب؟
الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد هو مجموعة من الكتب أو المؤلفات الدينية، حررها كُتاب اختارهم الله لهذه الغاية فكتبوا بإلهامه ما يختص بهداية البشر. وهذه الكتب الدينية محدودة في عددها ومحدودة في محتواها. وقد حُررت في أمكنة مختلفة واعترفت السلطة الدينية بمصدرها الالهي.
العهد القديم من الكتاب المقدس كُتب قبل مجىء السيد المسيح في الفترة ما بين رجوع العبرانيين من مصر إلى أرض الميعاد، أي حوالي سنة 1090 قبل الميلاد، ونهاية حكمهم المجدِّد في عهد سلالة المكابيين، في القرن الأول قبل الميلاد.
أما كتب العهد الجديد فقد كُتبت في عهد تلاميذ يسوع، ما بين سنة 53 بعد الميلاد وسنة 95 تقريبا.
127
ما معنى العهد في الكتاب المقدس؟
"العهد" في الكتاب المقدس، اصطلاح مسيحي قديم يعني الميثاق أو الإتفاق ويشتمل على الكتابات التي أوحى لها الله. فالكتب التي نزلت قبل مجىء السيد المسيح تُعرف بالعهد القديم، والكتب التي نزلت بعد المسيح تعرف بالعهد الجديد.
1 - ونفهم بالعهد، في كتب العهد القديم، تلك العلاقة الفريدة التي قامت:
أ - بين الله ونوح (تك 9/8-17) حيث تعهد الله ألا ينقرض الأحياء بمياه الطوفان.
ب - بين الله وابراهيم حيث تعهد الله أن يقيم من سلالة ابراهيم مخلصا روحيا للبشرية وأن يكون له من نسله، أمة مختارة. وتعهد ابراهيم لله بالطاعة والإيمان. وكان الختان اي الطهور علامة على هذا العهد (تكو 17/1- 17).
ج - بين الأمّة الإسرائيلية بصفتها أمّة مختارة وبين الله في سيناء على اساس أن يحفظ اسرائيل وصايا الله العشر (خر 20/34).
د - ثم تبعه العهد المبرم مع داود (2 صم 7/1-17) أي العهد المسيحاني مع الوعد بولد يدعى ابن الله ويجعل بيت داود أبديا.
2 - العهد الجديد لا يكون بعده عهد آخر. وإذا أردنا أن نختصر العهد الجديد بتعابير بشرية واضحة نقول أن العهد الجديد هو الميثاق الذي أبرمه الله الآب بينه وبين ابنه يسوع، وفيه تعهد الله الآب كفريق أول بغفران خطيئة الإنسان ابتداء من خطيئة آدم، وتعهد يسوع، كفريق ثان أن يقرب نفسه بموته الطوعي، كفارة عن تلك الخطيئة. وإشارة الى ذلك أقام عشاءه الفصحي، في عليه صهيون: "هذه الكاس هي العهد الجديد بدمي الذي يراق من أجلكم" (لو 22/10). فالسيد المسيح بذبيحته على الصليب أسس بين الله والناس، وبين الناس والناس، عهد حب وسلام ومودة ووئام، وعلم الناس أن يكفوا عن الكفر وشهوات هذه الدنيا، وأن يعيشوا في هذا الدهر برزانة وعدل وتقوى.
3 - الرسالة إلى العبرانيين (7-10) تعرض اللاهوت الحقيقي للعهد الجديد بين الله والبشرية المفتداه، وفي نفس الوقت تُشيد بسمو العهد القديم. ففي العهد الجديد، الله يعطي ذاته للإنسان، وعلى الإنسان أن يتقبل هذا العطاء المجاني بكامل حريته. فالعهد الجديد يذكر عمل الله الخلاصي في التاريخ الكتابي. وبالتالي فإن تاريخ الخلاص المعترف به رسميا إنما هو خلاصة عهدين (غلا 4/24، 2 كو 3/6-18). وقياسا مع دم الحيوانات المذبوحة عند ابرام العهود في العهد القديم، يعترف العهد الجديد بِدَم آخر هو دم المسيح به أبرم عهد جديد (مر 14/24، لو 22/20، 1 كو 11/25). إن تجسد المسيح وموته وقيامته، في العهد الجديد، قمة عطاء الله للإنسان. ويبقى على كل مؤمن أن يتقبل الله في الإيمان والطاعة. للعهد الجديد طابع مطلق، وكلماته الخلاصية موجهة بصورة خاصة إلى كل إنسان.
128
لماذا تقيم الكنيسة أهمية كبرى للعهد القديم؟
1 – لأن تدبير الخلاص الذي أعلنه مؤلفو الكتب المقدسة وفسروه ونقلوه، موجود في العهد القديم بصفته كلمة الله الحقيقية. لذلك فإن هذه الكتب التي أوحى بها الله تحتفظ بقيمة لا تزول: "لأن كل ما كتب من قبل، إنما كتب لتعليمنا، ليكون لنا الرجاء بالصبر وتعزية الكتب" (رو 15/4)
2 – لأن الهدف الرئيسي في تدبير العهد القديم هو التهيئة لمجىء المسيح، فادي العالم كله، ولحلول ملكوت الله، وإشاعته بواسطة الانبياء، والإشارة اليه برموز مختلفة.
قال المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي في الوحي الالهي:
" تعلن كتب العهد القديم لجميع الناس حقيقة الله والإنسان، والطرق التي عامل الله بها البشر في ظروف البشرية قبل ان يجىء المسيح ويخلصنا. وهذه الكتب، وإن احتوت على أمور غير كاملة وزمنية، إلا أنها تحمل اسلوبا تربويا إلهيا حقيقيا. لذلك وجب على المسيحيين أن يقبلوها بكل خشوع. فهي تعبر عن إحساس عميق بالله، وتحتوي على كنوز رائعة من التعاليم السامية، ومن الحكمة الخلاصية، ومن الصلوات. وهي أخيرا تحتوي على سر خلاصنا."
"وقد اوصى الله بكتب العهدين. ورتب هذين العهدين بحكمة، بحيث يحتجب الجديد في القديم، ويتضح القديم في الجديد. وإذا كان المسيح وقّع بدمه العهد الجديد (لو 22/20، 1 كو 11/25) فإن البشارة الإنجيلية اتخذت كتب العهد القديم. وتكتسب هذه الكتب كامل معناها في العهد الجديد (متى 5/17، لوقا 24/27، رو 16/25-26، 2كو 3/14-16) وهي بدورها تنير العهد الجديد وتفسره"
(المجمع الفاتيكاني الثاني "دستور عقائدي "في الوحي الالهي رقم 14-16)
129
ما الدليل على أن الكتاب المقدس هو كلام الله؟
1 - إن الكنيسة الكاثوليكية التي اقامها السيد المسيح تعلم الحقيقة دائما، وهي تقول أن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها. في القرون الثلاثة الأولى بعد المسيح، كان المسيحيون يتداولون وثائق كثيرة تتناول الوحي وكلمة الله. منها الأناجيل الأربعة وبعض الأناجيل المنحولة مثل إنجيل بطرس وإنجيل يعقوب وإنجيل توما. وأما الكنيسة الكاثوليكية فقد وضعت حدا لهذه الفوضى في القرن الرابع في مجمع هيبو سنة 393 وفي مجمع قرطاجنة سنة 397 حيث أعلنت وثبتت الكتب الموحى بها من الله، ونبذت الكتب المنحولة غير الموحى بها والتي بالتالي لا يجوز اعتمادها ولا يجوز اعتبارها كتبا مقدسة. فاعطتنا الكنيسة الكتاب المقدس الذي هو اليوم بين أيدينا والذي يحتوي على 46 كتابا في العهد القديم و27 كتابا في العهد الجديد.
2 - الكتاب المقدس هو مجموعة كتب تتناول تاريخ الخلاص. وقد تُرجمت إلى مئات اللغات خلال الالفي سنة، وإذا ما قارنا الترجمات بعضها مع بعض ومع معطيات التاريخ وكتابات المؤرخين الرومان واليهود ومعطيات علم الآثار في الشرق الاوسط، فإن كل ذلك يثبت أن الكتاب المقدس يعطينا تاريخا حقيقيا لاشخاص كثيرين ولأمَاكِن كثيرة وحوادث كثيرة.
3 – الأناجيل المقدسة تاريخ موثوق به، وهي تكلمنا عن رجل اسمه يسوع قال إنه ابن الله واثبت قوله بالعجائب الكثيرة وبقيامته من القبر ممجدا. وهي تبين لنا أن يسوع أسس الكنيسة (متى 16/18) ووعدها بالبقاء معها حتى منتهى نهاية العالم (متى 28/20) وبصمود أبوابها في وجه الجحيم (يو 14/16-17). "فكل ما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس يخضع في نهاية الأمر لحكم الكنيسة التي كلفها الرب بحفظ كلمة الله وتفسيرها" (المجمع الفاتيكاني الثاني "في الوحي الالهي"11)
4 – الكنيسة أقرت بسلطانها الكتب الموحى بها وحافظت عليها طيلة العصور الغابرة. وقد ورد في الدستور العقائدي "في الوحي الإلهي" للمجمع الفاتيكاني الثاني:
"أما سلطة تفسير كلمة الله المكتوبة أو المنقولة تفسيرا صحيحا. فمن حق سلطة التعليم الحية في الكنيسة دون سواها، وتمارسه باسم يسوع المسيح. غير أن هذه السلطة التعليمية ليست فوق كلمة الله، وإنما هي في خدمة هذه الكلمة عينها، ولا تعلم سوى ما تسلمته. فهي تصغي إلى كلمة الله بتقوى، وتحفظها بقداسة، وتعرضها بأمانة، وتستقي من هذه الوديعة الواحدة للإيمان كل الحقائق التي تدعو إلى الإيمان بها بوصفها موحاة من الله، وهي تعمل هذا كله بناء على ما كلفها الله به، وبعون الروح القدس" (10). فالكنيسة احترمت كلمة الله والكتب المقدسة "احترامها لجسد المسيح عينه" (21)
فلولا الكنيسة الكاثوليكية لما كان اليوم بين أيدينا كتاب مقدس.
130
ما دور الله ودور الكاتب المُلهَم في الكتاب المقدس ؟
الوحي الإلهي يسند محرري الكتب المقدسة في مواجهة ضعفهم البشري، ويرفع أفكارهم إلى المستوى الذهني المطلوب لمهمتهم الفريدة. كانوا رجالا عاديين لا يختلفون عن معاصريهم في التفكير والإنفعالات، ولكنهم استطاعوا بواسطة نعمة الوحي التي حباهم الله بها أن يضمنوا لنا صحة ما نقلوه في كتاباتهم.
وأما دور الإنسان ودور الله في عملية الوحي الإلهي، فنستطيع أن نختصرهما كما يلي:
1 – يدعو الله إنسانا معينا للقيام بتدوين الأمور المقصودة. اختار إرميا (ار 1/4-9) ... ويوحنا (رؤ 1/1-3) ...الخ. ويلبي الإنسان هذه الدعوة حتى وإن اقتضت تعبا وعناء لو اضطهده الناس من أجلها.
2 – يثير الله في ذهن الكاتب الذي اختاره الامور التي يريد أن يدونها (أش 1/2). ويترك له كامل الحرية في التعبير عن الأمور الموحى بها بالأسلوب الذي يشاؤه، ضمن إمكاناته الذهنية والعاطفية والثقافية. ويساند الله الكاتب بنعمته وينير بصيرته ويسند ضعفه، فيعصمه من كل خلل قد يتعارض والحقائق الموحاة. فالله يكفل له النجاح في أداء مهمته، ويضفي على ما يدونه طابعا علويا وقدسية خاصة تخلو منها الكتابات غير الملهمة.
131
ما هدف أو اهداف الكتاب المقدس؟
الهدف الرئيسي هو هداية الناس في مسيرتهم نحو الخلاص الأبدي، والحياة محطة للوصول إليه. وبما أن الخير يختلط في هذه الدنيا بالشر، فإن الإنسان يحتاج إلى مرشد في اختيار الخير. والمرشد هو الكتاب المقدس باعتباره مستودعا للحقائق الروحية والإلهية. ولذلك فهو يحيي صوت الضمير في الإنسان ويذكره بوحدانية الله وبالمخلص يسوع المسيح، ويزيده معرفة بالطبيعة الإلهية فيتفهم حياة الله من الداخل ويرى أن الله واحد في ذاته وثالوث في أقانيمه.
إن الكتاب المقدس هو كلام الله، وهو كتاب صادق، وعلينا أن نرجع اليه لمعرفة الحقائق الدينية وأن نتخذه مصدرا للإيمان وحجة في الجدل. والكتاب المقدس من حيث أنه كتاب بشري فقد دُوِّنَ بالأساليب الشعبية السائدة آنذاك وبالتالي قد نحتاج إلى الكثير من العلم لكي نقرأ صفحاته ونفهم الرسالة الروحية والدينية التي يحملها. ففي الكتاب المقدس الإرشاد الروحي والتعاليم والوسائل الناجعة لبلوغ السعادة الأبدية.
132
ماذا تعني الكنيسة بالتقليد؟
نفهم بالتقليد التقليد الرسولي الذي يكوِّن مع الكتاب المقدس وديعة الوحي. ولكي أبيّن لك ما هو التقليد الرسولي في الكنيسة، نعود إلى مراحل الوحي في العهد الجديد:
1 – المرحلة الأولى حياة يسوع وتعليمه. فالسيد المسيح الذي يكتمل به الوحي كله كرز وعلم وشفى المرضى وأقام الموتى. وقد أعلن الإنجيل الذي مهد له الأنبياء شفويا، واستكمله بنفسه، وجعله ينبوعا لكل حقيقة خلاصية ولكل نظام خلقي.
2 – المرحلة الثانية هي التقليد المتناقَل شفويا. فالسيد المسيح أمر رسله أن يبشروا الناس أجمعين بهذا الإنجيل، منبع كل حقيقة خلاصية ومصدر كل نظام خلقي. وكيف بشر الرسل؟ وكيف نقلوا الإنجيل؟ نقلوه مشافهة أي عن طريق بشارتهم الشفوية وسيرتهم الأنموذجية، وتنظيمهم القانوني. وقد نقلوا كل كلام سمعوه من المسيح، وسلوك ألفوه، وأعمال عاينوها، مما تلقنوه من الروح القدس. فالتقليد الذي نتكلم عنه صدر عن الرسل ونقل ما أُلقي إليهم. لم يكن لدى أجيال المسيحيين الأولى كتب العهد الجديد إذ لم تكن قد كُتبت بعد (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 83).
3 – المرحلة الثالثة هي الأناجيل المدونة. الرسل وصحبهم دونوا بإلهام الروح القدس بشارة الخلاص. ولم يدون مؤلفوها كل ما تناقله الرسل في تعليمهم، بل اختاروا من كنوز التقليد الشفوي، أي من العناصر الكثيرة التي بلغتهم عن طريق الرواية، أو عن طريق كتابة سابقة، اختاروا الحوادث والأقوال التي توافق غايتهم. وأحيانا كانوا يجمعونها ويصوغونها في نمط جديد. وفي بعض الأحيان كيّفوا رواياتهم مع حالة الكنائس التي يكتبون اليها. وتم هذا العمل دائما بالصدق والحق، وبوحي من الروح القدس. فالعهد الجديد نفسه يُثبت نهج التقليد الحي.
4 – كذلك فقد اختار الرسل بدورهم خلفاء لهم، ليواصلوا رسالة المسيح من بعدهم في العالم. فأقاموا على الكنائس أساقفة، وسلموا اليهم التراث الرسولي والكتب المقدسة بعهديها. وهذا يعني أن الرسل عهدوا إلى الكنيسة وديعة الإيمان المحتواه في التقليد وفي الكتاب المقدس.
وهكذا تنقل الكنيسة إلى الأجيال المتتالية، ما أودعه المسيح للرسل، أي ما نقل الرسل عن المسيح شفويا بكرازتهم (أي التقليد الرسولي) وما دونوه هم وأصحابهم من هذه الكرازة كتابة (أي العهد الجديد) وذلك كله بإلهام من الروح القدس. ولذلك فإن التقليد المقدس والكتاب المقدس يؤلفان وديعة واحدة مقدسة لكلمة الله هي وديعة الإيمان (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 97 ، 98). والكنيسة تنقل إلينا ذلك كله من خلال إيمانها، عن طريق تعليمها وحياتها وتنظيمها وطقوسها.
من أجمل ما قال القديس ايلاريون أسقف بواتيه: "يُقرأ الكتاب المقدس في قلب الكنيسة أكثر مما يُقرأ في مواد تعبيره". فالكنيسة أولا هي التي تؤمن. إيمان الكنيسة يسبق إيماننا ويبعثه ويغذيه ويحمله وينيره. الكنيسة أم مربية". .وقال القديس قبريانوس: "لا أحد يكون الله أباه ولا تكون الكنيسة أمّه".
133
نستطيع أن نسمي كل الكتب الدينية كتبا مقدسة، فما الفرق بينها وبين "الكتاب المقدس؟
الكتب الدينية، على وجه العموم، تغذي النفس وتقرب المؤمن من الله، ولكن ليست جميع الكتب الدينية كتبا مقدسة بالمعنى المقصود، لأن الكتاب المقدس هو:
1 – مجموعة معينة من المؤلفات المقدسة. إنها محدودة في عددها وفي محتواها، ولا يحتمل مضمونها زيادة ولا يقبل نقصانا. وليس كل إنتاج روحي هو كتاب مقدس بالمعنى الذي نعطيه "للكتاب المقدس".
2 – "الكتاب المقدس" هو مجموعة كتب كتبها أناس اختارهم الله لهذه الغاية من المجتمع. أشعيا وإرميا كانا نبيين، وعزرا كان كاهنا، ومتى عشارا، ولوقا طبيبا... الخ. صحيح أن الله كلم الكثيرين كما ورد في الكتاب المقدس مثل ابراهيم وصموئيل ... الخ، إلا أنه لم يختر منهم احدا لتدوين الكلام الذي دار بينه وبينهم.
3 – هؤلاء المختارون كتبوا بإلهام إلهي، أي أن الله اختارهم للكتابة لكي ينقلوا إلى البشرية كلامه. وأراد لهم أن يتفادوا في كتاباتهم كل ضلال قد ينجم عن ضعفهم البشري. لذلك أنار عقولهم، فاكتسب ما دونوه قدسية خاصة. فالله يحرك قدرات الكاتب الذي يختاره ليدون الامور التي يطلبها منه بدقة، أي بلا تبديل أو زيادة او نقصان، وذلك من أجل الفائدة الروحية للبشرية. وقد دوّن الكُتّاب الملهمون في أمكنة مختلفة وعبر فترتين من الزمان: الفترة الأولى قبل مجىء المسيح وقد عُرفت باسم العهد القديم، والفترة الثانية بعد المسيح وقد عُرفت باسم العهد الجديد.
4 – اعترفت الكنيسة لهذه الكتابات بالمصدر الإلهي. ونحن نؤمن بأن الكنيسة تستمد وحيها من الله، وترشد المؤمنين إلى كل ما يعود بالخير لخلاصهم. فهي التي بَتّت في قدسية المؤلفات الكتابية وليس غيرها. قال بطرس الرسول بهذا الصدد: "لم تأت نبوءة قط بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حعل بعض الناس (أي بوحي منه) على أن يتكلموا من قبل الله" (2 بط 1/21)
134
مَن قرر أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هو كتاب موحى به ويجب اعتباره كلمة الله للناس؟
كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد في الطبعات الكاثوليكية هي الأسفار المقدسة التي أنزلها الله على البشر لهدايتهم. وقد اعترفت بها الكنيسة. فما زاد على هذه الكتب أو نقص منها يُعتبر زيادة أو نقصانا في الكتاب المقدس. ومن المعروف تاريخيا وإيمانيا أن السلطة الروحية عند المسيحيين كانت ولا تزال بيد الكنيسة التي أسّسها المسيح على بطرس والرسل. وكان يتعيّن عليها، كونها صاحبة الصلاحية، أن تبت في أمر الكتب المنزلة، خصوصا أنه في بدء المسيحية أخذت كتب دينية كثيرة تنتشر في البلاد وتُنسَب لها قدسية الالهام.
اتفاق علماء المسيحيين حول شمولية الجدول القانوني في هذه المرحلة الطويلة التي استغرقت 14 قرنا كاد أن يكون شاملا. ولم تظهر خلافات جوهرية بينهم إلا في منتصف القرن السادس عشر وهو القرن الذي انشق فيه البروتستنط عن الكنيسة الكاثوليكية، فاصبح للكنيسة الكاثوليكية جدولها وللبروتستنط جدولهم.
كان المسيحيون في الأجيال الأولى يعرفون حق المعرفة ما هي الكتب المنزلة في العهد القديم وفي العهد الجديد وذلك بإرشاد من الروح القدس. وأول جدول وصل إلينا هو جدول موراتوري من أواخر القرن الثالث. وكان انطونيو موراتوري (1672 – 1750) مديرا للمكتبة الأمبروزية في مدينة ميلانو وهو الذي اكتشفه. ثم لدينا الجدول السينائي (نسبة إلى جبل سيناء) الذي يعود إلى القرن الرابع، وجدول البابا داماسيوس سنة 382 وهو البابا الذي أولى اهتماما خاصا بشؤون الكتاب المقدس، وفي عهده ترجم العلامة القديس ايرونيموس الكتاب المقدس في بيت لحم إلى اللاتينية، وهي الترجمة المعروفة بالترجمة الشعبية. وأما المجمع التريدنتيني المسكوني الذي عقد في مدينة ترنتو في شمال إيطاليا في منتصف القرن السادس عشر، فقد أصدر قراره بشأن الجدول القانوني، وعلى هداه يسير الكاثوليك جميعا.
135
كلمة الله موجهة إليّ والمطلوب مني أن أفهمها على قدر عقلي. فلماذا لا يحق لي أن أشرحها على قدر فهمي وعقلي وبكامل حريتي؟
كلمة الله موجهة اليك لكي تفهمها وتعيشها على حقيقتها. وهي موضوع إيمان قبل كل شيء وليست محصورة بعقل الإنسان وفهمه وتحليله. وعقل الإنسان قد يقبل الإيمان ويستنير بنوره، وقد لا يقبل فيفسر على هواه.
أما مهمة تفسير كلمة الله، المكتوبة والمنقولة، تفسيرا أصيلا، فهي من صلاحية ومسؤولية سلطة الكنيسة التعليمية الحية وحدها. والكنيسة تمارس سلطانها باسم يسوع المسيح، بواسطة الأساقفة الذين هم على الشركة مع خليفة بطرس، أسقف روما. وهذه السلطة التعليمية إنما هي في خدمة كلمة الله، فلا تُعلّم إلا ما تسلمته مستنيرة بنور الروح القدس. فهي تصغي إلى كلمة الله بتقوى، وتحفظها بقداسة، وتعرضها بأمانة، وتستقي منها كل الحقائق التي تدعو إلى الإيمان بها بوصفها موحاة من الله، وهي تعمل هذا كله بتكليف من الله، وبعون الروح القدس. وبهذا الشأن فقد قال السيد المسيح لتلاميذه، ومن خلالهم يقول لك ولنا: "من سمع منكم فقد سمع مني" (لو 10/16).
راجع بهذا الشأن وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني "دستور عقائدي في الوحي الالهي" رقم 7 – 10).
136
هل من اختلاف كبير بين جدول الكتب المقدسة في الكنيسة الكاثوليكية وفي الكنائس البروتستنطية؟
1 – بالنسبة للعهد القديم، وقبل المسيحية كان لدى اليهود الجدول العبري الأورشليمي لاسفار العهد القديم، مع أنه لم يشمل جميع الكتب الملهمة، بل اشتمل على 39 سفرا فقط من بين 46 وفقا لتسميتها وعددها في الكنيسة الكاثوليكية. وكان لهم أيضا الجدول القانوني اليهودي الإسكندري الذي تكوّن ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد في المستوطنات اليهودية في مصر. وكان اليهود آنذاك يمتثلون لقرارات السلطة الدينية الأم في اورشليم، في كل ما يتعلق بالكتب المنزلة. لكن بُعدُهم عن وطنهم الأم حال أحيانا دون ذلك. فشكلوا بدورهم هيئة رسمية للبت في شأن قدسية الأسفار الجديدة. وكان ذلك برئاسة طاقم من المؤمنين العلمانيين بسبب عدم وجود كهنة رسميين ولاويين بينهم. وقد شكل هذا الطاقم جداولهم القانونية الخاصة طبقا للزمن الذي عاشوا فيه. وقد أضافت الهيئة الإسكندرية إلى ما ورد في الجدول العبري الأصلي سبعة أسفار اعتبرتها ملهمة، كُتبت بعد المنفى البابلي باللغة الآرامية (مثل سفر طوبيا) أو اليونانيبة (مثل سفر الحكمة). ولم تحظَ هذه الكتب بالقبول لدى السلطة الأورشليمية إما لأنها لم تُكتب بالعبرية أو الآرامية وإما لأنهم لم يجدوا فيها روحانية كبيرة.
أما المسيحيون، فمنذ فجر المسيحية اعتبروا جدول اليهود النهائي الصادر في أرض آبائهم وجدول اليهود النهائي الصادر في شتاتهم بمصر، جدولين قانونيين جمعا كافة أسفار العهد القديم. وظلوا على قناعة تامة حتى القرن السادس عشر، يعتقدون أن جميع الأسفار في الجدول الأول وفي الجدول الثاني تستحق الإيمان لأن الله مصدرها. والدليل القاطع على ذلك هو أن السيد المسيح والرسل اعترفوا بها ضمنا عندما استشهدوا بنصوصهما في مناسبات شتى.
2 – أما بالنسبة لكتب العهد الجديد فقد انزل الله بعد مجىء المسيح ما بين عامي 60 و 100 على وجه التقريب كتبا جديدة بلغ عددها 27 سفرا وفق التعداد الكاثوليكي ومنها يتكون ما نسميه العهد الجديد. وأضاف المسيحيون جميع هذه الكتب إلى الكتب المنزلة الواردة في الجدول الإسكندري الذي كان بدوره يحتوي على الجدول الأورشليمي، فجعلوا من الأسفار الجديدة والقديمة جدولا واحدا نعرفه اليوم بالجدول القانوني المسيحي.
3 – مارتن لوثر في ألمانيا (1482 – 1546 ) منشىء المذاهب البروتستنطية، ويوحنا كالفن (1509 – 1546) منشىء المذهب الكلفيني لم يعترفا بالجدول الإسكندري أي لم يعترفا بالأسفار السبعة التي لم يكن يهود أورشليم يعترفون بها. وتجاهلا من العهد الجديد رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين، واعتبروها كتبا منحولة. وسار البروتستانط على تعليم لوثر وكالفين، وظل الكاثوليك وابناء الطوائف الشرقية متمسكين بالتعليم التقليدي القديم، وقد صادق عليه المجمع التريدنتيني الذي حدد عدد الأسفار المنزلة في العهد القديم وهي 46 سفرا، وفي العهد الجديد وهي 27 سفرا. والبروتستنط لا يدرجون الأسفار التي لا يؤمنون بأنها منزلة، في كتبهم المقدسة. وإذا ما قاموا بذلك، كما هو الحال في الطبعة المسكونية، أي في الطبعة الموحدة، فانهم يدرجونها في ذيل الكتاب.
137
هل الكتبة الملهمون قسموا كتاباتهم إلى فصول وآيات واعطوها عناوين، كما نراها اليوم، أم آخرون قاموا بذلك ؟
لم يكن للكتاب المقدس عناوين. وقد قام اليهود أولا بتقسيم العهد القديم إلى مواضيع ورقموها بأرقام متسلسلة، لكن تقسيمهم هذا كان معقدا بعض الشىء. ولم تُرضِ طريقتهم هذه علماء الكتاب المقدس المسيحيين.
لانقتون Langton (1165 – 1288 ) أسقف مدينة كانتربري قَسَّم الكتاب بعهديه القديم والجديد إلى فصول يعادل طول كل منها صفحتين من كتاب عادي متوسط الحجم. وقد راعى في ذلك انسجام المواضيع ضمن كل سفر من الأسفار. ورقم تلك الفصول بأرقام متسلسلة. لكن علماء الكتاب المقدس أرادوا مزيدا من السهولة في العثور على الآيات المطلوبة في أبحاثهم وأقوالهم. فقام الأديب الفرنسي روبرت اتيان Robert Estienne (1499-1599) وهو علماني وصاحب إحدى المطابع الباريسية، وبحث عن تقسيم جذري جديد ضمن تقسيمات الفصول التي ابتكرها Langton وسماها الآيات versets ومعنى هذه الكلمة الحرفي في اللاتينية "الإتجاه" وتكاد كل آية منها تشمل جملة واحدة أو جملتين كاملتي المعنى، يتراوح طولها بين سطر واحد وسطرين. وقد رقّم تلك الجمل بأرقام صغيرة متسلسلة منذ بداية الفصل إلى نهايته. وقد تبنى ناشرو الكتاب المقدس أسلوب إتيان منذ ذلك الحين، وسار عليه المسيحيون واليهود.
138
قرأت في أحد كتب التاريخ أن مجمعا عُقد في مدينة تولوز سنة 1229 وأنه منع العلمانيين من قراءة الكتاب المقدس، وأن الكنيسة سنة 1866 ألغت جمعيات الكتاب المقدس القائمة، فهل هذا صحيح؟
بالنسبة للشق الأول من السؤال فهو غير صحيح. الحقيقة التاريخية هي كما يلي:
1 - سنة 1229 عُقد في مدينة تولوز مجمع محلي، وهو لم يكن مجمعا مسكونيا، للبحث في موضوع بدعة الألبيجيين الذين كانوا يقولون بأن جسد الإنسان سيىء وأن الزواج سيىء وأن الزنى حلال، وأن الإنتحار حلال. ولكي يبرروا تعاليمهم، ترجموا الكتاب المقدس إلى اللغة العامية، ووضعوا فيه نصوصا تبرر تعاليمهم. ولذلك فالأساقفة المشاركون في ذاك المجمع منعوا شعبهم في جنوب فرنسا، من قراءة تلك "الترجمة للكتاب المقدس".
2 - اما بالنسبة للشق الثاني فإن عددا من الباباوات قد أدانوا عددا من جمعيات الكتاب المقدس البروتستنطية لأن العديد من المترجمين ترجموا على هواهم، وشرحوا النصوص كما يحبون.
البابا بيوس السابع، قال بأنه لا يجوز أن يشرح الإنسان المسيحي نصوص الكتاب المقدس على هواه. وأشار إلى قول القديس أغسطينوس بأن أصل الهرطقات كلها ينبع من شرح الكتاب المقدس شرحا سيئا ومغرضا. وطلب ما طلبه بولس الرسول من أهل قورنتس: "أناشدكم أيها الإخوة، باسم ربنا يسوع المسيح، أن تكونوا جميعا على وفاق في الرأي وألا يكون بينكم شقاق، بل كونوا على وئام تام، لكم روح واحد، وفكر واحد" (1 كور 1/10).
139
ما هي الكتب المنحولة ؟
الكتب المنحولة كتبها أناس ونسبوها إلى الرسل ونبذتها الكنيسة ولم تعتبرها من الكتب المقدسة، ولم تعترف بها بسبب محتواها الخيالي وأصلها المجهول أو الهرطوقي. فهي بالتالي كتب مزيفة. وهي عموما من أصل يهودي أو مسيحي، وتزيد على الأربعين كتابا منحولا.
الكتب المنحولة هي كتابات دينية نشأت على هامش الكتاب المقدس ولم تُدرَج قط في أي من الجداول القانونية الرسمية عند اليهود ولا عند المسيحيين. لقد اطلق مؤلفو هذه الكتب العنان لخيالهم وادعوا أنها كُتبت بالهام إلهي بينما هي خالية من الإلهام. ظهر بعضها قبل مجىء المسيح، وبعضها في القرون الأولى للمسيحية بصورة مكثفة. وقد قام بتأليفها كُتّاب يهود ومسيحيون، ولكن انتاجها لدى المسيحيين تغلب على إنتاجها لدى اليهود.
من الأسفارالمنحولة قبل المسيح، نذكر: سفر المكابيين الثالث والرابع، وسفر اليوبيل وسفر أخنوخ ... الخ. ومن الأسفار المزيفة بعد المسيح نذكر سفر انتقال موسى النبي، وسفر رؤيا مريم، وسفر إنجيل طفولة يسوع، وسفر أعمال بطرس الرسول، وسفر رسالة برنابا وإنجيله وإنجيل القديس يعقوب ...الخ.
ومن نماذج الروايات الخيالية التي وردت في الكتب المنحولة، نذكر على سبيل المثال أيضا، أن يواكيم وزوجته حنة صاما واختليا في البرية لنيل نسل من الله، فاستجاب لهما الله بولادة مريم العذراء، فقدماها للخدمة في الهيكل. ونذكر من إنجيل طفولة يسوع، النخلة التي تنحني أمام الطفل يسوع وهو جائع، وهو مجتاز مع أبوية في صحراء سينا، وتقدم له من ثمارها، فيقطفها الطفل يسوع ويقتات بها، وأصنام الهيكل الوثني في مصر التي تتساقط على الأرض وتتحطم عند مرور يسوع الصغير أمامها، والطيور الظريفة التي يصنعها يسوع الطفل من الطين، وتطير حالما ينفخ فيها. ونطقه في المهد صبيا.
140
قال لي أحد الاصدقاء ان الكتاب المقدس وحده دون سواه يكفي للخلاص، فهل هذا صحيح؟
ليس صحيحا أن الكتاب المقدس دون سواه يكفي للخلاص. فالكتاب المقدس نفسه لا يقول ذلك. والسيد المسيح لم يقل ذلك. بولس الرسول يقول: "الكتاب كله موحى من الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البر، ليكون رجل الله كاملا معدا لكل عمل صالح" (2 طيم 3/16) وهو لا يقول أن الكتاب المقدس هو المرجع الوحيد للوحي وللخلاص. القول بأن الكتاب المقدس هو وحده الدليل للخلاص الأبدي يخالف الكتاب المقدس الذي نقل الينا أمر السيد المسيح القائل لتلاميذه: " إذهبوا وبشروا"، ولم يقل لهم إذهبوا واكتبوا.
تُعلِّم الكنيسة الكاثوليكية أن الكتاب المقدس هو كلمة الله مدونة بإلهام من الروح القدس، وأن التقليد الرسولي المقدس، هو كلمة الله غير المكتوبة التي القى بها السيد المسيح والروح القدس إلى الرسل، وينقلها بحذافيرها خلفاؤهم. ففي جيل المسيحيين الأول لم يكن هنالك عهد جديد مكتوب، والعهد الجديد نفسه يثبت نهج التقليد الحي. عشرات الألوف من المسيحيين في الأجيال الأولى عاشوا وماتوا من غير أن يروا أبدا العهد الجديد من الكتاب المقدس لأنه لم يكن متوفرا.
أما التقليد الذي نتكلم عنه هنا فهو الذي يصدر عن الرسل، وينقل ما أُلقِي اليهم من تعليم يسوع وما تعلموه منه ولم يكتبوه. فالكنيسة لا تعني بالتقليد التقاليد اللاهوتية والتنظيمية والليتورجية أو التعبدية التي نشأت عبر الأزمان في الكنائس المحلية. (راجع بهذا الشأن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 81-83). فنحن عندما نتكلم عن التقليد في الكنيسة فإنما نعني تلك السنن والتقاليد التي أشار اليها بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي حين قال لهم:
"اثبتوا إذن أيها الإخوة وحافظوا على السنن التي اخذتموها عنا، إما مشافهة وإما مكاتبة."(2 تسا 2/15).
والتي أشار اليها في رسالته إلى طيموطاوس حيث قال:
"إستودع ما سمعته مني بمحضر كثير من الشهود أناسا أمناء جديرين بأن يعلموا غيرهم" (2 طيم 2/2).
ولربما كان صديقك يشير إلى متى 15/3: "لِمَ يخالف تلاميذك سُنَّة (تقاليد) الشيوخ، فلا يغسلون أيديهم قبل الطعام؟" فإذا صح ذلك فإني الفت نظرك إلى أن موضوع الحديث في متى 15/3 يدور حول تقاليد وعادات بشرية يمكن بسهولة تغييرها والاستغناء عنها مع مرور الزمن.
لم يعط السيد المسيح السلطة لكل إنسان أن يشرح كلمة الله في الكتاب المقدس والتقليد الرسولي، بل أسس الكنيسة وبناها على بطرس الرسول والرسل المشاركين معه على وحدة الإيمان، أي على الكنيسة الكاثوليكية وأئتمنهم على كلمته في الكتاب المقدس وفي التقليد الرسولي لكي تكون دليلا أكيدا للناس في سيرهم نحو الخلاص الأبدي. فالكنيسة الكاثوليكية، كنيسة بطرس الرسول هي السلطة الوحيدة المعتمده لتفسير الكتاب المقدس والتقليد الرسولي. وما من سلطة للتفسير سواها.
141
هل الكتاب الذي يُطبع بموافقة المطران ودمغه بعبارة "لا مانع من طبعه" يكون خاليا من أي تعليم ضد الإيمان والأخلاق؟ وهل يجب على مؤلفي الكتب التي تتناول الإيمان والعقائد والأخلاق ان يحصلوا على موافقة المطران لطبعها؟
1 – يجب على رعاة الكنيسة أن يسهروا على سلامة الإيمان والأخلاق، وعلى سلامة المطبوعات الكاثوليكية ووسائل الإتصال، ولذلك يجب أن يُخضِعوا المطبوعات للرقابة لئلا تضر بالإيمان الكاثوليكي والأخلاق الحسنة (مجموعة الحق القانوني 823). وجدير بالذكر أن الموافقة على نشر المؤلفات وإجازتها تصلح للنص الأصلي فقط، ولا تصلح لطباعتها الجديدة ولا لترجماتها (مجموعة الحق القانوني 829). فكل مسيحي كاثوليكي يريد أن يطبع كتابا يتناول العقائد والأخلاق، يجب عليه أن يطلب موافقة الأسقف على الكتاب قبل نشره. كذلك يجب ألا يتم نشر كتب الصلاة لاستعمال المؤمنين العام أو الخاص إلا باذن الرئيس الكنسي المحلي (مجموعة الحق القانوني 826). هذه الإجراءات تطمئن المؤمن الكاثوليكي بأن الكتاب يخلو من كل ما يخالف الإيمان الكاثوليكي وتعاليم الكنيسة. هذا من حيث المبدأ العام، ولكن من حيث الواقع قد يكون هنالك ما يخالف وقد تتدخل السلطة الكنسية العليا كي لا يتسرب التعليم الخاطىء إلى المؤمنين وفي ظنهم ان كل ما جاء في الكتاب يعبر عن تعليم الكنيسة.
2 – لا يجوز نشر الكتاب المقدس إلا بموافقة الكرسي الرسولي أو مؤتمر الاساقفة. أما في ما يتعلق بالكتب الليتورجية، فيعود للكرسي الرسولي أن ينظم الليتورجيا المقدسة للكنيسة الجامعة، وأن ينشر الكتب الليتورجية، وأن يقر ترجماتها إلى اللغات المحلية (مجموعة الحق القانوني 825، 838)
3 – أما كتب التعليم المسيحي والمطبوعات المتعلقة بالتربية الدينية وترجماتها فإنها تحتاج إلى موافقة الرئيس الكنسي المحلي لنشرها. كذلك بدون موافقة السلطة الكنسية المختصة لا يجوز استخدام كتب تعالج مواضيع تتعلق بالكتب المقدسة واللاهوت والحق القانوني وتاريخ الكنيسة والمواد الدينية والأخلاقية في المدارس الإبتدائية والمتوسطة والعليا (مجموعة الحق القانوني 827).
وأخيرا، يجب على المؤمنين أن يمتنعوا عن كتابة أي شيء في الصحف اليومية أو المنشورات أو المجلات الدورية التي اعتادت مهاجمة الدين الكاثوليكي أو الأخلاق الحسنة بصورة سافرة. أما الاكليريكيون وأعضاء المؤسسات الرهبانية، فلا يجوز لهم ذلك إلا باجازة من الرئيس الكنسي المحلي (مجموع الحق القانوني 831).
142
هل الكتاب المقدس يحرم تناول الكحول؟
لا نرى للكحول في الكتاب المقدس تحريما. بولس يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس أن "السكيرين" لا يرثون ملكوت الله (1 كو6/10) ولكنه لا يمنع تناول الكحول. لو ورد في الكتاب المقدس تحريم للكحول، لما حول المسيح الماء إلى خمر، ومن النوع الجيد، في عرس قانا الجليل، ولا الخمر دما من دمه مساء خميس الأسرار. السيد المسيح هو نفسه شرب خمرا وأتهمه أعداؤه أنه شريب للخمر (متى 11/19).
في عدد من المراجع تجد أن الكتاب المقدس يميز بين تناول الخمر وبين الاستكثار منها إلى حد السكر. مثلا: "الخمر مجون والسكر عربدة" (امثال 20/1)."أعط المسكر للهالكين والخمر لأصحاب النفوس المرة فيسكروا وينسوا فقرهم ولا يذكروا شقاءهم " (مثل 31/6-7).
وفي العهد الجديد: "لا تشربوا الخمر لتسكروا، فإنها تدعو إلى الفجور" (أفسس 5/18). وقال بولس لطيموتاوس:"لا تقتصر بعد اليوم على شرب الماء واشرب قليلا من الخمر من اجل معدتك وأمراضك الملازمة" (1 طيم 5/23).
143
كيف كانوا يصنعون الخمر في العهد القديم، وهل كان شرب الخمر ممنوعا في فترة ما من العهد القديم؟ وهل شرب الخمرة حرام؟
1 - إن الآثار التي اُكتشفت في عدد من الأماكن تعطي الدليل على أن معصرة الخمر كانت مؤلفة من حوضين منحوتين عادة في الصخر. وحيث لا يتوفر الصخر كانت الاحواض تحفر في الأرض وتغطى بالقار، أو تصنع من الخشب كما كان الحال في مصر. وكانوا مرارا يضيفون حوضا ثالثا بين الحوضين الأصليين لترسيب فضلات العصير. فكانوا يضعون العنب في الحوض الأول وهو الحوض الكبير وتدوسه الأقدام. وكان العصير يسيل إلى الحوض الثاني بواسطة الأنبوب الذي يصل بينهما. وكان الدائسون عادة يمسكون بحبل مدلى فوق الحوض الكبير كي لا تزل قدمهم وكي لا يقعوا. عند قيامهم برفش العنب بأرجلهم كانوا ينشدون، كما ورد ذلك في سفر إرميا النبي: "الرب من العلاء يزأر، ومن مسكن قدسه يطلق صوته، يزأر زئيرا على مرعاه وكدائسي العنب يجهر بهتاف" (إرميا 25/30). ثم كانوا ينقلون العصير إلى الزقاق حتى تتم المرحلة الأولى من التخمير.
كان التخمير يبدأ فورا في نفس اليوم الذي يعصر فيه العنب. وكانت تظهر رغوة على سطح السائل، وحسب التقليد اليهودي، كان يعتبر خمرا منذ تلك اللحظة. وفي خلال اسبوع عادة تنتهي عملية التخمير، فتنقل الخمر إلى دنان أو إلى زقاق أخرى (مر 2/22) حيث تتم المرحلة الثانية من التخمير. وفي ختام الأربعين يوما كانت الخمر تعتبر خمرا جيدة. وكانوا ينقلونها إلى أوعية جديدة للتخزين، لأن ترك الخمر في دنان التخمير يقلل من جودتها. وكانت الأواني تغلق باحكام وكانوا يقولون أن الخمر المعتقة أطيب من الخمرالجديدة (لو 5/39). وكانوا يعتبرون الخمر معتقة بعد أن يمضى على صنعها سنة او اكثر.
2 – هذا من حيث الصنع. أما من حيث شرب الخمر، فكانت الخمر تُعتَبر في العهد القديم من ضروريات الحياة وتُعتبر سلعة أساسية، وكانت تُقدم في أبسط الوجبات (تك 14/18 ، قضاة 19/19). في الأصل، كانت الخمر تُشرب عادة غير مخففة بالماء، وكانوا مرارا يضيفون اليها انواعا من الأعشاب العطرية التي تقوي مفعولها. وأشار إرميا النبي إلى مزج الخمر بقوله: "ويل للذين هم أبطال في شرب الخمر وذوو بأس في مزج المسكرات" (أشع 5/22). وكانت الخمر الممزوجة بالمر تُعتبر نوعا من المخدرات (مر 15/23). ولكن في العصور اللاحقة من العهد القديم، أخذ اليونان يخففون الخمر بمزجها بقليل من الماء. وقد ورد في سفر المكابيين الثاني: "كما أن شرب الخمر وحدها أو شرب الماء وحده مضر، وإنما تطيب الخمر الممزوجة بالماء" (2 مك 15/40) أصبح شرب الخمر المخفف بالماء أمرا مألوفا بين الناس.
3 - في العهد القديم أقوال كثيرة تنهى الإنسان عن السكر وليس عن شرب الخمر. وعلى سبيل المثال:
أ – نقرأ في سفر الأمثال: "وفي الخمر السخرية، وفي المسكر الجلبة. كل من هام بها فليس بحكيم" (20/1). "لمن الويل؟ ...للذين يدمنون الخمر. لكنها في الآخِر تلسع كالحية، وتنفث سمها كالافعى" (23/29-32).
ب – ونقرأ في سفر أشعيا: "ويل للقائمين في الصباح في طلب المسكرات المتأخرين إلى المساء والخمر تُلهبهم. وفي مآدبهم الكنارة والعود والدف والمزمار والخمر" (/11-12). "وهؤلاء أيضا ضلّوا بالخمر وتاهوا بالمسكر: الكاهن والنبي ضلاّ بالمسكر وغرقا في الخمر، تاها من المسكر وضلّا في الرؤيا وترنحا في اتخاذ القرار" (28/7).
4 – وفي كتب العهد الجديد من الكتاب المقدس، نقرأ ايضا نهيا شديدا عن السكر:
أ – ففي الرسالة إلى أهل كورنتس نقرأ: "بل كتبت اليكم ألا تخالطوا من يُدعى أخا وهو زان أو جشع أو عابد وثن أو شتّام أو سكير أو سرّاق" (1 كو5/11). "أما تعلمون أن الفجار لا يرثون ملكوت الله؟ فلا تضلوا، فإنه لا الفاسقون ولا عباد الأوثان ولا الزناة ولا المخنثون ولا اللوطيون ولا السراقون ولا الجشعون ولا السكيرون ولا الشتامون ولا السالبون يرثون ملكوت الله" (1 كو 6/9-10).
ب – ونقرأ في الرسالة إلى أهل غلاطية: "أما أعمال الجسد فإنها ظاهرة، وهي الزنى ... والحسد والسكر والقصف وما أشبه ذلك"(غلا 5/19-21).
ج – وفي الرسالة إلى أهل أفسس نقرأ: "لا تشربوا الخمر لتسكروا فإنها تدعو الى الفجور" (أف 5/18).
د – وفي رسالة بطرس الأولى: "كفاكم ما قضيتم من الزمن الماضي في العمل بمشيئة الوثنيين، فعشتم في الفجور والشهوات والسكر..." (1 بط 4/3).
هـ - أما في الرسالة إلى طيموتاوس، فيطلب بولس الرسول إليه أن يتناول قليلا من الخمر من أجل معدته وأمراضه الملازمة له (1 طيم 5/23).
144
اليوم نكتب على الورق، ولكن قبل مئات السنين، على ماذا كانوا يكتبون، ولماذا لم تصل الينا الكتب الأصلية؟
الكُتّاب الملهمون كتبوا:
1 - إما على الآجر Argilla أي الطين المطبوخ. وما أسهل ما كان ينكسر من تمريره بين أيدي الناس أجيالا تلو الأجيال. ولذلك كان استخدامه قليلا. وإما على البردي Papyrus. والبردي هو نسيج نباتي. وإما على جلود الحيوانات Pergamenta. وما كُتب على البردي وعلى الجلود، تلف اكثره بسبب الحريق أو التمزق أو التآكل بفعل الزمن، أو الدمار الذي كانت تخلفه الحروب والغزوات.
كان اليهود يكافحون في فلسطين كفاحا مريرا من أجل استقرارهم وبقائهم مما أدى إلى فقدان كتبهم المقدسة وعلى رأسها الأسفار الموسوية لانها كُتبت في تلك الحقبة المضطربة من تاريخهم. إلا أن اليهود استظهروا مضمونها ونسخوا نصوصها فور ظهورها. كذلك في أوقات لاحقة تعرضوا لاعتداءات كثيرة من قبل الفلسطينيين والأشوريين والبابليين واليونانيين والآراميين والرومانيين لاسيما اثناء حرب 68-70 بعد المسيح ودمار الهيكل والمدينة. ومن المعروف أن أعمال النهب والسلب كانت ترافق الحروب.
كذلك تعرض المسيحيون بدورهم إلى شتى الاضطهادات، في الشرق وفي الغرب، خصوصا في القرون الثلاثة الاولى من تاريخهم. وقد فقدوا النصوص الاصلية لكتبهم المقدسة، أي لكتب العهد الجديد، ولكنهم كانوا ينسخونها ويحتفظون بها. وفي فترات تاريخية لاحقة تعرضوا في سوريا وفلسطين للغزو الفارسي سنة 614 الذي دمّر الكنائس والاديار الرهبانية. فلا غرابة أن يشمل ذلك التدمير الكثير الكثير من الكتب المقدسة. وفي القرون الوسطى تعرضوا في الشرق لاضطهاد بعض ملوك الفاطميين وقادة التتر الذين لم يقيموا لتراث غيرهم وزنا.
فالمادة التي دُوّنت عليها الكتب لم تصل إلينا. فقد تلفت أو فُقدت منذ زمن بعيد. أما ما تتضمنه النصوص الملهمة فقد وصل إلينا جميعه كاملا غير منقوص وبألفاظه الأصلية كما صاغه الكُتّاب الملهمون وذلك بفضل استظهار المؤمنين للنصوص وبفضل نسخها وترجمتها إلى لغات أخرى.
2 - وقد اهتم اليهود في استظهار اسفارهم المقدسة استظهارا متقنا منذ أن نزل عليهم سفر التكوين في القرن العاشر قبل الميلاد. وكان ذلك إما بصورة فردية في بيوتهم، وإما بصورة جماعية اثناء تجمعاتهم في المحافل يوم السبت. ونشأت الكنيسة في مجتمع يهودي أولا فكان معظم المسيحيين من أصل يهودي، فلا غرابة إذا حافظوا هم أيضا على عادات آبائهم، فاستنسخوا واستظهروا الكتب التي يتكون منها العهد الجديد.
وأما بالنسبة لنسخ النصوص باعتباره وسيلة ثابتة لنقل كلام الله عبر الأجيال، فقد مهدت عملية الاستظهار لدى الجانبين، اليهودي والمسيحي، السبيل الى عملية النسخ. فكان عند اليهود "الكتبة" الذين كانوا يكتبون ما استظهروه هم انفسهم وغيرهم من المؤمنين. وظهرت أهمية النسخ بصورة ملحوظة ايام تقلبات دولة العبرانيين وسبيهم إلى بابل. وكان المسيحيون ايضا ينسخون الكتب المقدسة، على طريقة أسلافهم اليهود.
3 – وقد ترجمت الكتب المقدسة إلى لغات أخرى عبر القرون خصوصا إلى الاشورية بعد احتلال الاشوريين للسامرة ومملكة إسرائيل سنة 722 قبل الميلاد، وبعد أن احتل البابليون مملكة يهوذا سنة 586 قبل الميلاد، وهجّروا الكثيرين من سكان السامرة واليهودية، خصوصا أصحاب المهن، إلى بلاد الرافدين واقام المجلوون فيها الى سنة 515 قبل الميلاد. فترجمت الكتب المقدسة المعروفة آنذاك إلى الاشورية والبابلية. ثم ترجمت في ما بعد إلى اللغة الارامية التي سادت في سوريا وفلسطين. وكانت في زمن المسيح اللغة التي يتكلمها اليهود. واصبحت آنذاك اللغة العبرية لغة الليتورجيا.
ولما خضعت البلاد لليونانيين نتيجة غزو الإسكندر المقدوني سنة 332 قبل الميلاد بسط اليونانيون نفوذهم الثقافي على أهل البلاد مما أدى إلى انتشار اللغة اليونانية في الشرق الأوسط، فترجمت الكتب المقدسة إلى اللغة اليونانية لفائدة المستوطنين اليهود المتواجدين في مصر وسوريا وآسيا الصغرى ورومة. والجدير بالذكر أن الاسفار المنزلة الجديدة دونت مباشرة باللغة اليونانية. وأما الترجمة إلى اليونانية المعروفة بالترجمة السبعينية Septuaginta فقد تمت بعد ميلاد السيد المسيح بقرنين.
ترجم الكتاب المقدس إلى اللاتينية العلامة، القديس ايرونيموس (340-420). وكان البابا دماسيوس (266-384) قد أمره بترجمتها. فترجم الكتاب المقدس باكمله إلى اللغة اللاتينية وهي الترجمة التي عُرفت بالفولغاتا Vulgata أي "الترجمة الشعبية" وظلت ترجمته معتمدة لدى المسيحيين في الغرب حتى منتصف القرن العشرين وتداولها الرهبان خلال القرون الوسطى في مخطوطاتهم.
كذلك ترجمت أجزاء كثيرة من الكتاب المقدس إلى العربية وقام بالترجمة أساقفة في سوريا والجزيرة العربية وعدد من النساك والرهبان في القرنين الخامس والسادس إلا أنه لم يصل إلينا منها شيء. وبالنسبة لأوروبا، بعدما تعرضت لغزو القبائل التي كانت تعرف بالبرابرة، تمت ترجمة الكتاب المقدس إلى لغاتهم، وبنوع خاص إلى الغوطية Gothica القديمة، لغة القبائل الجرمانية، وإلى لغة الصقالبة Slavonica منذ القرن السادس.
145
كثيرا ما نسمع عن قمران ، فما هي قمران؟ وأين تقع؟ وما هي الآثا ر التي اكتُشفت فيها؟
قمران هو اسم واد في القسم الشمالي الغربي للبحر الميت. على بُعد كيلومتر من شاطىء البحر وعلى جانبي الوادي مغاور اكتُشفت فيها سنة 1947 مخطوطات سُمِّيَت بمخطوطات قمران، أو مخطوطات البحر الميت، على يد راعي من التعامرة، كان يبحث عن عنزة سقطت وسط المغاور، فوجد أول مغارة وفيها لفائف من جلد ملفوفة بكتان وضعت في جرار. ونُقبت المغاور من سنة 1949 حتى سنة 1956 فوجد في المغاور حوالي 600 مخطوطا وهي تسمى اليوم مخطوطات قمران، أو مخطوطات البحر الميت. كُتبت المخطوطات كلها تقريبا في العبرية أو الآرامية. وهذه المخطوطات هي ما بقي من مكتبة الأسينيين. ونعرف من المؤرخين ان الأسينيين كانوا يقيمون في قمران.
بين المخطوطات أكثر من 15 مخطوطا لسفر أشعيا، ومخطوطات نظام الجماعة، ومخطوط لسفر اللاويين، و14 لسفر تثنية الاشتراع، و 14 للمزامير وعشرات الألوف من قطع المخطوطات وفتاتها. وكشفت المخطوطات أمورا كثيرة عن تنظيم الجماعة التي أقامت في قمران بقيادة "معلّم البِر". وهو الذي اجتذب الأسينيين إلى قمران. فكان كاهنا من سلالة هارون. وحوالي سنة المائة قبل المسيح ازدهرت الجماعة. ويشهد على ذلك توسيع الأبنية في ذلك الوقت. كذلك كشفت المخطوطات عن الروح التي تسيطر على هذه الجماعة وعن طقوس التطهير وتنظيم وجبات الطعام والإحتفال بالسبت والأزمنة المقدسة. ومعظم هذه المخطوطات محفوظ اليوم في مبنى خاص، اسمه: "معبد الكتاب" في القدس الجديدة.
أما الآثار الموجودة فهي تدل على أن المكان كان مأهولا في القرن الثاني قبل المسيح. ثم هُجر المكان، ربما بسبب زلزال أصاب المنطقة، ثم عاد الناس اليه في مطلع القرن الأول الميلادي وجاء الرومان ودمروه سنة 68. وخبأت الجماعة مخطوطاتها في المغاور خوفا عليها من التلف ومن الغزاة. اكتشاف المخطوطات مهم جدا من أجل معرفة نص التوراة والتعرف إلى الأوساط اليهودية.
تبين الآثار كثرة القنوات والآبار والأجران لطقوس التطهير. كما تم أيضا اكتشاف قاعة النساخ، وقاعة الطعام ومطبخ وفرن ومقبرة. واكتشف على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب أبنية استعملت مخازن وجدرانا.
146
ما هي الوثائق التي عُثِرَ عليها في قمران، قرب البحر الميت؟ ومن هم الأسينيون؟
الوثائق التي عُثر عليها في قمران قرب البحر الميت هي مجموعة كُتب معظمها باللغة العبرية بعضها يعود إلى القرن الأول قبل المسيح وبعضها إلى القرن الأول بعد المسيح. وهذه الوثائق تحتوي على أجزاء من كتب العهد القديم وعلى سفر أشعيا النبي كاملا، وكتبا تتحدث عن الأسينيين، وهم شيعة يهودية عاشوا في تلك المنطقة منذ القرن الثاني قبل الميلاد وحتى سنة 68 بعد المسيح. عدد من علماء الكتاب المقدس لا يزالون منخرطين في دراسة تلك الوثائق.
الكتب المقدسة لم تذكر الأسينيين إلا أن مؤرخين قدماء جاؤوا على ذكرهم مثل المؤرخ يوسيفوس (من سنة 37 وحتى سنة 100 بعد المسيح) الذي قال إنهم كانوا حوالي 4000 في النصف الثاني من القرن الأول. ولا يوجد أي برهان على أن يسوع كان على علاقة بشيعة الاسينيين.
الأسينيون، وهم "الأتقياء" كانوا مجموعة من اليهود يعيشون حياة جماعية منظمة ومحافظة على شريعة موسى. وكانوا دقيقين جدا في المحافظة على طقوس التطهير ويقاطعون طقوس الهيكل ويتفرغون للعمل والصلاة . وكان القبول في عدادهم يسبقه سنة اختبار وسنتان ابتداء. وهم لا يتزوجون ولكنهم لا ينكرون الزواج، وكانوا يتبنون أطفالا يربونهم على نمط حياتهم. وكان لهم خرافات وأساطير كثيرة.
147
هل تأثرت المسيحية الأولى بالأسينية القمرانية؟
لم يأت العهد الجديد على ذكر الأسينيين. وقد حاول البعض أن يربطوا بين حياة المسيحيين الأولين والأسينيين. إلا أن الإختلافات بينهم جوهرية، نذكر منها:
1 – إن الحركة الأسينية تشدد على طقوس الطهارة الشرعية والتمسك بحرف الشريعة، أما الإنجيل فهو يقاوم ذلك.
2 – الأسينيون يحصرون الخلاص في جماعاتهم دون سواهم. وتتكلم كتبهم عن معركة أبناء النور، أي معركتهم وعلى رأسهم "معلم البِرّ"، أي رئيسهم، مع أبناء الظلام، وعن بغض شديد للخطأة والكفار، بينما المسيحية دعوة إلى الخطأة وإلى جميع الشعوب (الكفار) كي يتوبوا ويدخلوا الملكوت. المسيحية تأمر بمحبة الأعداء والصفح وتنادي بسر الخلاص لكل الناس بينما الأسينيون ينادون بمحبة القريب، والقريب عندهم ابن ملتهم، وينادون بالجهاد ضد الذين ليسوا من ملتهم. ويذكر سفر أعمال الرسل أن كلمة الرب كانت تنمو وعدد التلاميذ يزداد كثيرا في أورشليم وأن كثيرا من الكهنة أخذوا يستجيبون للإيمان (رسل 6/7) وأن الإيمان المسيحي انتشر بين الشعوب الوثنية، بخلاف الأسينيين المنغلقين على أنفسهم.
3 – عاشت الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم حياة مشتركة، ولكن الفرق شاسع بين حياتهم الجماعية وحياة الأسينيين الجماعية. فليس من وصية خاصة من الرب للحياة المشتركة. فالمسيح لم يفرضها على المؤمنين. سفر أعمال الرسل يقول أن المسيحيين الأولين كانوا يتمتعون بالحرية الكاملة للتصرف بأملاكهم (رسل 5/4) بخلاف الأسينيين.
4- لا شك في أن بولس الرسول وغيره من الرسل، مثل الكثيرين من اليهود وغير اليهود، كانوا مطلعين على الأسينيين وعلى تعاليمهم. وبعدما أخذ الرسل ينشرون الإيمان بالمسيح فاديا ومخلصا بالآمه وموته وقيامته، لا بُدّ أن عددا من الأسينيين استجاب للإيمان بالمسيح.
2 – العهد القديم
148
هل قصة آدم وحواء وخلق الكون قصة رمزية أم حقيقية؟ هذا السؤال كثيرا ما يُطرح علينا ويسبب لنا حرجا كبيرا لاننا لا نعرف ان نعطي الجواب المقنع، فما رأيك؟
وأنا أسألك سؤالا: لو كنت أنت الكاتب الملهم الذي يطلب منك الله أن تقول للناس أن الله هو خالق الكون وخالق الإنسان، ألَا تستعين بما لديك اليوم من صور علمية مأخوذة من علوم الفيزيا والذَّرّة والكومبيوتر لكي تجسد كلمة الله في عصرك وتُعبّر للناس عن هذه الحقيقة التي يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة وكثيرة؟ أما كنت تستعين بمعارف زمانك لتوصل الى الناس كلمة الخلاص؟ فالكاتب الملهم روى لنا قصة الخلق وتنظيم العالم مستعينا بمعارف أهل زمانه. فهو لم يكن رجل بحث علمي بل ناقلا لكلام الله. فالله يوصل كلمته إلى الناس عبر حياتهم الإجتماعية والثقافية والأدبية.
ولذلك يجب علينا أن نقرأ قصة الخلق فنميز بين الحقائق الدينية التي ينقلها إلينا الكاتب الملهم، وبين الكلمات والصور والتعابير التي لجأ إليها ليوصل إلينا هذه الحقائق. فلا نبحث اذا في قصة الخلق عن تعليم يتعلق بكيفية خلق الكون وعن الزمن الذي استغرق هذا الخلق. يكفينا أن نعرف الحقائق التي أراد الكاتب أن ينقلها الينا، ألا وهي: أن الله خلق كل موجود وأنه خلق الرجل والمرأة على صورته ومثاله ليعيشا بصداقته، فسلطهما على المادة والنبات والحيوان وزينهما بالعقل والإرادة. ولقد استعان الكاتب الملهم بلغة عصره ليعبر بكلماته عن وحي الله. ولا عجب في ذلك لأن كلمة الله تتجسد في الزمان والمكان.
ويقول علماء الكتاب المقدس أن رواية الخلق (تكو 2/4 – 25 ، 3/1-24) بحسب التقليد أليهوهيّ كان يتناقلها الناس من جيل إلى جيل، وأنها كتبت في عهد سليمان الملك. وأما رواية الخلق بحسب التقليد الكهنوتي (تكو 1/1-32، 2/1-3) فقد كُتبت بعد الجلاء، فاستعانت كل من الروايتين بلغة العصر الذي كتبت فيه.
149
إلى أي شيء ترمز "شجرة الخير والشر" التي ذُكِرت في سفر التكوين 2/17؟
خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وأقامه في صداقته. ولا يستطيع الإنسان أن يعيش هذه الصداقة إلا عن طريق الخضوع الحر لله. وهذا ما يعبر عنه منع الإنسان من أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر: "فإنك يوم تأكل منها تموت موتا" (تكو 2/17). "شجرة الخير والشر" ترمز إلى الحد الذي لا يمكن تجاوزه والذي يجب على الإنسان، أن يعترف به اختياريا وأن يقف عنده بثقة. فالإنسان مرتبط بالخالق، وعليه أن يخضع لنواميس الخليقة وللنظم الأخلاقية التي تنظم استعمال الحرية (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 396)
150
في العهد القديم كان شرب الدم ممنوعا (تكوين 9/4 ، تثنية الإشتراع 12/16 واعمال الرسل 15/20) بينما المسيح يقول هذا هو دمي ...خذوا اشربوا"؟
إن شرب الدم الممنوع في تكوين 9/4 وتثنية الاشتراع 12/16 وأعمال الرسل 15/20 هو دم الحيوانات. الدم، بالنسبة لليهودي هو الحياة، فإذا ما أريق الدم انتهت الحياة. لذلك لا يأكل اليهودي إلّا اللحم المذبوح بعد تصفية دمه لأن الدم هو الحياة والحياة هي ملك لله ولا تؤكل.
المسيح لا يأمرنا بما كان ممنوعا في الكتاب المقدس أي لا يأمرنا بشرب دم الحيوانات. فلا يجوز خلط الامور. المسيح هو حياتنا وهو يعطينا ذاته مأكلا ومشربا حقيقيا لكي تحيا نفوسنا كما ورد في إنجيل يوحنا 6/53-57. فَكّر اليهود أنه سيعيطهم جسده الذي يرونه ودمه الجاري في عروقه. وأما السيد المسيح فأكد لهم مرة أخرى أنه يعطيهم جسده ودمه مأكلا ومشربا ولم يبيّن لهم الكيفية. وفي والعشاء الأخير حقق ما وعد به، وبيّن لتلاميذه الكيفية، بتقديس الخبز قائلا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي" وبتقديس الكأس: "خذوا فاشربوا هذه هي كأس دمي". فهو موجود حقيقة وجوهرا في الخبز والخمر وجود الجوهر في الأشياء. وهكذا أصبح يسوع مأكلا ومشربا حقيقيا لكل المؤمنين على مدى القرون والأجيال.
وفي الرسالة الأولى إلى أهل كورنتس (11/25) بولس الرسول يقول:
"كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يأتي". فمن أكل خبز الرب أو شرب كأسه ولم يكن أهلا لهما فقد تجنّى على جسد الرب ودمه".
151
نقرأ في كتب العهد القديم أسماء شعوب كثيرة مثل الكنعانيين والفلسطينيين والفينيقيين وغيرهم، فهل لك أن توضح لي من هم ؟
من الواضح في الكتاب المقدس أن تاريخ الشعب اليهودي تشابك مع تاريخ شعوب كثيرة من سكان فلسطين والدول المجاورة. وذكر الكتاب المقدس عددا منهم:
1 – السومريون والأكّاديون والأشوريون والبابليون: وهم سكان بلاد الرافدين. وكان القسم الشمالي من البلاد يسمى أشور والقسم الجنوبي بابل. قطن الأشوريون في الشمال والبابليون في الجنوب. وكان للبابليين في القرن 18 قبل الميلاد السيطرة المطلقة على البلاد كلها. ولكنهم خضعوا للأشوريين في القرن الثامن قبل الميلاد ثم استعادوا نفوذهم سنة 605 قبل الميلاد. ويعتقد بعض المؤرخين أن البابليين هم أصلا من الجزيرة العربية. ومنهم خرج ابراهيم أبو الشعب العبراني. وتم سبي اليهود من فلسطين إلى بلاد الرافدين مرتين: سبي أهل السامرة ومملكة إسرائيل في القرن الثامن قبل الميلاد، وسُبي سكان مملكة يهوذا في القرن السادس قبل الميلاد.
2 – الكنعانيون: وكانوا سكان المنطقة الجبلية في فلسطين الممتدة من الخليل إلى جبال الكرمل . وفي رأي البعض كان يمتد وجودهم إلى جنوب لبنان أيضا. وقد سكن الكنعانيون هذه البلاد في القرن 16 قبل الميلاد إلى أن احتلها اليهود. الإعتقاد السائد هو أن الشعب الكنعاني كان قد نزح إلى فلسطين الحالية من جزيرة كريت، ولكن بعض المؤرخين يرون أنهم جاؤوا من مصر.
3 – الفلسطينيون: وقد سكنوا الجزء الممتد من جنوب غزة إلى شمال يافا، على وجه التقريب، ومن البحر المتوسط غربا الى جبال كنعان شرقا. وقَدِم الفلسطينيون من الجزر اليونانية الجنوبية بعد أن رحلوا إليها من بوهيميا كما يعتقد بعض المؤرخين. وكثرت الحروب بينهم وبين العبرانيين، في عهد القضاة والملوك. وقد أطلق الرومان اسم "فلسطين" على بلاد اليهود كلها أي اليهودية والسامرة والجليل.
4 – الفينيقيون: سكنوا الشريط الضيق من الأرض على ساحل البحر الأبيض المتوسط الممتد من شمال لبنان الحالي إلى جبل الكرمل. موطنهم الأصلي جزيرة كريت. اشتهروا في الملاحة والتجارة. وسادت بينهم وبين اليهود علاقات طيبة خصوصا في عهد الملك سليمان (965 -922) قبل المسيح.
5 – الأدوميون: وهم نسل عيسو سكان جنوبي الأردن. اللغة الأدومية شبيهة باللغة العبرية. واشتهرت أدوم بحكمائها (ار 49/7). في القرن الخامس قبل الميلاد طرد الأنباط الأدوميين من جبل سعير. وفي القرن الثاني قبل المسيح أرغم يوحنا هركانوس الأدوميين على الاختتان وأدخلهم في جماعة اليهود. وقد كان هيرودس أدوميا.
6 – المؤابيون: وهم من نسل لوط. سكنوا القسم الشرقي من البحر الميت. وكانت البلاد قبلا للإيميين (تث 2/10). وكانت راعوت موابية. وقد اكتشف النصب الشهير في بلدة ذيبان سنة 1868 وهو حجر أسود من البازلت وفيه 34 سطرا من الكتابة المؤابية وهي قريبة جدا من الكتابة العبرية والفينيقية. وتعدد الكتابة انتصارات ميشع ابن كموش ملك موآب على الإسرائيليين.
7 - بنو عمون: وهم من نسل لوط أيضا أقاموا على مجرى الجابوق (سيل الزرقاء) والجبال المجاورة حتى مشارف السلط وحسبان جنوبا. وينبع الجابوق من عمان ويسير شرقا ثم شمالا مرورا بالزرقاء التي سميت باسمه ويصب في نهر الأردن. وما كان لبني إسرائيل أي مطمع عند بني عمون.
8 - الآراميّون امتدت ممالك الأراميين شمالي الأردن وفي سوريا. استقر سبط منسى في شمال الأردن. وكان لإسرائيل حروب كثيرة مع الأراميين ذكر العهد القديم عددا منها. وكان نفوذ الآراميين التجاري كبيرا جدا واصبحت لغتهم اللغة الدبلوماسية المعتمدة لممالك وشعوب الشرق الاوسط. وفي عهد السيد المسيح كان الإسرائيليون يتكلمون الآرامية، بينما اقتصرت اللغة العبرية على الليتورجيا والكتاب المقدس.
9 - الفرس وقد قضوا على البابليين في أواخر القرن السادس قبل الميلاد وأذنوا لليهود المسبيين الى ما بين النهرين بالعودة الى بلادهم.
10 – الأنباط وهم الشعب العربي المجاور لليهود من الناحية الجنوبية الشرقية. وقد أنشأوا دولتهم منذ القرن السادس قبل المبلاد . يرد ذكرهم في سفر اعمال الرسل عندما حاول ملك الانباط الحارث الرابع إلقاء القبض على بولس الرسول في دمشق حوالي سنة 35 بعد المسيح (2 كو 11/ 32-33)
11 – اليونان وهم من أصل هندي - ايراني. وقد برز منهم اسكندر المكدوني (356-323 قبل الميلاد) أخضع لسلطانه معظم شعوب الشرق بما فيهم العبرانيين وواصل فتوحاته حتى الهند. وقد برز اليونانيون من بين الشعوب القديمة بثقافتهم المرموقة. وتغلغل نفوذهم الفكري في الدولة الرومانية، وأصبح للغتهم مكان الصدارة بين جميع لغات الشرق المتداولة يومئذ.
12 – الرومان هم أيضا من أصل هندي- ايراني. بدأ تاريخهم في روما ثم توسعوا وضموا ايطاليا كلها وحوض البحر المتوسط بكامله. وقد برعوا في الحرب وأظهروا عبقرية متفوقة أيضا في مجال العلوم والأدب والعمران وفتح الطرق وفي سياسة الشعوب الخاضعة لهم. وربطوا البلاد الخاضعة لهم بشبكة طرق، وخدمة بريد فريدة من نوعها. حكم الرومان بلاد اليهودية والسامرة من سنة 63 قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي. واعتبارا من نهاية القرن الرابع أصبح الرومانيون في الشرق يُعرفون عند العرب بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة (القسطنطينية)، أو بالروم نسبة إلى روما. وتم في عهد الرومان انتشار الدين المسيحي في اقطار عديدة من الشرق. وقد رزح الشعب اليهودي تحت حكم الرومان حتى سنة 135 للميلاد، ومنذ ذلك الحين تشتتوا في أنحاء العالم ولم يبق منهم في فلسطين سوى النزر القليل.
152
هل كان لكل الشعوب المذكورة في أسفارالعهد القديم لغتهم الخاصة، أم كان الأساس لغة واحدة تحولت الى لهجات مختلفة؟
تنبع اللغات التي كانت سائدة في الشرق الأوسط، في العهد القديم، من لغة أصلية واحدة، وهي اللغة التي تُنسب إلى سام الوارد ذكره في الكتاب المقدس (تك 10/1) وبناء عليه سميت مجموعة اللغات الشرقية باللغات السامية. وأول من أطلق عليها هذا الإسم هو الباحث الألماني Schloezer سنة 1781.
جميع اللغات السامية تعاقبت بشكل أو بآخر ضمن إطار جغرافي وزمني امتد بين القرنين الثلاثين والخامس قبل الميلاد. أما الأسفار المقدسة فقد كُتبت أصلا بالعبرية، وبعضها بالآرامية واليونانية.
وأما أهم اللغات القديمة في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى العبرية، فكانت: الأكّادية والسومرية والبابلية والأشورية والكنعانية والعبرية القديمة والآرامية والفينيقية والعربية. ثم دخلت أيضا اللغة اليونانية مع فتوحات الاسكندر الكبير، واللاتينية بعد احتلال الرومان للبلاد.
153
من هوملكيصادق وما هي علاقته بالمسيح؟
أشرح لك ذلك كما يلي:
إن أهم ما يلفت نظرنا للتأمل فهو ذبيحة ملكيصادق، وذبيحة ابراهيم في الفصل الثاني والعشرين من سفر التكوين. فملكيصادق هو أول كاهن يذكره الكتاب المقدس. ويعتبره الكثيرون من مفسري الكتاب المقدس صورة ورمزا للمسيح (عبر 7/1-17). كان ملكيصادق كاهنا وملكا على مدينة شليم التي أصبحت فيما بعد أورشليم، مدينة السلام (مز 76/2). وجاء يسوع ملكا على أورشليم السماوية، وملكا للسلام. ولم يقدم ملكيصادق ذبيحة من الحيوانات، بل قدم خبزا وخمرا. وكذلك يسوع في العشاء الأخير الفصحي قدم خبزا وخمرا. وانتهت تقدمة ملكيصادق بمباركة ابراهيم. وانتهت تقدمة المسيح بمباركة الناس ودعوتهم إلى الخلاص
وبعد ذلك بسنين، طلب الله من ابراهيم قائلا: "خذ ابنك اسحق الذي تحبه واذهب إلى جبل الموريا وقدمه ذبيحة لي". ويعتقد الكثيرون أن الموريا هو المكان الذي بني عليه الهيكل في أورشليم الحالية وعندما سأل اسحق اباه: أين الذبيحة؟ قال له ابراهيم: إن الرب يرى له ذبيحة يا بني. وعندما رفع ابراهيم يده ليذبح ابنه أمسك الملاك يده".
ويعتبر المسيحيون قصة ابراهيم هذه رمزا لذبيحة يسوع على الصليب. فالتشابه بينهما كبير فيسوع، مثل إسحق الذي حمل الحطب هو الابن الوحيد لوالد محب وعلى مثال اسحق، يسوع حمل الصليب لكي يقدم ذاته عليه ذبيحة على جبل الجلجلة. والجلجلة تلة أو جبل من جبال الموريا والصفحات الأولى من العهد الجديد تبين أن يسوع، مثل اسحق، هو ابن لابراهيم (متى 1 /1).
ويفهم القاريء المسيحي، أن جواب إبراهيم لابنه إسحق يحتوي على نبوءة، إذ يمكن ترجمة النص كما يلي: "الرب سيقدم ذاته ذبيحة محرقة" حمل ذبيحة العهد الجديد هو يسوع، كلمة الله المتأنس، وبيسوع حصلت الشعوب كلها على البركة (غلا 3/41، تك 22/16-18). إن مدينة أورشليم هي عاصمة الذبيحة. وقد بُنِي هيكلها حوالي سنة 960 ق.م. وكان يُقَرَّب فيه يوميا ذبيحتان لله بطريقة رسمية واحتفالية كفارة عن خطايا الشعب: ذبيحة الصباح وذبيحة المساء. وكان الشعب أيضا يقدم يوميا ذبائح كثيرة ومتنوعة.
وجدير بالذكر أن السيد المسيح التزم بالفصح. كان يحتفل بالفصح في كل سنة في أورشليم ويأكل الفصح في بيته مع أهله وذويه قبل أن ياكله مع تلاميذه مساء خميس الأسرار. لم يكن أكل الفصح أمرا اختياريا بل إلزاميا لكل يهودي تقي يمارس ايمانه. كان يسوع يهوديا تقيا ممارسا لشعائر العبادة لله. إلا أنه للفصح وللحمل الفصحي معنى خاصا عند السيد المسيح لأنه هو "الحمل" الذي يحمل خطايا العالم. ويذكر المؤرخ يوسيفوس أنه في عيد الفصح سنة 70 للميلاد، قدم ربع مليون حملا ذبيحة فصحية . إلا أن الله لم يكن يكتفي بهذه الذبائح بل طالب على لسان الأنبياء بالذبيحة الداخلية "الذبيحة لله قلب منكسر " (مز 51/17) وقال على لسان هوشع النبي "أريد رحمة لا ذبيحة …" (هو 6/6).
154
كانت عمان عاصمة بني عمون الذين يذكرهم الكتاب المقدس، فهل لك أن تفيدني من هم بنو عمون؟
العمونيون هم من نسل لوط، أقاموا في القرن الثاني عشر في أرض البلقاء الخصبة قرب مجرى وادي الجابوق (وادي الزرقاء) والجبال المجاورة، بعد أن تغلبوا على سكان البلاد الأصليين، وكان لهم سلالة ملكية. وكانت مملكة بني عمون منطقة مرور ومركز تجارة تمر فيها القوافل. مما جعل من العاصمة عمون مدينة غنية. ومن بقايا العمونيين في جبل عمان برج الملفوف
وكانت حروب كثيرة بين العمونيين والإسرائيليين في أيام القضاة (قضاة 3/13، 10/6-9) وتغلب عليهم يفتاح. كما لهم حروب مع شاول (1 صموئيل 11/1-11 ومع داود، ودفعوا الجزية لعزريا (2 اخ 26/8 ويوتام (2 اخ 27/5) ثم خضع العمونيون لأشور ثم لبابل، وبعدها صاروا مثل اليهودية، مقاطعة في المملكة الفارسية. ويذكر سفر المكابيين الأول 5/1-7 أنهم تحالفوا مع السامريين إلا أن يهوذا المكابي قهرهم. وفي سنة 64 اصبحت عمون تحت سلطة الرومان الذين ضموا العاصمة إلى مجموعة الديكابوليس أي المدن العشر.
أما الإله الوطني لبني عمون فهو ملكوم (مولخ) الذي بنى له سليمان مذبحا (1مل 11/7). وكان العمونيون يذبحون له الاولاد.
وأما عاصمتهم فهي ربة عمون ثم تغير اسمها إلى فيلادلفيا إكراما لبطليموس الثاني فيلادلفوس (282-246 قبل المسيح) ثم استعادت اسم عمون، واليوم هي عمان.
155
هل يمكن أن نقارن بين المذابح في العهد القديم ومذابحنا أي هياكلنا التي تقام عليها ذبيحة القداس؟ فما هي قيمة الذبيحة في العهدين: القديم والجديد؟
1 – في العهد القديم كان المذبح العنصر الجوهري في المعبد. والمذبح هو اسم مكان من "ذبح". أساسا على المذبح كانت تُذبح الحيوانات المقدمة للرب ولكن في ما بعد أخذوا يذبحون الحيوانات بعيدا، ثم يؤتى بها على المذبح الذي كانوا يضعون عليه ما يقدمونه من غير الحيوانات المذبوحة.
في برية سيناء كان مذبح المحرقات أمام مدخل المسكن (خر 40/6) ومذبح البخور في المسكن أمام الحجاب الذي يفصل القسم الخلفي حيث كان تابوت العهد عن القسم الأمامي (خر 30/6 ، 40/5، 26).
أما قيمة المذبح، فهي قيمة دينية. فكان يُعتبر المذبح مائدة الرب (خر 44/16، ملا 1/7، 12)، والهيكل بيت الله ومركز العبادة، والمذبح قلب الهيكل. من أجل هذا يوضع السراج في قلب الهيكل (خر 27/20-21) ليدل على حضور الله، وتوقد على المذبح نار دائمة لتدل على عهد الله الذي لا يتغير ( 2 مل 18-36). وعلى المذبح توضع تقدمات البشر استرضاء لله ولطلب بركاته وخيراته. عندما يذكر المؤمن اسم الرب على هيكله يجيء الرب ويباركه (خر 20/24).
وفي زمن المسيح كان الشعب اليهودي يعطي قيمة كبرى لما يُقدم على الهيكل من ذبائح، وأهملوا قيمة الهيكل الروحية وقدسيته. وقد أعاد السيد المسيح للمذبح قدسيته حين قال: "تقولون من حلف بالمذبح لا يلتزم بيمينه، ولكن من حلف بالقربان الذي على المذبح، يلتزم بيمينه. فما هو الأعظم أيها الجهال العميان؟ القربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟" (متى 23/18). ونبّه تلاميذه إلى أهمية مصالحة الإخوة قبل المجيء إلى المذبح وتقدمة القربان (متى 5/23-24). وانتهت الذبائح عند اليهود بدمار الهيكل سنة 70 ميلادي.
2 – بين العهد القديم والعهد الجديد استمرارية وتجاوز. فالإستمرارية واضحة في جعل تعابير العهد القديم الذبائحية تطبق على موت المسيح. والتجاوز واضح إذ أن تقدمة يسوع تختلف اختلافا جذريا عن كل التقادم التي سبقته. بذبيحة يسوع يدخل عنصر جديد ما كان أحد من البشر يتصوره، لو لم يتم في سر التجسد والفداء، وهو أن الابن أخذ صورة عبد وأطاع حتى الموت موت الصليب (فل 2/7-8). يسوع قدم نفسه ذبيحة عنا. ففي اطار العشاء السري ربط يسوع بين موته (متى 26/2) وذبيحة الحمل الفصحي. يسوع صار فصحنا (1 كو 5/7) فهو الحمل المذبوح (1 بط 1/19) الذي دشن بدمه العهد الجديد (1 كو 11/22) وحقق التكفير عن الخطايا (رو 3/24) والمصالحة بين الله والبشر (2 كو 5/19). فالمسيح أسلم نفسه إلى الموت حبا للبشر وهكذا يكشف لنا الصليب طبيعة الذبيحة الطيبة الرائحة (اف 5/2) ذلك أن ذبيحة يسوع هي فعل حب للاب وللبشر. فنحن نشارك في جسد المسيح ودمه (1 كو 10/16) لتكون لنا الحياة الأبدية (يو 6/53) وهذه المشاركة تدل على اتحادنا بالرب وتجعل المؤمنين جسدا واحدا.
3 - في العهد الجديد، المذبح هو العنصر الجوهري في المعبد أي في الكنيسة. والمذبح مقدس، وعليه تقام ذبيحة القداس أي ذبيحة يسوع على الصليب التي هي وحدها ذبيحة العهد الجديد. نحن نؤمن بأن يسوع هو الكاهن وهو المذبح، وما المذابح في كنائسنا سوى الرمز للمسيح. ومن اتحد بجسد ربنا ودمه، اتحد بالمذبح وشارك في مائدة الرب (1 كو 10/16-21). ويذكر سفر الرؤيا (6/9) المذبح السماوي الذي رأى تحته نفوس المذبوحين في سبيل كلمة الله، ومذبح الذهب الذي يتصاعد منه دخان البخور مع صلوات القديسين (رؤ 8/3). هذا هو المذبح الوحيد للذبيحة الوحيدة التي يرضى بها الله، لأن يسوع بقربان واحد جعل الذين قدسهم كاملين إلى الأبد (عبر 10/9).
156
هل تستطيع أن تقول لي ماذا حدث لِلَوحَي الوصايا العشرة أي لِلَوحي الشهادة، وأين هما الان؟
نعود إلى أسفار العهد القديم حيث نجد الإجابة على السؤال:
1 – سفر الخروج يخبرنا أن موسى عندما نزل من الجبل، كان لوحا الشهادة في يده، مكتوب على وجهيهما، من هنا ومن هناك. واللوحان هما من صنع الله والكتابة هي كتابة الله منقوشة على اللوحين" (خر 32/15). ولما اقترب من المخيم رأى العجل والرقص، فاضطرم غضب موسى فرمى باللوحين من يديه وحطمهما في أسفل الجبل" (خر 32/19).
2 – الفصل التاسع من سفر تثنية الإشتراع بعدما ذكر موسى لماذا حطم لوحَي الشهادة، أضاف في الفصل العاشر قائلا:
"قال لي الرب انحت لك لوحين من حجر كالأولين، واصعد إلى الجبل، واصنع لك تابوتا من خشب، فاكتب على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما، وضعهما في التابوت. فصنعت تابوتا من خشب السنط، ونحتُّ لوحين من حجر كالأولين وصعدت الجبل واللوحان في يدي. فكتب عليهما كالكتابة الأولى، الكلمات العشر التي كلمكم الرب بها في الجبل...ووضعت اللوحين في التابوت الذي صنعته، فكانا هناك كما أمرني الرب" (تث 10/1-5)
3 – وبقي لوحا الشهادة في تابوت العهد. ويخبرنا سفر الملوك الأول أن الملك سليمان بعدما بنى الهيكل، أصعد تابوت عهد الرب من مدينة داود وخيمة الموعد وكل أمتعة القدس التي في الخيمة، " ... أدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت، في قدس الاقداس ... ولم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما فيه موسى في حوريب" (1 مل 8/1-9).
4 – بقي التابوت في الهيكل حتى تدمير المدينة المقدسة على يد نبوخذنصّر ملك بابل سنة 587 قبل المسيح. وماذا كان مصير التابوت ولوحي الشهادة؟ الفصل الثاني من سفر المكابيين الثاني نقل إلينا تقليدا يقول:
"جاء في السجلات أن إرميا النبي أمر أهل الجلاء ... أن لا ينسوا وصايا الرب... وجاء في هذه الكتابة أن النبي، بمقتضى وحي صار اليه، أمر أن يُذهب معه بالخيمة والتابوت، عندما خرج إلى الجبل الذي صعد إليه موسى ورأى ميراث الله. ولما وصل إرميا، وجد مسكنا بشكل مغارة، فأدخل إليه الخيمة والتابوت ومذبح البخور، ثم سد الباب. فأقبل في وقت لاحق بعض من كانوا معه ليضعوا علامة في الطريق. فلم يستطيعوا أن يجدوه. فلما علم بذلك إرميا لامهم وقال: " إن هذا المكان سيبقى مجهولا، إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم ... " (2 مك 2/1-8).
157
يظهر الله في سفر تثنية الإشتراع إلها يلعن ويبيد، وفي سفر يشوع (6/17-21) إلها يأمر بالقتل والتدمير. ماذا تقول لنا بهذا الشأن؟
1 - لا ننسى أننا في الشرق وأن كُتّاب العهد القديم كانوا ساميين. كانوا يرون الأمور بحسب العقلية السامية أي أنهم كانوا يرون الله في كل شيء، ويرون كل شيء في ضوء الله، كما هي الحال اليوم لدى الكثيرين الذين يرون الله في كل حدث سواء كان صالحا أم طالحا. فالكُتّاب في العهد القديم نهجوا طرقا كتابية معروفة في زمانهم وحضارتهم. فالكاتب عندما يقول إن الله يلعن ويغضب إنما يعكس عقلية شعبه الذي يتصور أن الله يلعن ويغضب ويبيد. كذلك جميع الشعوب الوثنية، في العهد القديم، كانت بهذه العقلية وهذا التفكير، أي أنها كانت تنسب كل شيء إلى آلهتهم، ويكفي بهذا الشأن أن تطلع على ما كتبه الملك ميشع على النصب التذكاري الذي عُثر عليه في بلدة ذيبان الواقعة جنوبي الأردن.
2 - نحن نؤمن بالكتاب المقدس كاملا: "الكتاب كله من وحي الله يفيد في التعليم والتفنيد والتقدير والتأديب في البر، ليكون رجل الله كاملا معدا لكل عمل صالح" (2 طيم 3/16-17).
أما قولك بأن الله يظهر في سفر تثنية الإشتراع إلها يلعن الخطأة وأنه يبيد كل حي، فلكي تضعه في إطاره الصحيح، إقرأ معه الفصل الرابع من سفر تثنية الإشتراع حيث موسى يقول: "كلكم أحياء اليوم علمتكم سننا واحكاما، كما أمرني الرب إلهي لتعملوا بها ... علموها لبنيكم وبني بنيكم ... إحفظوا سننه ووصاياه التي أنا آمركم بها اليوم لتنالوا خيرا أنتم وبنوكم من بعدكم ولتطول أيامكم على الأرض..." فالله يطالب شعبه بحفظ وصاياه".
كذلك اقرأ في الفصل 30: "انطروا ها انا اليوم جعلت بين أيديكم الحياة والخير، والموت والشر. فإذا سمعتم كلام الرب الهكم الذي أنا آمركم به اليوم وسلكتم في طرقه وعملتم بوصاياه وسننه وأحكامه فانتم تحيون وتكثرون وتنالون بركة الرب إلهكم في الأرض التي انتم داخلون اليها لتمتلكوها. وإن زاغت قلوبكم عني ولم تسمعوا لي ... فانا أخبركم اليوم أنكم تبيدون ولا تطول أيامكم ... جعلت بين أيديكم الحياة والموت، والبركة واللعنة، فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم وذريتكم. أحبوا الرب الهكم واسمعوا كلامه وتمسكوا به لأن به حياتكم وطول أيامكم..." 30/14-26). فالرب يعطي لإسرائيل أن يختار بين الحياة والموت ويشجعه على اختيار الحياة وإلا فانه سيهلك.
ونحن نقف أمام هذا الاختيار: "جعلت بين أيديكم الحياة والموت، والبركة واللعنة، فاختاروا الحياة لتحيوا ... أحبوا الرب الهكم واسمعوا كلامه وتمسكوا به لان به حياتكم وطول ايامكم...".
158
ماذا تعلم الكنيسة بشأن نوح وفلكه؟ قال لي أحد الكهنه أنها مجرد قصة خرافية، بينما أذكر ان بعض وسائل الاعلام قالت أنهم عثروا على فلك نوح. فماذا تقول؟
بينت بعض الصور من السماء أنه على جبل من الجبال الشاهقة في تركيا، ما يشبه الفلك، وحاول البعض الوصول إليه فلم يفلحوا، ثم لم يعد أحد يتكلم بالموضوع. وليس هنالك أي برهان أو اشارة أن ما تبينه تلك الصور التي جعلوا منها أفلاما، هي فلك نوح.
أما بالنسبة لموقف الكنيسة من فلك نوح، فإن الكنيسة تعلم ما ورد في الكتاب المقدس. فالرب رأى أن مساوىء الناس كثرت على الأرض وأنهم يتصورون الشر في قلوبهم ويتهيأون له نهارا وليلا، وأن الرب أراد أن يقاصص الأشرار بالطوفان، وأنه نجّى من الطوفان الصالحين منهم وهم نوح وأهله. فأمر الله نوحا أن يبني له ولأهله فلكا لكي لا يجرفهم الطوفان.
الكنيسة لا تُلزم المؤمنين بأن يؤمنوا بقصة نوح بحرفها. فهي لا تلزم أبناءها بان يؤمنوا بأن الطوفان كان على كل الأرض أو على جزء منها، أي في تلك المنطقة التي عاش فيها نوح، ولا تلزم بالاعتراف بأن نوحا قد أدخل في الفلك جميع أنواع حيوانات تلك المنطقة أو غيرها أيضا.
الرسالة من فلك نوح لا تتوقف عند التفاصيل التاريخية بل تتعلق بمصير الإنسان الذي يصرّ على عمل الشر ويرفض عدل الله ورحمته. هنالك رموز كثيرة في القصة، رموز الماء والطوفان التي تشير إلى ماء العماد المقدس والفلك الذي يشير إلى الكنيسة في عالم كثرت فيه الشرور.
ولذلك فمن الخطأ أن نعتبر قصة نوح خرافة أو وهما وخيالا. المقصود بها التعبيرعن معاني روحية سامية في مسيرة الخلاص.
159
قال أحد الكهنة ان قصة يونان هي قصة خرافية. وقال آخر أنه في زمن المسيح كانت أمراض كثيرة وأن الكتاب المقدس كان يعتبرها من الشيطان ومن الأرواح النجسة. فماذا يجب أن نؤمن بهذا الشأن؟
نحن امام سؤالين:
السؤال الأول: يتناول قصة يونان النبي الذي مكث ثلاثة أيام في بطن الحوت. نحن لسنا ملزمين بأن نؤمن بأنه حقا مكث ثلاثة أيام في بطن الحوت وإنما نحن نأخذ العبر الروحية من القصة.
ولكن هل صحيح أن يونان بقي حيا ثلاثة أيام في بطن الحوت؟ هل هذا أمر ممكن؟ إسمع ما قرأته لك في مجلة اسمها The People’s Almanac التي ذكرت قصة حقيقية حدثت سنة 1891. غرقت السفينة التي كانت تصطاد حيتانا، وضاع أحد البحارة. وفي اليوم الثاني فتحوا بطن الحوت الذي اصطادوه فوجدوه في بطن الحوت حيا.
أما بالنسة للسؤال الثاني: هل المسيح أخرج حقا الشياطين والأرواح النجسه ممن شفاهم أم كان أولئك مصابين بامراض نفسيه. بهذا الصدد أشير عليك أن تقرأ مرقس 1/23-27 حيث يقول صراحة أنه "كان في الرجل روح نجس"، وأنه قال ليسوع: "أنا أعرف من أنت: أنت قدوس الله. وأن تقرأ أيضا مرقس 5/1-20 حيث يقول أن "في الرجل روحا نجسا"، وتبين أن فيه أرواحا نجسة فخرجت منه ودخلت في الخنازير، فوثبت الخنازير إلى البحر فغرقت ... واحكم هل كان هؤلا الأشخاص مصابين بأمراض نفسية أم كان فيهم حقا أرواح نَجِسَة؟
160
كيف تشرح لي صعود إيليا النبي في العربة النارية إلى السماء، بينما كانت السماء مغلقة من جراء خطيئة آدم وحواء، وفتحها السيد المسيح بعدما حقق الفداء للبشر بسر آلامه وموته وقيامته؟ كل الناس يموتون. والمسيح أيضا مات. ولماذا لا يموت إيليا؟
النبي إيليا التشبي من تشبة جلعاد بالقرب من عجلون شمالي الأردن، عُرف في التوراة أنه المدافع الأول عن الدين الحق في أيام الملك آحاب وامرأته ايزابيل التي أدخلت إلى إسرائيل عبادة البعل.(1 مل، الفصول 17- 19 و 2 مل 1/2 ، 2/ 1-12).
أما بالنسبة لموت إيليا النبي وصعوده في العربة إلى السماء، فإننا نقرأ في سفر الملوك الثاني:
"وفيما كانا سائرين وهما يتحدثان، إذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما ، وارتفع ايليا في العاصفة نحو السماء وأليشاع ناظر وهو يصرخ: يا أبي، يا أبي، يا حامي حمى إسرائيل" (2 مل 2/11).
لا يعتقد أحد من مفسري الكتاب المقدس في الكنيسة الكاثوليكية أنه يجب أن تأخذ هذا النص بحرفه، بل بمعناه الرمزي. فالنار تدل على حضور الله، وعلى أن الله جاء وأخذ إيليا، تعظيما لإيليا من دون الأنبياء لا تنزيها له عن الموت. لا يقول النص أن إيليا صعد في المركبة النارية، أي في مركبة النار الخاصة بالله. فالله نار لا يستطيع أحد أن يدنو منه، بل يقول إنه دخل في العاصفة. ويذهب البعض إلى الاعتقاد بان عاصفة رملية أخذت إيليا ومات في الصحراء، وبالتالي أنه مات. وللعاصفة معنى نبوي. فهي تدل على عمل الله. وهذا يعني أن إيليا لما دخل في العاصفة مات كما يموت جميع الناس، وأن الله أخذه إليه كما أخذ أبرار العهد القديم مثل نوح وابراهيم ... الخ. جميع البشر ماتوا. ويسوع نفسه مات، فإيليا مات هو أيضا.
أما الأيقونات التي ترسم إيليا في المركبة النارية فهي متأثرة بتقليد يهودي قديم يفسر صعود إيليا في مركبة نارية.
مات إيليا في البرية ولا يعرف أحد أين دفن، على شاكلة موسى حيث ورد عنه في سفر تثنية الإشتراع: "مات موسى عبد الرب في أرض موآب بأمر الرب، ودفنه الرب في الوادي، في أرض موآب، تجاه بيت فغور، ولا يعرف أحد قبره الى يومنا هذا" (تث 34/5—6). وأما العبرة من ذلك فهي أن لا يتعلق المؤمن بموسى ولا بإيليا بل بالرب الإله دون سواه.
161
في العهد القديم نجد أهمية كبرى لتابوت العهد، فما هو تابوت العهد وكيف نشأ وأين ومتى اختفى؟
ذكر سفر الخروج أوصاف تابوت العهد الذي صنعه موسى النبي بناء على أمر الرب، إذ قال له:
"تصنع تابوتا من خشب السنط، طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف وسمكه ذراع ونصف. فتغشيه بذهب خالص من داخل ومن خارج... وتضع في التابوت لوحي الوصايا التي أعطيك. وتصنع غطاء التابوت من ذهب خالص... وتضع على طرفي الغطاء كروبين من ذهب مطروق. فيكون على كل طرف كروب مثبت كجزء من الغطاء. ويكون الكروبان باسطين اجنحتهما إلى فوق على الغطاء ووجه الواحد إلى الآخر وإلى الغطاء. وتجعل الغطاء على التابوت من فوق. وفي التابوت تضع لوحي الوصايا التي أعطيك. فاجتمع بك هناك وأكلمك من فوق الغطاء، من بين الكروبين اللذين على تابوت العهد، بجميع ما أوصيك به إلى بني اسرائيل" (خر 25/10-22).
هذه هي أوصاف التابوت. فهو صندوق خشبي يدل على حضور الله بين شعبه ليكلمهم ويكون معهم. ووضع التابوت في المسكن المصنوع بحسب أمر الرب من عشر شقق من كتان، مغطاة بخيمة من إحدى عشر شقّة مصنوعة من شعر الماعز. وأمر الرب بصنع حجاب من نسيج بنفسجي وأرجواني وقرمزي اللون داخل الخيمة... وأن يوضع تابوت الشهادة هناك خلف الحجاب، فيكون الحجاب فاصلا بين القدس وقدس الأقداس (خر الفصل 26). وكان كلما نزل بنو إسرائيل في مكان، يأخذ موسى الخيمة المقدسة وينصبها خارج المحلة على بعد منها، وسماها خيمة الإجتماع. فكان كل من طلب مشورة الرب يخرج إليها (خر 33/7). فالخيمة أعدت موضعا لتابوت العهد الذي سمي في التقليد الكهنوتي تابوت الشهادة (والشهادة تقابل العهد) ولهذا سميت خيمة الشهادة.
ويذكر سفر تثنية الإشتراع أن موسى لما فرغ من تدوين كلام الشريعة كلها قال للاويين حاملي تابوت عهد الرب: خذوا سفر الشريعة هذا وضعوه إلى جانب تابوت عهد الرب إلهكم (تث 31/26) ولهذا سمي هذا الصندوق تابوت العهد.
ويذكر سفر يشوع أن الكهنة واللاويين حملوا تابوت العهد قدام الشعب لعبور نهر الأردن. ولما داست أقدامهم المياه توقف الماء المنحدر من فوق وعبر الشعب قبالة أريحا (يش الفصل 3)
وقد ذكر سفر صموئيل الأول أن إسرائيل عندما خرج لمحاربة الفلسطينيين، أخذ الإسرائيليون معهم تابوت العهد: "فلما دخل تابوت العهد إلى المعسكر هتف جميع بني اسرائيل هتافا عظيما حتى ارتجت الارض. وسمع الفلسطينيون الهتاف فقالوا: ما هذا الهتاف العظيم في معسكر العبرانيين؟ فقيل لهم إن تابوت العهد جاء إلى المعسكر. فارتعبوا وقالوا: "جاء الله إلى المعسكر" (1 صم 4/ 5-7).
وعندما بنى سليمان الهيكل وضع تابوت العهد في قدس الأقداس وبالتالي انتهت وظيفة الخيمة المقدسة. وقد دمر البابليون الهيكل وأحرقوه بالنار (2 اخ 36/19) وبالتالي وضعوا حدا لوجود تابوت العهد. وقد ورد في سفر المكابيين الثاني أن إرميا النبي، بوحي نزل عليه:
"أمرباصطحابه خيمة الاجتماع، وتابوت العهد في صعوده إلى الجبل الذي صعد اليه موسى ... ولما وصل إرميا إلى الجبل وجد كهفا، خبأ فيه خيمة الاجتماع وتابوت العهد ومذبح البخور، ثم سد باب الكهف. وحاول بعض رفاقه أن يتبعوه فلم يكتشفوا الطريق إلى الكهف. فلما علم إرميا بذلك لامهم وقال لهم: هذا الموضع سيبقى مجهولا إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم (2 مك 2/4-8). ويتعزى إرميا عن غيابه معلنا أن أورشليم ستكون كلها في المستقبل عرش الرب (ار 3/16). وقال أشعيا أن السماء هي عرش الله والأرض موطىء قدميه (أش 66/1).
وفي الهيكل الذي بني بعد المنفى، لم يُصنع تابوت عهد آخر. ويذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس أن قدس أقداس الهيكل الذي بناه هيرودس ودمره الرومان سنة 70 للميلاد كان فارغا من كل شيء.
162
بالقرب من بلدة ارميمين في محافظة السلط، في الأردن، بلدة اسمها جلعد فهل هي جلعاد الوارد ذكرها في التوراة؟
في الأصل جلعاد هو جبل بين وادي الرومامين، (سيل الرميمين) ووادي أم القطين. ثم ضم الإسم المنطقة. وجلعاد قرية في شرقي الأردن ورد ذكرها في هوشع (6/8، 12/12) وتقع على بُعد 24 كيلومترا إلى الشمال من عمان. ورجوعا إلى سفر التكوين فإن جلعاد هو الاسم للنصب الذي شيده يعقوب ولابان بعد رجوع يعقوب من حاران حيث تم العهد والتصافي بين الرجلين: "قال يعقوب للابان: "تعال نقطع عهدا، أنا وأنت، ونقيم شاهدا بيني وبينك. فأخذ يعقوب حجرا ونصبه عمودا وقال لرجاله: اجمعوا حجارة. فجمعوا حجارة وكوموها وأكلوا طعاما فوق الكومة. وسماها لابان يجرسهدوتا، وسماها يعقوب جلعيد، ومعناها "رجم الشهادة". وقال لابان: هذه الكومة تكون شاهدا بيني وبينك اليوم. ولذلك سميت جلعيد. وسميت أيضا المصفاة لأن لابان قال: يُراقب الرب بيني وبينك إذا توارى كل واحد منا عن صاحبه" (تكو 31/49).
وبعد أن احتلت عشائر منسى منطقة جلعيد الواقعة شمالي الجابوق ( سيل الزرقاء) أُعطي الاسم لهذه المنطقة التي اشتهرت بمراعيها وغاباتها الكبيرة. وصارت جلعاد ملجأ للهاربين (1 صم 13/7). ولجأ داود إلى محنائيم في جلعاد عندما هرب من ابنه ابشالوم الذي تمرد عليه (2 صم 17/24-29).
خلال إدارة الملك سليمان قُسمت منطقة جلعاد إلى ثلاث مديريات: مديرية الشمال التي تحدها راموت جلعاد (الرمثا)، ومديرية الوسط حول محنائيم ومديرية الجنوب في مملكة سيحون الأموري القديمة (1مل 4/13-19). وجلعاد هي موطن النبي إيليا (1 مل 17/1) ونظرا لأهمية راموت التي تقع على طريق القوافل، قبل دخولها بلاد الآراميين وقعت معارك كثيرة بين إسرائيل والآراميين للسيطرة عليها (1مل 22/3-29).
163
ترد كلمة صهيون في المزامير وفي العهد القديم وأحيانا في رسائل بولس الرسول، ونفهم بصهيون المدينة المقدسة، فهل هذا صحيح؟
كلمة صهيون كانت معروفة قبل مجىء اليهود إلى أرض كنعان. فكانت تعني "التلة الجرداء" أو أيضا "القلعة أو الحِصن". وكان الحصن على التلة الجنوبية الشرقية من أورشليم. وقد ورد في سفر صموئيل الثاني أن داود احتل حِصن صهيون وهو مدينة داود. وكان الحِصن منفصلا عن المدينة، إلا أن المدينة امتدت واتسعت فاصبح الحِصن جزءا من المدينة (2 صم 5/6-7). وسرعان ما خسر الاسم مدلوله الطوبوغرافي. فصار في كتابات الانبياء وفي المزامير مرادفا لاورشليم ومرادفا لشعب اسرائيل. فسميت المدينة وشعبها بنت صهيون. وبكى إرميا النبي على دمار أورشليم وذكر شوارع صهيون المقفرة (مر 4/11) وذكر أساساتها التي أكلتها النار وسورها المهدوم.
كذلك استعمل أشعيا وسفر المزامير عبارة "جبل صهيون" للدلالة على التلال التي بنيت عليها المدينة. وذكر المزمور 78/68 أن الرب أحب جبل صهيون واختاره مسكنا له. ولذلك يسمي المزمور 2/9 وأشعيا النبي 66/20 صهيون الجبل المقدس. وفي صهيون يملك الرب على شعبه.
أما في العهد الجديد، فإن صهيون تدل على أورشليم (متى 21/5) وكذلك في يوحنا حين قال: "لا تخافي يا بنت صهيون" (12/ 15)، كما تدل أيضا على الشعب اليهودي في الرسالة إلى أهل روما:"ها إني أضع في صهيون حجر عثرة في طريق الشعب وصخرة سقوط. فمن آمن به لا يخيب" (رو 9/33). وفي الرسالة إلى العبرانيين تدل كلمة صهيون على أورشليم السماوية: "بل انتم اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحي، من أورشليم السماوية والآف الملائكة في حفلة عيد" (عبر 12/22). وفي سفر الرؤيا يرمز جبل صهيون الى الحقبة الأرضية لإسرائيل الجديد أي للكنيسة (رؤ 14/1).
164
أنا أعتز وافتخر بأن أكون ابن مادبا، التي كانت في العهد القديم مدينة من مدن موآب وأن راعوت جدة النبي داود كانت مادباوية. فهل اقتناعي هذا في مكانه؟ وهل لك أن تعطيني فكرة عن تاريخ موآب؟
لك الحق أن تفتخر وأن تعتز بمدينتك، فهي عريقة جدا في التاريخ، وقد ترك أجدادك آثارا رائعة من كنائس وفسيفساء تشهد على ثقافتهم العالية وفنهم الرفيع، وبحبوحة العيش التي حققوها لانفسهم.
أما بالنسبة لراعوت جدة النبي داود فيبدأ السفر هكذا:
"كان في أيام القضاة مجاعة في الأرض. فمضى رجل من بيت لحم يهوذا لينزل في حقول موآب، هو وزوجته وابناه ... فاتخذا لهما امرأتين موآبيتين، اسم الواحدة عُرفة واسم الأخرى راعوت" (را 1/1،4).
وكانت مملكة مؤاب تضم عددا من المدن، منها الكرك والربة ...". فإذا كان المقصود بحقول موآب " مادبا وسهولها".
أما التسلسل التاريخي لبلاد موآب فنختصره كما يلي:
1 – يحد موآب غربا البحر الميت وشرقا الصحراء العربية وجنوبا بلاد أدوم وشمالا مملكة بني عمون.
2 – يذكر سفر التكوين (19/30-38) أن موآب هو ابن لوط وأن ابنه المدعو "بنعمي" هو أبو بني عمون. وقبل لوط وأولاده، كان الإيميون يقيمون بموآب وهم شعب عظيم كثير طويل القامة كالعناقيين، وهم يُحسبون رفائيين كالعناقيين (تث 2/10-11).
3 – تدل الآثار في بلاد موآب على أنه حتى نهاية العصر البرونزي الأول، أي حتى أواخر سنة 2000 قبل المسيح كان يسكن البلاد شعب زراعي ذو حضارة متقدمة، وكانت مدنهم محصنة ومقامة في مواقع استراتيجية يسهل الدفاع عنها. وقد اكتشفت مقبرة تبعد قليلا إلى الشرق من شبه جزيرة اللسان ترجع إلى العصر البرونزي الأول. وكانت الطرق التجارية الرئيسية تمر في البلاد، من جنوبها إلى شمالها. ورجوعا إلى سفر التكوين (14/5-11) يبدو أن غزوة كدرلاعومر دمرت كثيرا وقضت سياسيا على الإيميين، فتغيرت الحياة شبه المستقرة في المنطقة إلى حياة أكثر بداوة، فاصبحت البلاد هدفا سهلا لغزو القبائل العربية المجاورة من جهة الشرق، فقضوا على حضارة العصر البرونزي.
4 – في القرن الثالث عشر قبل الميلاد سكنت في البلاد قبائل أكثر استقرارا. وهكذا بدأت مملكة موآب في الظهور، وأقدم إشارة إلى موآب هي قائم رمسيس القاني (1304-1237 قبل الميلاد) على جدران معبد الاقصر.
5 – كانت مادبا جزءا من بلاد موآب زمنا طويلا. إلا أنه قبل وصول بني إسرائيل إلى المنطقة كان سيحون ملك حشبون (حسبان) ملك الأموريين قد حارب ملك موآب فأخذ منه كل أرضه إلى أرنون (عد 21/26). وانتصر بنو إسرائيل على سيحون واستولوا على مملكته الصغيرة وقسموها بين سبطي رأوبين وجاد (تث 2/24-36، عدد32-2-5). وأعاد بنو رأوبين وبنو جاد بناء عدد من المدن الموآبية منها عطاروت وعروعير ويعزيز وغيرها ( عد 32/34 – 38).
6 – وفي عهد القضاة من بني إسرائيل زحف الموابيون إلى الشمال من نهر أرنون وعبروا الأردن حتى أريحا. وضايق عجلون ملك موآب بني اسرائيل إلى أن اغتاله أهود قاضي إسرائيل (قض 3/12-13). وعندما هرب داود من وجه شاول، أتى بأبيه وأمه وأودعهما عند ملك موآب الذي كان متعاطفا مع داود ضد شاول. ثم في عهد شاول كانت موآب تدفع الجزية لإسرائيل. ولكن عندما انقسمت المملكة في عهد رحبعام بن سليمان سنة 931 قبل الميلاد استطاعت موآب أن تحصل على الاستقلال، ولكن عمري ملك إسرائيل أعاد الاستيلاء عليها نحو سنة 876 قبل الميلاد (2 مل 3/4) وظلت موآب خاضعة لإسرائيل إلى موت آحاب. وبعد موته تمرد ميشع ملك موآب على إسرائيل واستعاد لبلاده استقلالها. ولكن ملك اسرائيل يهورام بن آحاب استطاع أن يكوّن حلفا من ملك يهوذا وملك أدوم لمحاربة موآب، فلما رأى ملك موآب أن الحرب اشتدت عليه، أخذ معه سبعمائة رجل مستلي السيوف لكي يشقوا إلى ملك أدوم، فلم يقدروا، فأخذ ابنه البكر ولي العهد وأصعده محرقة على السور، فانصرفوا عنه ورجعوا إلى بلادهم (2 مل 3/6-27) واعتبر ميشع ذلك انتصارا له كما يتضح مما نقشه على النصب الذي عُثر عليه في ذيبان، وظل الغزاة من موآب يغزون أرض إسرائيل وينهبون محاصيلها (2 مل 13/20).
7 – ولكن موآب لم تنعم طويلا باستقلالها لأن الأشوريين في عهد تغلت فلاسر الثالث زحفت على إسرائيل سنة 734-733 وأخضعت موآب وغيرها من الدويلات شرقي نهر الأردن وضموها إلى امبراطوريتهم (2 مل 15/29). وبعدما ورث البابليون الإمبراطورية الأشورية قاموا بحملة على يهوذا وشرقي الأردن فاحتلوها. ويبدو من سفر عزرا أن موآب صارت ولاية تابعة للإمبراطورية الفارسية بعد فتح كورش الفارسي لبابل. فضعفت موآب جدا وأصبحت أضعف من أن تقاوم غزوات البدو في شرقي الأردن، وتشتت الكثيرون من الموآبيين إلى الاقطار المجاورة، واندمج الباقون منهم في البلاد في القبائل العربية التي زحفت على المنطقة. وقد رأت موآب فترة من الازدهار في العصرين الهيليني والروماني ولكن النبطيين زحفوا واستولوا عليها (ار، الفصل 48). ثم استولى عليها القائد الروماني بومبيوس وبقت تحت حكم الرومان ومن ثم البيزنطيين حتى مجيء الجيوش العربية.
165
قدم كل من قايين وهابيل مما لديه للرب كما ورد في سفر التكوين 4/2-5 فلماذا رفض الرب تقدمة قايين؟
يقول البعض إن قايين لم يقدم للرب أفضل ما عنده، فلم ينظر الرب إلى تقدمته، ولم يقبلها، بينما هابيل قدم أفضل ما عنده فنظر الرب إليه وإلى تقدمته (تكو 4/2-5). ويقول آخرون إن قايين قدم تقدمة غير دموية ومعنى ذلك أنه لم يكن يعتبر نفسه خاطئا ومحتاجا إلى ذبيحة بها يستعطف الله لكي يغفر له خطاياه. فوبخ الله قايين على غضبه وعلى تقدمته، وبدلا من أن يتضع قايين ويطلب المغفرة ذهب وقتل اخاه.
ولعل أفضل شرح هو ما ذكره بولس الرسول في الرسالة إلى العبرانيين حيث قال: "بالإيمان قرّب هابيل لله ذبيحة افضل من ذبيحة قايين" (عبر 11/4). بينما قايين كان يفتقر إلى الإيمان، فذهب وقتل أخاه، وهذا يعني أن هابيل هو أول من مات بسبب إيمانه وأمانته. وقد أشار يسوع إلى ذلك في متى حيث قال: " ... حتى يقع عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن بركيا الذي قتلتموه بين المقدس والمذبح" (متى 23/35).
ومن أجمل ما ورد بهذا الصدد، تعليق القديس برنردس رئيس الرهبان، على حادثة قايين وهابيل، في شرحه لنشيد الاناشيد، حيث قال مخاطبا قايين:
"ولماذا تعجب يا قايين، إن لم يَنظر الى قربانك مَن سبق ورذلك؟ أيمكن أن يكون القربان في يدك والضغينة في نفسك؟ لن تصالح الله وفي نفسك خصومة. لن تنال الصفح بل ترتكب خطيئة. أسأت لما ضربت فقتلت، ولكنك أسأت أيضا لما قسمت قسمة غير مستقيمة. قبل أن تقتل أخاك قتلت إيمانك. أتكون صالحا مستقيما عندما ترفع يديك إلى الله، والضغينة وبغض أخيك يملآن قلبك ويشدانه إلى الأسفل؟ كيف تكون مستقيما والإيمان فيك قد مات، وقد ماتت أعمالك، ولا صدق في نفسك، بل فيها مرارة كبيرة. آمنت فقربت، ولكن إيمانك خلا من المحبة. القربان صالح، ولكن القسمة والنية في النفس شريرة".
166
توفيت راحيل زوجة يعقوب الثانية لدى ولادة ابنها بنيامين بالقرب من افراته، أي بيت لحم الحالية. فهل "قبر راحيل" عند مدخل مدينة بيت لحم من جهة القدس والذي ضمه الحائط إلى إسرائيل، هو حقا قبرها حيث دُفنت؟
راحيل هي زوجة يعقوب الثانية. ويعقوب هو أبو الأسباط. راحيل هي أم يوسف وبنيامين. نقرأ في سفر التكوين أن يعقوب وبنيه رحلوا من بيت إيل. وبينما هم على مسافة من أفراته (وهي بيت لحم)، ولدت راحيل وعسرت ولادتها وقالت لها القابلة: "لا تخافي فإن هذا أيضا ابن لك". قبل أن تفيض نفسها سمته "بن أُوني" (أي ابن ألَمي)، وأما أبوه يعقوب فسماه بنيامين (أي ابن اليُمن). وماتت راحيل ودفنت في طريق افراته. ونصب يعقوب نصبا على قبرها، وهو نصب قبر راحيل إلى اليوم (أي إلى اليوم الذي فيه كُتب سفر التكوين)" (تكو 35/16-20). وأما النصب فهو شاهد القبر وهو يكون حجرا يوضع على رأس القبر للدلالة على مكان الدفن. وهذا النصب اندثر.
أما القبر الحالي فيعود إلى القرن الخامس عشر للميلاد وهو مبنى تعلوه قبة صغيرة معروف للجميع باسم "قبة راحيل"، ويُعتَقَد أنه المكان الذي دفنت فيه راحيل، وفقا للتقليد اليهودي. ومتى في 2/18 عندما قتل هيرودس اطفال بيت لحم معتقدا بأنه يقتل ضمنهم الطفل يسوع يتخيل راحيل في قبرها تبكي على هؤلاء الاطفال.
إلا أن هناك رأيا آخرا يقول بأن قبرها بالقرب من بيت لحم، ولكن لا أحد يعرفه، ويستند هذا الرأي على ما جاء في سفر إرميا 31/15) حيث صور النبي إرميا في عبارة شعرية، عويل راحيل على ابنائها من سبط ابنها بنيامين (الذي يقع الى الشمال من القدس) ووقوعهم في الأسر، فتندب مصير بنيها.
3 - العهد الجديد
167
لماذا نقول إن يسوع هو آدم الجديد؟
بولس الرسول يشرح لماذا يسوع هو آدم العهد الجديد، ويقول:
"إذا كان هناك جسم بشري، فهناك أيضا جسم روحي، فقد ورد في الكتاب: "كان آدم الإنسان الأول نفسا حية" وكان آدم الاخر – أي المسيح – روحا محييا. ولكن لم يظهر الروحي أولا، بل البشري، وظهر الروحي بعده. الإنسان الأول من التراب فهو أرضي والإنسان الآخر من السماء. فعلى مثال الأرضي يكون الأرضيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما حملنا صورة الأرضي، فكذلك نحمل صورة السماوي" (1 كو 15/44-49).
انحدر كل البشر من آدم وحواء. وكلهم متأثرون بالخطيئة التي ارتكباها. وتسمي الكنيسة تأثيرها على نسلهما "الخطيئة الأصلية" لكونهما أصل الجنس البشري وللدلالة على شمولية هذه الخطيئة. فكما أن آدم الأول هو أصل الجنس البشري، كذلك يسوع آدم الجديد هو أصل الجنس البشري المفتدى. "حمل الآمنا، احتمل اوجاعنا، طعن بسبب معاصينا، سحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شفينا (ليتورجية الجمعة العظيمة). تأنس "كلمة الله" وصار إنسانا. وبالامه وموته تضامن معنا في الموت ليعيد الينا ملء الحياة.
القديس إيريناوس في نهاية القرن الثاني، قال:"إن يسوع بسبب محبته التي لا نهاية لها، قد صار ما نحن عليه، لكي نصير ما هو عليه". صار موته لجميع الذين هم تحت الموت ينبوع حياة جديدة.
168
قال يسوع: "أنا والآب واحد"، وفي نفس الوقت كان يسوع على الأرض يصلي ويتحدث إلى الآب الذي في السماء. فما معنى ذلك؟
نحن نؤمن بأن يسوع المسيح هو إله حق وإنسان حق، باتحاد اللاهوت والناسوت في الأقنوم الواحد، اقنوم الكلمة. يسوع المسيح بصفته الإنسانية هو شبيه بالإنسان في كل شيء ما عدا الخطيئة. فهو يفرح ويحزن، يشبع ويجوع، يتعب ويرتاح، ويصلي أيضا. وحينما ننظر إلى يسوع في صلاته، نكتشف أنه يتوجه كليا إلى الآب، بصفته الإنسانية وبصفته الإلهية: "إن الآب فيّ وأنا في الآب" "أنا والآب واحد". يقول القديس أغسطينوس: "الآب يدعى هكذا ليس بالنسبة إلى ذاته، بل بالنسبة إلى الابن. أما بالنسبة إلى ذاته فهو الله فقط". ففي الله ليس سوى الجوهر والعلاقة. وهذه العلاقة هي صيغة أصيلة من الوجود. ولذلك فإن وحدة الله والإنسان، كما تحققت في أقنوم الكلمة، أي في يسوع المسيح، لا تقضي على الفرق بينهما ولا تحصر استقلالية الإنسان، بل بالعكس، تجعل لها قيمة عند الله عظيمة جدا.
من أجمل ما نعرف عن "يسوع الإنسان" في الإنجيل المقدس أنه كان يصلي، وعلمنا بالقول والمَثَل أن نصلي، وأنه كان يرفع صلاته إلى الله الآب بعاطفة بنوية تفوق الادراك البشري، وأنه طلب الينا أن نوجه صلاتنا إلى الله الآب لانه حنون يعتني بالبشر ولا يريد هلاك أحد. وثقة يسوع البنوية بالآب تفوق كل الحدود، وقد قال لنا أن كل ما نطلبه من الآب باسمه نحصل عليه.
وأود أن أضيف أمرا آخر بالنسبة لصلاتنا:علاقتنا بالمسيح ليست مجرد معرفة. فمنذ أن متنا مع المسيح ودُفنّا بالعماد معه تفجرت حياته فينا وأصبحنا معه واحدا (رو 6/5) فحينما نصلي "أبانا الذي" فاننا نكون على اتصال شخصي مع يسوع في صلاته إذ به ومعه وفيه نحيا باستمرار في نسيج وجوده ووجودنا اليومي. فكم هو رائع أن نكتشف قيمة صلاتنا وجمالها عندما نصليها ونرفعها إلى الله الآب بالاتحاد مع المسيح، الذي يعيش حقا في وسطنا.
169
منذ قيامة المسيح من بين الأموات وحتى أيامنا هذه وربما حتى نهاية العالم، حيّر السيد المسيح وسوف يحير الناس. بعضهم يؤمنون به وبعضهم يرفضونه وبعضهم يحاربونه. فلماذا؟
لم يختلف البشر على أحد من رجالات التاريخ مثلما اختلفوا على سر يسوع. فسره يحير الناس. وسيظل يسوع يحير الكثيرين حتى منتهى العالم. وفي هذا دليل على عظمة شخصيته التي لا تسبر أغوارها، لأنه، من جهة إنسان مثل كل البشر ولكنه من جهة أخرى هو الله، هو الابن الوحيد للآب الكائن قبل كل الدهور، هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. وقد علم كمن له سلطان على الشريعة، وأقام الموتى، وشفى المرضى، ومات ليحيى الآخرين، وقام ممجدا في اليوم الثالث لموته.
بولس الرسول يقول إن اليهود يطلبون الآيات واليونانيون يبحثون عن الحكمة، وأما نحن فإننا نبشر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين (1 كو1/23). وأما للمسيحيين المؤمنين فهو نورهم، وبنوره الساطع فيهم جعل منهم نورا للعالم، يضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت. إنهم، كما يقول الفيلسوف باسكال: "يعرفون ذواتهم بيسوع المسيح".
فخارجا عن يسوع المسيح، نحن لا نعرف ما الحياة ولا ما الموت، ولا نعرف مَن الله ولا نعرف مَن نحن.
170
لقد صنع المسيح عجائب كثيرة ولم يؤمن به رؤساء اليهود. وبعدما أقام لعازر من الموت، قرروا رسميا القضاء عليه. فما هي الأسباب التي أدت برؤساء الشعب اليهودي إلى الحكم عليه بالموت؟
1 – السبب الأول: بشري. حكم رؤساء اليهود على يسوع بالموت بدافع حسدهم وحقدهم وإيمان الجماهير به. كانوا يهابون يسوع لأنه كان يأتي بتعليم جديد وآيات كثيرة ولأن الشعب تبعه. فرأوا في كل ذلك خطرا على مكانتهم الإجتماعية والدينية. وكان يسوع بتعاليمه يتحداهم صراحة فلم يستطيعوا أن يحتملوا ذلك. فاجتمع عظماء الكهنة وعقدوا مجلسا:
"وقالوا: ماذا نعمل؟ فإن هذا الرجل يأتي بآيات كثيرة. فإذا تركناه وشأنه آمنوا به جميعا، فيأتي الرومانيون فيدمرون حرمنا وأمتنا"... فعزموا منذ ذلك اليوم على قتله" (يو 11/46- 53 )
2 – السبب الثاني: سبب ديني. وقد جرت المحاكمة الدينية في صباح الجمعة العظيمة. التأم المحفل كله في دار قيافا برئاسة قيافا. ولم تكن غاية الجلسة التحقيق في تهمة ما، وإنما كانت غاية الجلسة وضع شكل لحكم ديني بالموت والاتفاق على صيغة شكوى، تُرفع بحق يسوع إلى الوالي الروماني، الذي له وحده أن يقضي بالموت، بحكم يصدره في دعوى نظر فيها هو نفسه أو يصدقه باعطاء الموافقة للتنفيذ إذا أصدره المحفل الاكبر عند اليهود.
كان رؤساء الكهنة والمحفل كله يطلبون على يسوع شهادة زور ليقتلوه، ولم يجدوا مع أن شهود زور كثيرين تقدموا. وأخيرا أراد رئيس الكهنة أن يضع حدا للنقاش ويبلغ غايته بضربة قاضية مباشرة:
"فقال له عظيم الكهنة: "أستحلفك بالله الحي لتقولن لنا هل انت المسيح، ابن الله؟ فقال له يسوع: هو ما تقول وأنا اقول لكم: سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة، وآتيا على غمام". فشق عظيم الأحبار ثيابه وقال: "لقد جدف، فما حاجتنا بعد ذلك إلى الشهود؟ ها قد سمتعم التجديف. فما رأيكم؟ فأجابوه: يستوجب الموت".( متى 26/63-66).
قال لهم يسوع صراحة مَن هو وما هي رسالته فحكموا عليه بالموت.
3- السبب الثالث: سياسي. لقد اتهاموا يسوع بأنه يدّعي المُلك بدلا من قيصر. كان لا بد للمحفل من اللجوء إلى بيلاطس صاحب الصلاحية للحكم على يسوع بالموت صلبا. فساقوا يسوع إليه مدّعين أنه مجرم سياسي وعدو لقيصر. ذهبوا إلى دار الولاية ليس كقضاة يطلبون تنفيذ حكم أصدروه بقوة الصلاحية التي لهم، بل كمدّعين، فأخذوا يشكون يسوع للحصول على الحكم عليه بالموت صلبا.
قال بيلاطس:"خذوه أنتم فاصلبوه، فإني لا أجد فيه سببا لاتهامه". أجابه اليهود: "لنا شريعة، وبحسب هذه الشريعة يجب عليه أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله" ... فحاول بيلاطس أن يخلي سبيله، ولكن اليهود صاحوا "إن اخليت سبيله، فلست صديقا لقيصر، لأن كل من يجعل نفسه ملكا يخرج على قيصر ... لا ملك علينا إلا قيصر". فأسلمه اليهم ليصلب" (يو 19/8- 16). وهذه التهمة الأخيرة التي لا أساس لها، اتخذها بيلاطس لكي يبرر الحكم عليه بالموت صلبا فكتب فوق الصليب: "يسوع الناصري ملك اليهود".
171
لوقا يقول إن المعمدان أقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل (لو 1/80) فهل أقام المعمدان عند الأسينيين وهل كان تلميذا لهم؟
يميل بعض مفسري الكتاب المقدس إلى الاعتقاد بأن يوحنا المعمدان عرف الأسينيين وعاش معهم في البرية. ويعتقد البعض الآخر أنه أحب البرية مثلهم، وأنه، على الأرجح، عاش في بيئة دينية مشابهة لبيئتهم ولكنه لم يكن أسينيا للأسباب التالية:
1 - كان يوحنا ابنا لأحد الكهنة الذين كان الأسينيون يمقتونهم.
2 – كان الأسينيون منعزلين عن الشعب، منقطعين إلى الخلوة فكانوا فئة قليلة. بينما المعمدان امتزج بالشعب، ووجه كلامه إليه داعيا إياه إلى التوبة وإلى مراعاة المحبة والحق في حياتهم. وفي كرازته ركز يوحنا على القيام بكل أمانة، بالواجبات الشخصية في حياتهم العادية كوسيلة للتوبة. فعلى الأغنياء أن يرأفوا بالفقراء (لو 3/11)، وعلى العشارين أن لا يُفرطوا في جباية الضرائب (لو 3/13)، وعلى الجنود ألا يلجأوا إلى العنف وأن لا يظلموا الناس وأن يكتفوا بما عُيِّن لهم (لو 3/14).
3 – كان الأسينيون يتوضأون قبل تناول الطعام، بينما يوحنا المعمدان نادى بمعمودية التوبة لغفران الخطايا (مر 1/ 4) استعدادا لقدوم المسيح الذي سياتي بعده وهو أي المسيح أعظم منه وسوف يعمد بالروح القدس (مر 1/7-8).
172
سمعت قسيسا يقول أن لا أحد من الإنجيليين عرف المسيح وعاش معه. فسألته ألم يكن يوحنا الحبيب تلميذا للمسيح فقال لي: إن يوحنا الحبيب هو شخص يختلف عن يوحنا كاتب الإنجيل الرابع. فما رأيك بهذا التعليم؟ ماذا تقول الكنيسة؟
من الثابت تاريخيا أن متى ويوحنا كانا من تلاميذ المسيح. مرقس ولوقا لم يكونا من تلاميذ يسوع بل شاركا بطرس وبولس في الرسالة ونقلا إلينا كرازتهما. ويقول لوقا صراحة في مقدمة الإنجيل أنه نقل عن شهود عيان للكلمة الذين صاروا عاملين لها وانه تتبّعها كلها من أصولها (لو 1/1-3). فالأناجيل الأربعة من أصل رسولي. وتعني الكنيسة بعبارة "من أصل رسولي" أنها من الرسل الذين عاصروا السيد المسيح. مرقس ولوقا لم يكونا من الرسل الإثني عشر ولكنهما حصلا على المعلومات في كتابة الإنجيل ممن كانوا شهود عيان في حياة السيد المسيح. بشر الرسل بالخلاص، عملا بأمر السيد المسيح. ثم دوّنوا البشارة هم وصحبهم، بوحي من الروح القدس، في كتب هي قاعدة الإيمان، وهي الأنجيل بحروفه الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا" (دستور عقائدي في الوحي الالهي 18)
القديس ايرينيوس، في القرن الميلادي الثاني، كان تلميذا للقديس بوليكاربوس تلميذ يوحنا الحبيب، قال في كتابه "ضد الهراطقة":
"كتب متى الإنجيل لليهود وبلغتهم، حينما كان بطرس وبولس يبشران في روما ويؤسسان فيها الكنيسة. وبعد استشهادهما، مرقس تلميذ بطرس وناقل كرازته كتب لنا ايضا إنجيلا. وأما لوقا رفيق بولس فقد وضع أيضا كتابا يحتوي على كرازته. وبعد ذلك فان يوحنا تلميذ الرب الذي مال على صدره في العشاء الأخير كتب أيضا إنجيلا عندما كان في أفسس، في آسيا الصغرى".
فمنذ بداية كرازة الرسل بالكلمة كان واضحا أن اثنين من الإنجيليين وهما متى ويوحنا كانا من تلاميذ المسيح، وأن لوقا نقل الينا كرازة بولس، وأن مرقس نقل الينا كرازة بطرس، ولم يكن بطرس وبولس من الانجيليين.
وقد صدر سنة 1964 تعليمات من اللجنة البابوية للكتاب المقدس حول الحقيقة التاريخية للأناجيل، ورد فيها أن دارسي الكتاب المقدس والمثقفين من المؤمنين، عليهم أن يتحلوا، في تعليمهم وكتاباتهم، بنوع خاص بفضيلة الفطنة كي لا يأتوا بالبدع، وأن يلتزموا بتعليم الكنيسة فلا يكونوا مسببين العثار للمؤمنين.
173
أنا لا افهم متى 18/15-20 إذا خطىء إلي أخي ... الإجراءات المطلوبة للمصالحة كثيرة، وإذا رفض يحق لي أن أتركه وأن اعتبره وثنيا وعشّارا: فما معنى ذلك؟
المرجع المذكور ينظم علاقتك بأخيك الذي يخطأ إليك. ماذا تصنع؟ يقول يسوع: "إذا خطيء إليك أخوك". أخوك هو المذنب، وأنت البريء. لا يقول لك يسوع: أنت بريء: إذا يجب عليه أن يعتذر لك، وأن يطلب منك الصفح والمغفرة. ولا يقول لك: أنت غير مذنب ولست ملاما إذا تركته وابتعدت عنه. ولا يقول لك: نَصِّب ذاتك قاضيا على أخيك، واكسر أنفه لأنه أذنب إليك. بل يطلب منك أن تمارس المحبة المسيحية. فهو أخوك ويجب أن تربحه للرب، وأن تساعده على تفهم غلطه، وعلى التوبة والرجوع إلى الله.
يقول لك: "هذا أخوك" ويجب أن تهتم بأخيك، فتأتي المبادرة منك كي لا يبقى أخوك على خطأه. وإذا لم يسمع لك؟ يقول لك يسوع: خذ مبادرة ثانية. لا تنتظر. لا تيأس. لا تقل عملت الذي يجب علي عمله وانتهى الأمر. فليتحمل هو مسؤوليته أمام الله والناس. بل يقول لك: خذ معك رجلا أو رجلين لكي يحكم بينك وبينه على كلام شاهدين أو ثلاثة. وإذا لم يسمع لك؟ يقول لك يسوع: خذ المبادرة للمرة الثالثة. لا تتراجع. فهو أخوك ولا يجوز أن تتركه في خطيئته غير مبال له: أخبر جماعة المؤمنين بأمره، لكي يتدخلوا ويساعدوك، لعلك بواسطتهم تربح أخاك. وإن لم يسمع للكنيسة ايضا، ماذا تعمل؟ يقول لك المسيح: فليكن عندك كالوثني والعشار.
ما معنى هذه العبارة، فليكن عندك كالوثني والعشار:
1 - لهذه العبارة معنى الشريعة اليهودية، وهو أن تتجنبه، أن لا تخالطه، أن تكرهه وأن تحتقره، وأن لا تريد له الخير. فاليهود لا يخالطون الأوثان، ويعتبرون العشارين أي جباة الضرائب خطأة أنجاسا ويتجنبونهم.
2 – لهذه العبارة معنى الشريعة المسيحية، المعنى الذي أعطاه يسوع المسيح. الوثنيون والعشارون عند يسوع هم الخراف الضالة الذين من أجلهم يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب في طلبهم.
عندما تتوقف عند هذه العبارة "فليكن عندك كالوثني والعشار"، وتتأملها، هل تتوقف عندها بعقلية اليهودي، أم تعطيها بُعدا مسيحيا؟ الإنسان المسيحي الصادق يكبح أنانيته وكبرياءه وينتصر للمحبة الإنجيلية. أخوك العنيد يرفض أن ينقاد للعقل والمنطق وللكنيسة، ولكنه يبقى أخاك، أصبح خروفا ضالا مثل الوثني والعشار، وأنت بصلاتك الموصولة من أجله، أطلبه من المسيح، واطلبه كما طلب الراعي الخروف الضال، فترك التسعة والتّسعين في البرية وذهب إلى البراري يبحث عنه.
معنى المحبة المسيحية هو أن المسيح جاء من أجل خلاص كل الناس، من أجل خلاص الوثني والعشار، ولم يستثن أحدا. من أجل خلاص الوثنيين والعشارين مات على الصليب. من أجلك ومن أجلهم مات على الصليب. المسيح على صليبه حمل في قلبه كل البشر. لم يستثن أحدا. وصلى من أجل صالبيه وطلب الغفران لهم لجهلهم وقال: "يا أبتِ، إغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون" (لو 23/34).
لا يمكن المسيحي الصادق أن يستنتج من تعاليم المسيح أنه يقول له: إكره، إبتعد، تجنب الناس، لأنهم أخطأوا إليك. بل يقول لك أحبب الجميع، أحبب قريبك كنفسك. ارتفع إلى مستوى الحب الإلهي الذي فيه تذوب كل أسباب العداوة والبغضاء. فالمسيح على الصليب حمل في قلبه الفريسي والعشار والوثني وجميع الخطأة، وأنا وأنت منهم، ومات على الصليب لكي يُحيي بموته الآخرين. فليكن ألمك من أخيك المتصلّب في خطيئته، ألم حب مثل ألآم المسيح، تمجيدا لله وتخليصا لنفسك ولأحبتك.
المحبة وحدها هي التي ترد الناس عن دروبهم وأخطائهم المألوفة وتربحهم للمسيح. خذ دوما المبادرة البناءة واذكر ما يقوله لك يعقوب الرسول: "يا إخوتي، إن ضل أحدكم عن الحقيقة، ورده اليها آخر، فاعلموا أن من رد خاطئا عن ضلاله، قد خلص نفسه من الموت وستر جما من الخطايا" (5/19-20).
174
نحن نقول "أبانا الذي في السموات" ولكني سمعت أحد الكهنة يقول بأن الله يتحلى بصفات الابوة والأمومة في آن واحد، فهل هذا صحيح؟
إن الله روح. ليس له جسد وبالتالي فهو ليس ذكرا وليس أنثى. نحاول أن نتفهم حقيقة الله بالأمثال والرموز وبما في حياة الإنسان من تشابيه جميلة تقرب إلى اذهاننا حقيقته الإلهية. وعلى سبيل المثال، عندما يقول الكتاب المقدس بأن الله صنع الإنسان على صورته ومثاله (تك1/26)، فهذا يعني ان لنا روحا مثل روحه تؤهلنا لان نفكر ونختار ونحب. فنحن لا نشبه الله باجسادنا لان الله ليس مادة وليس له جسد.
صحيح أننا لا نستطيع أن نعرف كل شيء عن الله، ولكننا نستطيع أن نعرف الكثير عن صفاته. المجمع الفاتيكاني الأول أبرز 15 صفة من صفات الله منها أنه واحد وأنه الحي، والحق والأزلي الذي لا حدود له.
نحن ندعو الله أبانا وليس في ذلك أية إهانة للنساء أو للأمومة لأن يسوع علمنا ذلك حين قال: "أذا صليتم فقولوا: "أبانا الذي في السموات" (متى 6/9) وهذا لا يعني أن الله ذكر ولكن من باب التشبيه لكي يساعدنا على فهم شيء ما عن طبيعته الإلهية. وفي حياتنا البشرية نحن كثيرا ما نصف الاباء بانهم محبون وأمناء وأنهم قادة وأقويا وأنهم مطمئنون ويطمئنون وثابتون.
وفي الكتاب المقدس أيضا في أشعيا 49/15 وفي متى 23/37 يقول إن الله أكثر حنانا من الام، وهذا لا يعني أن الله انثى بل يؤكد على صفة رائعة من صفات الله تتوفر عادة عند الامهات.
نقرأ في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم 370 أن الله ليس على صورة الإنسان البتة. فهو ليس رجلا ولا امرأة. ولكن كمالات الأم وكمالات الأب تعكس شيئا من كمال الله غير المتناهي.
175
هل أعلن يسوع في الأناجيل الإزائية أنه الله ؟
في عدة مواقف أعلن السيد المسيح أنه الله. فعلى سبيل المثال عندما كان في المجمع في الناصرة، حين قرأ نبوءة أشعيا بشأن المسيح وقال: "اليوم تمت هذه الآية" (لو 4/21)، فإنه أعلن بذلك أنه المسيح المنتظر. وقال في مناسبة أخرى لتلاميذه: "مَن يعترف بي قدام الناس أعترف به قدام أبي في السموات" (متى 10/32).
وفي محاكمته، سأله عظيم الأحبارأمام الشيوخ والكتبة: "أأنت المسيح ابن المبارك؟" فقال يسوع: " أنا هو، وسوف ترون ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة وآتيا على غمام السماء" (مر 14/61-62). لم يكن لدى أعداء يسوع أي شك في أن يسوع أعلن رسميا بهذه الكلمات أنه المسيح ابن الله ولذلك حكموا عليه بالموت.
176
لماذا أراد يسوع أن يدعو نفسه "ابن الإنسان"؟
عبارة "ابن الإنسان" تدل على طبيعة المسيح الإنسانية، كما أن عبارة "ابن الله" تدل على ألوهيته. وقد وردت مرارا كثيرة في الأناجيل، واختارها يسوع المسيح ليعبر بها عن رسالته المسيحانية لخلاص العالم ودوره في الدينونة الأخيرة للعالم. لقد قال: "من يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطىء، يستحيي به ابن الإنسان، متى جاء في مجد أبيه تواكبه الملائكة الأطهار" (مر 8/38).
كذلك فقد ورد هذا التعبير في سفر دانيال حيث قال: " وكنت أنظر في رؤى ليل، فإذا بمثل ابن الإنسان آت على غمام السماء، فبلغ إلى قديم الأيام وقُرب إلى أمامه وأوتي سلطانا ومجدا وملكا، فجميع الشعوب والأمم والألسنة تعبده، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول وملكه لا ينقرض" (7/13-14).
177
لماذا سمى يوحنا ذاته بالتلميذ الذي أحبه يسوع؟ ألم يحب يسوع جميع تلاميذه، بما فيهم يهوذا الإسخريوطي؟
إن يسوع أحب جميع تلاميذه وأحب يهوذا أيضا، ولكنه كان يُظهر عطفا خاصا على يوحنا. ربما لأنه كان أصغر التلاميذ سنا. كذلك كان يسوع يظهر عطفا خاصا لبطرس ويعقوب واختارهما مع يوحنا لكي يكونوا شهود التجلي والنزاع في بستان الزيتون.
لا تنس أن يسوع كان مثلنا شبيها بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. إنه أحب جميع تلاميذه أحب يهوذا الذي أسلمه، وأحب بيلاطس ورؤساء الشعب اليهودي الذين حكموا عليه بالموت، وأحب الذين وقفوا أمام صليبه يستهزئون به وأحب جميع الناس بدون استثناء، ولكن كان له أصدقاء فأظهر لهم المودة والصداقة والمحبة أكثر من غيرهم.، وبهذا فهو شبيه بنا.
178
متى عرف يسوع أنه واحد من الاقانيم الثلاثة؟
إن يسوع كان دائما يعرف أنه الله الابن، الأقنوم الثاني من الثالوث الاقدس. فالكنيسة تعلم:
"كانت طبيعة ابن الله البشرية، لا بذاتها بل باتحادها بالكلمة، تعلم وتُظهر في ذاتها ما يليق بالله. من ذلك أولا المعرفة الحميمة والمباشرة التي كانت لابن الله المتجسد عن أبيه. وكان الابن يُظهر أيضا في ما كان له من نفاذ إلهي إلى الافكار السرية في قلب البشر" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 473 ). راحع يوحنا 2/25 ، 6/61 ... الخ.
وكانت معرفة المسيح البشرية، بفضل اتحادها بالحكمة الألهية في شخص الكلمة المتجسد، تتمتع تمتعا كاملا بعلم الغيب والمقاصد الأزلية التي جاء ليكشف عنها. هو لا يجهل شيئا ولكنه لا يعلن عن كل شيء (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 474). راجع أيضا مرقس 13/32، وأعمال الرسل 1/7.
179
أصحيح أن يسوع اكتشف طبيعته الإلهية تدريجيا؟
تُعلّم الكنيسة أن يسوع أقنوم إلهي، بطبيعتين: إلهية وإنسانية. وأنه كان يعرف من هو ويعرف رسالته منذ البداية. فكان ينعم بمعرفتين: البشرية والإلهية. بسبب الاتحاد الاقنومي بين طبيعته الإنسانية وطبيعته الالهية كان ينعم برؤية الله مباشرة، وكان يعرف أنه والآب واحد. وقد أفيضت فيه أيضا المعرفة الفائقة الطبيعة. واستنادا إلى هذه المعرفة كان يقرأ ما في القلوب ويتنبأ بالمستقبل. وأخيرا، بصفته الإنسانية، كانت له المعرفة التي كان يكتسبها بالجهد والخبرة البشرية. وعلى سبيل المثال تعلم القراءة والكتابة، وكان ينمو بالسن والحكمة والنعمة عند الله والناس.
فالسيد المسيح بصفته إلها، كان يعرف كل شيء: الماضي والحاضر والمستقبل. وأما بصفته إنسانا، وبسبب الاتحاد الأقنومي بين الطبيعتين فيه كان يعلم غيب السموات والأرض. ولكن بما أن طبيعته الإنسانية محدودة فإن لمعرفته الإنسانية حدودا. ولذلك كان ينمو بطبيعته الإنسانية ويمر بمراحل حياة الإنسان من الطفولة الى الرجولة. لكنه لم يكن أبدا يجهل شيئا لأنه كلمة الله المتجسد.
بالنسبة لمعرفة المسيح يمكنك ان تراجع الارقام 472 – 474 من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية.
قال البابا يوحنا بولس الثاني إن السيد المسيح أعلن رسالته أولا في الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره، عندما قال لمريم ويوسف: "ألا تعلمان أنه يجب علي أن اكون عند أبي" (لو 2/49) هذا الجواب كان اعلانا لعلمه وإدراكه أنه ابن الله وأنه من واجبه أن يكون في بيت الآب لكي يهتم بشؤونه. ولذلك يبدو أنها المرة الأولى التي فيها يعلن يسوع سره المسيحاني وحقيقته الإلهية.
180
قال يسوع أن لا ندعو أحدا على الأرض أبا. فلماذا ندعو الكاهن "أبونا"؟
انتقد يسوع الكتبة والفريسيين الذين كانوا يحزمون أحمالا ثقيلة ويلقونها على اكتاف الناس، بيد أنهم يأبون تحريكها بطرف الإصبع. وما كانوا يفعلون شيئا إلا لينظر الناس اليهم: "يعرضون عصائبهم، ويطولون أهدابهم، ويحبون المقعد الأول في المآدب وصدور المجالس في المجامع وتلقي التحيات في الساحات، وأن يدعوهم الناس "رابي"(متى23/1-7).
هذا هو الاطار الذي قال فيه يسوع لتلاميذه: "أما أنتم" فلا تَدَعوا احدا يدعوكم رابي أي معلما لأن لكم معلما واحدا وهو المسيح وأنتم جميعا إخوة. ولا تَدَعوا احدا أبا لكم في الارض لأن لكم أبا واحدا هو الآب السماوي. ولا تَدَعوا احدا يدعوكم مرشدا، لأن لكم مرشدا واحدا وهو المسيح. (متى 23/8-12).
فالسيد المسيح اتخذ عدة تشابيه في خطابه لكي ينتقد الفريسيين الذين كانوا يسيؤون استعمال سلطتهم ويستغلونها تحت تلك العناوين. فهو يقول أن من كان في مركز السلطة عليه أن يكون خادما لا متسلّطا ومتجبّرا في الناس. وهذا ما فهمه التلاميذ لانهم تابعوا أن يسمّوا الأب أبا والأخ أخا. فالقديس اسطفانوس الشهيد قال في خطابه أمام المجلس: "اسمعوا أيها الإخوة والآباء" (رسل 7/1-2). والقديس بولس وجه خطابه لأهل أورشليم قائلا لهم: "أيها الاخوة، أيها الآباء، اسمعوا" (رسل 22/1). والقديس يوحنا الحبيب قال في رسالته الأولى: "أكتب اليكم ايها الآباء لانكم تعرفون ذاك الذي كان منذ البدء" (1 يو 2/13). ولم يرَ بولس حرجا أن يقول لأهل تسالونيكي: "كنا لكم كالاب لاولاده كما تعلمون، فقد وعظنا كلا منكم وشددناه أن يحيا حياة جديرة بالله الذي يدعوكم إلى ملكوته ومجده" (1 تسا 2/11-12). وقال لهم أيضا: "قد يكون لكم ألوف الحراس في المسيح، ولكن ليس لكم عدة آباء، لأني أنا الذي ولدتكم بالبشارة، في المسيح يسوع" (1 كو 4/15).
181
قال يسوع "جئت لألقي على الارض نارا ... أتظنون أني جئت لاحل السلام في الأرض؟ أقول لكم لا، بل الانقسام ..." (لوقا 12/49-53) فما معنى هذا الكلام؟
إليك النص الإنجيلي كاملا:
"جئت لالقي على الأرض نارا، وكم أرجو ان تكون قد اشتعلت، وعليّ أن أقبل معمودية، فأي كرب أعانيه حتى تتم، أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا بل الخلاف. فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان ثلاثة: يخالف الأب ابنه والابن أباه، والأم بنتها والبنت أمها، والحماة كنتها، والكنة حماتها" (لو 12/49-53). وهناك نص يشبهه في متى 10/34-39.
السيد المسيح لا يقول إنه يريد أن يدمر الأسرة، ولكنه يبين أنه سيكون انقسام في العائلات بسببه بين مؤمنين به ورافضين له. وهذا الخلاف تعيشه اليوم عائلات كثيرة. مثلا: يكون اختلاف بين الأب وابنه بالنسبة لعقيدة من العقائد المسيحية، وبين الأم وابنتها بشأن اللباس المحتشم للكنيسة، وبين الرجل وامرأته بشأن الإجهاض، وبين الكنة وحماتها بشأن الطلاق والزواج ثانية ... الخ.
السيد المسيح لا يريد هذه الخلافات، ولكنه يذكرنا بانه لا بد أن تقع. فهو يقول: "مَن أحب أبا أو اما، ابنا أو ابنة اكثر مني لا يستأهلني". "من لا يحمل صليبه ويتبعني لا يستأهلني" (متى 10/37-38).
182
قال الإنجيل: "دنا تلاميذ يسوع وقالوا له: لماذا تكلمهم بالأمثال؟ فأجابهم: لأنكم أُعطيتم انتم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات، وأما أولئك فلم يُعطوا ذلك ... وأما أنتم، فطوبى لعيونكم لانها تبصر، ولاذانكم لانها تسمع...(متى 13/13-17). ألا يعني ذلك أن يسوع لا يريد لهم أن يسمعوا ولا أن يفهموا؟
إن المقصود بالمثل، هو إعطاء عبرة روحية والتعبير عن وضع قائم. ففي متى الفصل 13، وفي مرقس الفصل 4 يشرح يسوع مثل الزارع لتلاميذه وليس للجموع. وسبب ذلك أن التلاميذ كانوا مستعدين لأن يتقبلوا تعليم المسيح بينما الجموع لم يكونوا مستعدين ولم تكن قلوبهم منفتحه ولم تكن عقولهم قادرة على استيعاب سر ملكوت الله، ولا بد من أن يشرح السيد المسيح لتلاميذه المزيد من أسرار الملكوت. فإذا كانت نفوسنا مصغية ومتقبلة وتائبة ومنفتحة على محبة المسيح، كان سهلا علينا أن نستخلص العبرة الروحية من الأمثال .
183
كيف تشرح لنا متى 5/17-37 هل نأخذ كلام السيد المسيح حرفيا؟. ما المقصود من المبالغة في كلام المسيح؟
المقطع المشار إليه هو جزء من عظة يسوع على الجبل: " لا تظنوا اني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء... إن لم يزد بركم على بر الكتبة والفريسيين، لا تدخلوا ملكوت السموات... سمعتم أنه قيل للأولين "لا تقتل... أما أنا فاقول لكم من غضب على أخيه استجوب حكم القضاء ...سمعتم أنه قيل لا تزن، أما أنا فاقول لكم: من نظر إلى امرأة فاشتهاها زنى بها في قلبه ... " (متى 5/17-37)
بعبارة وجيزة أن السيد المسيح يعلمنا بأن حفظ الوصية لا تقتل ولا تزن غير كاف. بل يجب أيضا أن نقاوم الغضب والأفكار المنحرفة. وأنه إذا كانت عينك سبب شك لك فاقلعها وألقها عنك خير لك أن تدخل السماء وأنت أعور من أن تذهب إلى جهنم ولك عينان.
السيد المسيح يبالغ في التشابيه عن قصد لكي يبيّن لسامعيه أن الذهاب إلى جهنم هو أهول مِن أن يفقد الإنسان عضوا من جسمه. فالسيد المسيح لا يقول لسامعيه "اقطعوا ايدكم" واقلعوا عيونكم بل يبين لهم أن نتائج الخطيئة رهيبة جدا جدا. فالقطع والقلع هنا كنايات واستعارات تؤخذ بروحها ولا تؤخذ بحرفها.
184
نقرأ في انجيل يوحنا 4/4-42 أن يسوع التقى امرأة سامرية ... فمن هم السامريون؟ ولماذا كانت العداوة بينهم وبين اليهود؟ وهل كانوا ينتظرون مسيحا؟
السامريون هم طائفة من اليهود أقاموا في السامرة، في فلسطين. وأما العداوة بينهم وبين اليهود فهي تعود لأسباب دينية وسياسية قديمة. فمنذ أربع قرون قبل المسيح وبعد احتلال الأشوريين للسامرة أسكن السامريون مع أهل البلاد شعوبا أخرى فاصبح أهل السامرة خليطا من اليهود ومن الأمم وقطعت السامرة العلاقة مع هيكل القدس وبنوا هيكلهم على جبل جريزيم. إنهم يعبدون الله ويقبلون كتب الشريعة الخمسة ويعتبرون أنفسهم وحدهم من سلالة الآباء . هيكلهم دمره يوحنا هيركانوس الذي حكم اليهودية من سنة 134 الى سنة 104 قبل المسيح.
هذه العداوة أدت بالسامريين إلى أن يرفضوا يسوع والرسل ( لوقا 9/51-56)، وهي السبب في أن المرأة السامرية على بئر يعقوب استنكرت أن يخاطبها على البئر رجل يهودي وأن يطلب منها أن تسقيه ماء. لقد كان من المحرمات على اليهودي أن يتكلم مع أية امرأة علنا، فكم بالحري مع امرأة سامرية. وكان اليهود يعتبرون المرأة السامرية نجسة. أما يسوع فقد كشف لها أنه هو المسيح الذي كان السامريون ينتظرونه، وهذه السامرية ذهبت تبشر شعبها أنها وجدت على بئرهم يسوع وهو المسيح المنتظر. فكانت للمسيح تلميذة من السامريين.
185
زارنا قسيس وقال إن يسوع يمنع تكرار الصلاة فهل هذا صحيح؟
قال السيد المسيح لتلاميذه "وإذا صليتم، فلا تكونوا كالمرائين، فإنهم يحبون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع، ليراهم الناس ... وإذا صليتم فلا تكثروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم يظنون أنهم إذا أكثروا الكلام يُستجاب لهم. قلا تتشبهوا بهم، لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متى 6/5-8). المسيح كان يتكلم عن فئتين من المصلين، عن المرائين الذين يصلون لكي يراهم الناس، وعن الوثنيين الذين يعتقدون بأنه يُستجاب لهم لكثرة الكلام.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن العلاقة بيننا وبين الله هي علاقة أبوة وبنوة، فهل من غرابة أن يتكرر طلب الأبناء عندما يخاطبون آباءهم، وهل من غرابة في الإلحاح في الطلب؟ أن الإلحاح يدل على الثقة بأن الوالد سوف يستجيب والتكرار مع الحب لا يكون تكرارا مملا. وعلى سبيل المثال، فإن السيد المسيح بالذات كرر صلاته في بستان الجسمانية (متى 26/39 ، 42، 44)، وقال في مثل الفريسي والعشار أن العشار كان يردد صلاته: "اللهم، إرحمني أنا الخاطىء"، ولم ينتقده المسيح بل قال عنه أنه عاد إلى بيته مبرورا (لو 17/14).
186
هل مريم المجدلية هي مريم اخت لعازر؟
يعتقد البعض أنها هي، ويقول آخرون أنها الخاطئة التي غسلت رجلي يسوع بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها في بيت سمعان الفريسي (لو 7/36-50). ولكن لا يوجد اي برهان على أن مريم المجدلية هي مريم أخت لعازر ومرثا.
ما نعرف بالتأكيد عن مريم المجدلية من الإنجيل المقدس أن يسوع أخرج منها سبعة شياطين (مرقس 16/9) وأنها كانت ممن قمن بخدمته في الجليل (لوقا 8/2) وأنها كانت إحدى النساء اللواتي شاهدن صلب يسوع (متى 27/56 ، مر 15/40 ، ويو 19/25) وأنها كانت أول من ظهر لها يسوع بعد قيامته (مر 16/9 ، يو 20/14-18).
187
نقرأ في متى 12/15 أن يسوع نهى الذين شفاهم عن كشف أمره للناس. فلماذا كان يفعل ذلك؟
نهى يسوع تلاميذه وكثيرين غيرهم ممن صنع لهم العجائب أن يذيعوا الخبر(متى 8/4 وغيره) لأنه لم يحن الوقت لكي يكشف سره بأنه المسيح ابن الله الحي. ولم يدع الشيطان يتكلم ويقول إنه عرفه (مر 1/34). فقد حاول أن يكشف أمره للناس لعله يقبل المجد منه، فيحيد به عن رسالته السماوية. مرارا كثيرة حاول أن يكشف للناس أنه قدوس الله (لو 4/34) وأنه ابن الله (لو 4/41). الا أن يسوع كان ينتهره، ولم يدعه يقول أنه عرف أنه المسيح.
كان اليهود يتوقعون أن يكون المسيح مخلصا ومنقذا سياسيا. أما يسوع فقد استهدف تحرير الإنسان من عبودية الخطية (مر 2/10) ولم يستهدف المجد من الناس. في حياته العلنية بدا التلاميذ يطلعون على سر المسيح، ولكنهم لم يفهموا ولم يدخلوا إلى عمق هذا السر إلا بعد حلول الروح القدس عليهم، الذي أرشدهم إلى الحق كله وأفهمهم أن يسوع بسره الفصحي صنع للناس خلاصا.
188
ماذا يعني قول يسوع في لوقا 12/49: جئت لألقي على الارض نارا، وما أشد رغبتي في أن تشتعل؟
لكي نفهم ماذا كان يعني يسوع في قوله هذا، نعود أولا إلى حادثة انجيلية وردت في لوقا 9/ 51-56، حيث يقول لوقا أن يسوع وتلاميذه مروا بالسامرة فأرسل يسوع رسلا يتقدمونه، ودخلوا قرية ليعدوا العدة لقدومه فلم يقبله السامريون لأنه كان متجها إلى أورشليم. فلما علم بذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا: "يا رب، أتريد أن نأمر النار فتنزل من السماء وتأكلهم؟ فالتفت يسوع وانتهرهما. فمضوا من هناك إلى قرية أخرى". فهو لم يأت ليهلك بل ليخلص.
وللنار في الكتاب المقدس معان كثيرة، منها الحارقة ومنها المطهرة.
قال يسوع: "جئت لألقي على الأرض نارا". فالنار التي حملها يسوع ليلقيها على الأرض هي نار الحب الإلهي التي تطهر وتنقي وتجعل الناس أطهارا يسيرون وفق مخطط الله الخلاصي. وما كانت كرازة يسوع وتجواله في المدن والقرى إلا لكي يعود بالناس إلى الله ويحقق رسالته الفدائية، فجعل نار كلمته الإلهية تتقد وتنتشر خلال حياته الأرضية. فهي ليست نار انتقام، بل نار حب إلهي وسلام. وفي انطلاقة الكنيسة، يوم العنصرة أرسل السيد المسيح الروح القدس فنزل على التلاميذ في العلية بصورة ألسن نارية.
189
إذا عدنا إلى الآيتين 10 و 11 من رسالة يوحنا الثانية، أنا أرى أنه لا يجوز للكنيسة الكاثوليكية أن تنخرط في الحركة "المسكونية" فما رأيك في ذلك؟
الآيتان المشار اليهما هما: "اذا جاءكم أحد لا يحمل هذا التعليم فلا تقبلوه عندكم ولا تقولوا له: سلام. من قال له: سلام، شاركه في سيئات أعماله" (2 يوحنا).
السؤال الذي نطرحه هو: ما هو التعليم الذي يشير إليه الرسول بقوله "لا يحمل هذا التعليم"؟. الآية 7 من الرسالة عينها تقول: "إنتشر في العالم كثير من المضلين الذين لا يعترفون بيسوع المسيح الذي تجسد". بهذه الآية يشير إلى الحرب التي كانت قائمة في الكنيسة الأولى ضد اتباع بدعة الظاهرية (Docetists) الذين كانوا يؤمنون بأن المسيح ليس إنسانا، ولكنه شبه للناس بأنه إنسان. ويوحنا يربط هؤلا الأتباع بالمسيح الدجال (الاية 7) ويطلب من المسيحيين ألا يستقبلوا أيا منهم، وخصوصا أيا من معلميهم الدجالين لكي يتحاشوا شرهم.
فلا يجوز اطلاقا أن نربط ذاك الوضع المتأزم الذي يشير إليه يوحنا، بالوضع القائم اليوم وبالجهود التي تمت في القرن العشرين للوصول إلى وحدة الإيمان بين مختلف المذاهب المسيحية التي تقول ان يسوع المسيح هو اله حق وإنسان حق.
الهدف من الحركة المسكونية هو الوصول يوما ما إلى إيمان واحد يعترف به المسيحيون قاطبة بحيث يصبحون شعبا واحدا يرعاه يسوع المسيح (يو 10/16). وبهذا الشأن قال المجمع الفاتيكاني الثاني في قراره في الحركة المسكونية: "عن طريق كنيسة المسيح الكاثوليكية وحدها – التي تعتبر العون العام للخلاص – يمكن الوصول إلى الكمال التام للوسائل الخلاصية. وذلك لان الجماعة الرسولية الوحيدة التي يرأسها بطرس هي – طبقا لايماننا - التي عهد الرب إليها بجميع خيرات العهد الجديد، لإقامة جسد واحد للمسيح على الأرض. ومن ثم فلا بد لكل من ينتمي إلى شعب الله، أن يندمج في هذا الجسد اندماجا تاما" (رقم 3).
190
أين نجد في الكتاب المقدس أن يسوع أتى إلى الأرض لكي يموت فيخلصنا من خطايانا؟
المراجع كثيرة. راجع، على سبيل المثال، في إنجيل يوحنا، قول السيد المسيح لنيقوديمُس:
"إن الله بلغ من حبه للعالم أنه جاد بابنه الواحد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يو3/16-17)
وراجع ايضا القديس بولس في رسالته إلى أهل روما حيث يقول:
"مات المسيح في الوقت المحدد من أجل قوم كافرين. ولا يكاد يموت احد من أجل امرىء بار، وربما جرؤ احد أن يموت من أجل امرىء صالح. أما الله فقد دل على محبته لنا بأن المسيح قد مات من أجلنا اذ كنا خاطئين. فما أحرانا اليوم وقد بُرّرنا بدمه، أن ننجو به من الغضب".
191
لا تُغفرالخطيئة ضد الروح القدس، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، (متى 12/31-32) فكيف تشرح ذلك؟
قال يسوع: "كل خطيئة وتجديف يُغفر للناس، وأما التجديف على الروح القدس فلن يُغفر. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، أما من قال على الروح القدس، فلن يغفر له لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة" (متى 12/31-32). إن الخطيئة المذكورة في هذه الآية هي إصرار الإنسان على خطيئته ورفضه للتوبة. فإذا رفض الإنسان أن يتوب وأصر على خطيئته حتى الممات فكيف يغفر الله له؟ فالله لا يفتح أبواب الناس بالقوة، ولا يغفر لخاطىء لا يرى انه خاطىء ويرفض الغفران.
قال البابا يوحنا بولس الثاني إن الخطيئة ضد الروح القدس هي خطيئة الانسان الذي يرفض التوبة ويدعي بان له الحق بالبقاء في خطيئته، أيا كانت، وبالتالي فهو يرفض الخلاص. فهذا يعني أن الشخص يغلق نفسه بخطيئته فيصبح من المستحيل عليه أن يتوب ويعتبر أن لا حاجة له للتوبة والخلاص.
192
ماذا نعني بقولنا: "لا تدخلنا في التجارب". فهل الله هو الذي يُسقطنا في التجارب؟
الإنسان المسيحي يرى أن حياته كلها حرب موصولة بين الجسد والروح، بين الخطيئة والنعمة. "لا تدخلنا في التجارب" تعني " لا تدعنا نسقط في التجربة". السقوط في التجربة أي الرضى بالتجربة هو الخطيئة. ونحن نطلب من الله الا يدعنا نسقط فيها.
يعقوب الرسول يقول: "إذا جُرّب احدكم فلا يقل: "إن الله يجربني". إن الله لا يجربه الشر ولا يجرب احدا، بل الشهوة تجرب الإنسان فتستهويه وتغويه".(1/13-14). فالله لا يريد ان نسقط في التجربة ولا يرغم على الخير أحدا.
راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2846 – 2849 .
193
ماذا يعني يسوع بقوله: "في بيت أبي منازل كثيرة" ؟
عندما قال السيد المسيح لتلاميذه: "في بيت أبي منازل كثيرة، ولو لم تكن لقلت لكم" (يو 14/2) يعني أمرين:
1 - أن في السماء مكانا لكل إنسان. لن تُغلق السماء بوجه أحد بسبب امتلائها من نفوس الصديقين. لن يسمع أحد من الصديقين أحد الملائكة يقول له: "آسف امتلأت السماء وليس من مكان".
2 - في السماء درجات متفاوته للقديسين. كل واحد يكون سعيدا وممتلئا سعادة ، ولكن سعادة كل منهم تقاس بمقياس الحب الذي عاشه على الأرض. جميع الكؤوس مملتة تماما وليس فيها مكان لإضافة نقطة واحدة، ولكن الكؤوس يختلف بعضها عن بعض، منها الكبير ومنها الصغير ...الخ. بولس الرسول قال بصدد هذا التفاوت في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس: "الشمس لها ضياء، والقمر له ضياء آخر، وللنجم ضياء، وكل نجم يختلف بضيائه عن الآخر. وهذا شأن قيامة الأموات (1 كو 10/ 41-42). وقال أيضا بهذا الصدد لأهل كورنوتس : "من زرع قليلا حصد قليلا، ومن زرع كثيرا حصد كثيرا" (2 كو 9/6).
194
قال أحد الكهنة إن كلام يسوع في متى 7/14 و 22/14 ، وفي لوقا 13/23-24 هو من باب التشبيه وإن عدد الهالكين ضئيل جدا ولا يؤخد بحرفيته. فما رأيك في ذلك؟
الكتاب المقدس يؤكد أن جهنم لا تخلو من السكان. الله يعلم كم يبلغ عددهم. ولكي نتحاشى السقوط في جهنم، فقد حذرنا السيد المسيح وطلب منا أن ندخل من الباب الضيق: "الطريق المؤدي إلى الهلاك رحب واسع، وما اكثر الذين يسلكونه. إن الباب ضيق والطريق المؤدي إلى الحياة حرج، وما أقل الذين يهتدون إليه" (متى 7/13-14). إنه يقول "أدخلوا من الباب الضيق".
الدخول من الباب الضيق أو من الباب الواسع مسؤولية الإنسان. الإنسان حر وهو يستخدم حريته في سبيل مصيره الابدي. فالله لا يحدد مسبقا مصير أحد في جهنم، بل جهنم هي لمن يكره الله بملء إرادته (الخطيئة المميتة) ويثبت في هذا الكره حتى النهاية. والكنيسة في الليتورجيا الإفخارستية وصلواتها اليومية، تلتمس للناس رحمة الله الذي لا يريد أن يهلك أحد، ويريد أن يُقبل الجميع إلى التوبة. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1037).
أما الباب الضيق فهو باب التوبة حيث يكتشف الإنسان مواقع ضعفه وجهله وأنانيته وكبريائه ... الخ، ويضعها أمام الرب ويطلب الرحمة والشفاء، والله رحوم غفور يغفر لمن يرجع ويتوب إليه صادقا. ونحن إذ نجهل ساعة موتنا، ينبغي علينا عملا بوصية الرب، أن نظل دوما متيقظين على التوبة لكي نكون في عداد المباركين، لا في عداد العبيد الكسالى، المرذولين من الله، والذين مصيرهم إلى النار الأبدية والظلمة البرانية حيث البكاء وصريف الأسنان" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1036).
195
ما معنى "يسوع المسيح"؟
هل هو اسم مركب، كما لو تقول"سامي حنا؟
"يسوع المسيح" ليس اسما مركبا، ولكنه اعتراف بالإيمان بان يسوع هو المسيح الذي ارسله الله، ومسحه الروح القدس، وخلص العالم بتجسده والامه وموته وقيامته:
1 – "يسوع" كلمة عبرية تعني "الله يخلص". وهي تعبر عن سر يسوع الإلهي وعن رسالته الخلاصية. لقد بشر الملاك الرعاة بميلاد المسيح على أنه المسيح المخلص: "اليوم في مدينة داود وُلد لكم مخلص هو المسيح الرب" (لو 2/11). فهو ذاك الذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم (يو 10/36). فالطفل الذي ولدته مريم البتول دُعي يسوع لأنه هو الذي سيخلص شعبه من خطاياه (متى1/21). وليس تحت السماء اسم آخر أُعطي في الناس، به ينبغي أن نخلص (رسل 28/2). قال بولس الرسول إن هذا الاسم يفوق كل اسم وتخشاه الأرواح الشريرة. وبهذا الاسم صنع الرسل المعجزات لأن كل ما يسألون الآب "باسمه" ينالونه (يو 15/16). وقد أصبح اسم يسوع في قلب الصلاة المسيحية، وهو يختتم جميع الصلوات الليتورجية: "بربنا يسوع المسيح".
2 – أما كلمة المسيح فهي مشتقة من لفظة "ماسيا" العبرية وتعني الممسوح. لأن الله مسحه بالروح القدس والقدرة (رسل 10/38). في إسرائيل كان الملوك والكهنة يُمسحون بالزيت المقدس دلالة على أنهم مسحاء الله.
كان لا بد للمسيح من أن يمسحه روح الرب ملكا وكاهنا ونبيا كما تنبأ أشعيا النبي (11/2). فتكريس يسوع المسيحاني يُظهر رسالته الإلهية. القديس ايريناوس يقول: "اسم المسيح يحتوي على مَن مَسَحَ، ومَن مُسِحَ، وما به مُسِحَ: الماسح هو الآب، والممسوح هو الابن، وقد مُسح بالروح". وقد كشف عن تكريسه المسيحاني الأزلي في حياته الأرضية، عند عماده، لكي يُظهر لإسرائيل (يو 1/31) على أنه مسيحه. وأعماله وأقواله أثبتت أنه قدوس الله. وأعلن بطرس أمام الشعب قائلا: "فليعلم يقينا جميع بيت إسرائيل أن الله قد جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم، ربا ومسيحا" (رسل 2/36).
راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 430 – 440).
196
أين ورد في العهد الجديد أن يسوع المسيح هو ابن الله؟
"ابن الله" يعني علاقة البنوة الوحيدة والأزلية بين يسوع المسيح والله الآب أبيه. إنه الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. إنه الله بالذات: "إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق".
كان لقب "ابن الله" يُعطى للشعب المختار، لأبناء إسرائيل ولملوكهم. وهو يعني في ذلك العهد، بنوّة بالتبني تجعل بين الله وخليقته دلالات ألفة خاصة.
إلا أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى بطرس عندما اعترف بأن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، إذ أن يسوع بيّن بجوابه الرسمي والعلني أن: "ليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السموات" (متى 16/17). كذلك أجاب يسوع على سؤال المجلس لدى محاكمته بعد القبض عليه في بستان الزيتون: "أفأنت إذن ابن الله؟ أجاب قائلا: "انتم تقولون اني أنا هو" ( لو 22/70). والأناجيل أيضا في موقفين احتفاليتين، عند عماد يسوع وعند تجليه، تذكر صوت الآب يعلنه ابنا لله محبوبا.
وقد أعلن السيد المسيح أيضا لنيقوديمس قائلا: "إن الله بلغ من حبه للعالم أنه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يهلك من يؤمن به، بل ينال الحياة الأبدية" (يو 3/16) وهو بذلك يؤكد سره الأبدي. وبقوله: "من لم يؤمن به حُكم عليه لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يو 3/18) فهو يطلب الإيمان باسم ابن الله الوحيد. وهذا الإعتراف المسيحي يظهر في تعجب قائد المائة أمام يسوع المصلوب: "كان هذا الرجل ابن الله حقا" (مر 15/39)
السر الفصحي يعطي الأبعاد الإلهية للمسيح "ابن الله". فبعد قيامة المسيح تظهر بنوته الإلهية في قوة بشريته الممجدة. فهو: "ولد من ذرية داود من حيث إنه بشر، وجعل ابن الله في القوة بقيامته من بين الأموات من حيث انه روح القداسة، ألا وهو ربنا يسوع المسيح" (رو 1/3-4). وقال أيضا بولس الرسول في شأن اهتدائه: "لما ارتضى الله، الذي فرزني من جوف أمي ودعاني بنعمته، أن أعلن ابنه فيّ لأبشّر به بين الامم ... " (غلا 1/15-16). وورد في أعمال الرسل أنه أخذ للحال يكرز في المجامع بأن يسوع هو ابن الله (رسل 9/20). وهذا هو منذ البدء ركيزة الإيمان الرسولي الذي أعلنه أولا بطرس أساسا للكنيسة. وقال الرسل: "شاهدنا مجده، مجدا من الآب لابنه الوحيد الممتلىء نعمة وحقا" (يو 1/14)
197
المسيح هو كلمة الله كما ورد في مطلع إنجيل يوحنا. فكيف نفهم ذلك؟
يوحنا الحبيب، بوحي من الله كتب إنجيله، وكتب مقدمته التي ترتفع بنا إلى أعالي السموات لتضع المسيح في حقيقته اللاهوتية. وبالتالي فالقضية هنا هي قضية إيمان، قبل أن تكون قضية فهم. والكلمة (اللوغس Logos باليونانية) الذي يحدثنا عنه يوحنا يعني ابن الله الذي صار إنسانا كما ورد في مطلع انجيل يوحنا:
"في البدء كان الكلمة
والكلمة كان لدى الله
والكلمة هو الله ...
والكلمة صار بشرا فسكن بيننا" (يو 1/1 ، 14).
الكلمة هو سابق كل الخلائق المنظورة وغير المنظورة. إنه الله. كل شيء خلق به وهو الحياة لكل حي. فالمسيح ابن الله الذي صار إنسانا هو كلمة الآب الوحيد والفريد والذي لا يمكن أن تفوقه كلمة. فيه يقول الله كل شيء، وما من كلمة لله سواه. القديس يوحنا الصليبي يفسر ويقول:
"إن الله اعطانا ابنه الذي هو كلمته. لم يبق لديه كلمة أخرى يعطينا إياها. لقد قال لنا كل شيء دفعة واحدة في هذا الكلمة الوحيد، وليس له شيء آخر يقوله ... لأن ما كان يقوله متفرقا في الأنبياء قاله مجتمعا في ابنه" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 65)
ولذلك فإن الإيمان المسيحي لا يستطيع أن يتقبل وحيا يَدّعي أنه يفوق الوحي الذي كان المسيح كلمة الله نهايته. آباء الكنيسة في الأجيال الثلاثة الأولى توسعوا في لاهوت "الكلمة" بسبب التأثيرات الأفلاطونية. ومنعا للالتباس وضعوا في قانون الإيمان بصريح العبارة أن الكلمة أزلي، وأنه مولود وأنه غير مخلوق.
198
من هو بيلاطس البنطي الذي حكم على يسوع؟ نجد اسمه في بعض الترجمات"بنطيوس بيلاطس" وفي غيرها "بيلاطس البنطي" فأي الإسمين هو الأصح؟
"بيلاطس البنطي" بالعربية، وبنطيوس بيلاطس (Pontius Pilatus) باللاتينية، أقامه الإمبراطور الروماني واليا على اليهودية سنة 29 للميلاد واستمر حكمه الى ما بعد صعود يسوع الى السماء. وكان يقيم في مدينة قيصرية ويصعد الى أورشليم في الأعياد.
ذكر لوقا بيلاطس في مطلع حياة يوحنا المعمدان العلنية إذ قال: "في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيباريوس، إذ كان بيلاطس البنطي حاكم اليهودية … كانت كلمة الله إلى يوحنا بن زكريا في البرية" ( لو 3/1-4). وذكره الإنجيليون بنوع خاص بصفته قاضيا في محاكمة يسوع. فقد ذكر متى (27/1) أن اليهود قادوا يسوع وسلموه إلى الحاكم بيلاطس لكي يوافق على حكمهم بالموت على يسوع ويأمر بصلبه. وكان الحكم على أحد بالموت من حقوق الحاكم الروماني دون سواه. وكذلك ذكره مرقس (15/ 1-15)، ولوقا ( 23/1-24) ويوحنا (يو 18/29 -40، 19/1-16).
يقول أيضا لوقا ان بيلاطس عندما علم أن يسوع من الجليل، أي من ولاية هيرودس، أرسله إلى هيرودس وكان هو أيضا في أورشليم في تلك الايام. وقال أيضا لوقا: "وتصادق هيرودس وبيلاطس يومئذ وكانا قبلا متعاديين" (23/12). وأما سبب العداوة التي كانت بينهما فهو أن هيرودس وقّع على رسالة الشكوى ضده التي أرسلها اليهود إلى روما احتجاجا على تصرفاته القاسية. ويذكر المؤرخ يوسيفوس حدثين جرحا الشعور الديني لدى اليهود والسامريين. فقد اخذ بيلاطس من مال الهيكل من أجل بناء قناة المياه وحطم مقاومة اليهود، ومرة ثانية عاقب بقساوة شرسة السامريين. فعزله فيتاليوس والي سورية وأرسله إلى روما ليؤدي عن أعماله حسابا.
199
ذكر الإنجيليون هيرودس والهيرودسيين، فمن هو هيرودس ومن هم الهيرودسيون؟
اولا – بالنسبة لهيرودس، فإن كثيرين في العهد الجديد يحملون هذا الإسم:
1 – هيرودس الكبير (ملك من سنة 39 قبل المسيح – إلى سنة 4 بعد المسيح) وهو الذي وُلد في عهده المسيح وأمر بقتل أطفال بيت لحم وضواحيها، كما ورد في متى 2/16. وهو الذي قضى على سلالة الحشمونيين وألغى العادة التي بموجبها يمارس رئيس الكهنة وظيفته مدى الحياة. تميز حكمه بالعمران وبنى مدنا جديدة مثل سبسطية وقيصرية وبنى قلعتين باسم هيروديون واحدة بالقرب من بيت لحم والأخرى شرقي البحر الميت وهي قلعة مكاور، وجمّل المدن القديمة والحديثة بأبنية فخمة. وفي السنة 18 من عهده بدأ العمل في بناء هيكل أورشليم وما انتهى هذا العمل إلا في عهد الحاكم الروماني ألبينوس (62-64 بعد الميبلاد) وبنى قلعة الأنطونيا والقصر الملكي.
وقد احترم عادات الشعب القديمة، وتعامل مع حزب الفريسيين بالحسنى. ولكن الضرائب الباهضة التي فرضها لتمويل البناء خلقت لدى الشعب غضبا. وكثرت في حياته الخاصة الأعمال الشاذة، وسمي بالكبير بسبب سياسته والمدن الكثيرة والأبنية العظيمة التي بناها. لا نعرف بالتأكيد كيف مات هيرودس. فالمؤرخ اوسابيوس القيصري استنادا إلى كتابات منحولة يقول أن بيلاطس انتحر. وقال غيره أن الامبراطور نيرون أعدمه، وقال غيرهم أن الامبراطور طيباريوس أعدمه وأنه مات مسيحيا تائبا، ولا نستغرب أن تشمله رحمة المسيح الفادي.
2 – هيرودس أنتيباس وهو الابن الثاني لهيرودس الكبير وُلِد حوالي سنة 22 قبل الميلاد وتربى مع مناين المعلم المسيحي الذي ورد ذكره في أعمال الرسل (13/1). عيّنه والده في وصيته خلفا له سنة 4 قبل الميلاد. سماه لوقا أمير الربع على الجليل (لو 3/1) بينما سماه مرقس "الملك" كما كان يفعل الشعب آنذاك (مر 6/14) واسمه على العملة "هيرودس" ولذلك كثيرا ما خلط الناس بينه وبين والده هيرودس الكبير. تزوج ابنة الملك العربي الحارث وكان زواجه منها زواجا سياسيا هدفه حماية أرضه من هجمات العرب. ولكن بمناسبة سفره إلى روما تزوج من هيروديا زوجة أخيه فيليبس من أبيه هيرودس (مر 6/17) وعندما عرفت زوجته ابنة الحارث بالامر عادت إلى أبيها. فعاد إلى البلاد مع هيروديا وهو الذي امر بقطع راس يوحنا المعمدان (مر 6/17- 29 ).
كان هيرودس أنتيباس ثعلبا محتالا (لو 13/32) وطموحا ومحبا للبذخ ودافع عن حساسيات اليهود ضد بيلاطس مما خلق عداوة بينهما (لو23/12). تعرف إلى يسوع عن قرب حين أرسله اليه بيلاطس على أنه جليلي ولا يقع تحت حكمه (لو 23/8-12) وسخر منه وكان وفيا لروما شأنه في ذلك شأن أبيه. حسده أخوه هيرودس أغريبا الأول فوشى به إلى روما فنفاه الإمبراطور إلى مدينة ليون في فرنسا ورافقته هيروديا إلى هناك ورفضت العفو الذي قدمه لها الإمبراطور. وهناك أمر الإمبراطور بقتله.
3 - هيرودس أغريبا الأول ملك اليهود حفيد هيرودس الكبير، مَلَكَ من سنة 37 إلى سنة 44 بعد المسيح. عاش في شبابه حياة طائشة ماجنة وحكم اليهودية والسامرة من سنة 41 إلى سنة 44. اضطهد المسيحية (رسل 12/1-19) لكي يرضي اليهود، وهو الذى أمر بقتل يعقوب الرسول وأمر بسجن بطرس. مات فجأة في صيف سنة 44 في قيصرية (رسل 12/2-23).
4 - هيرودس أغريبا الثاني ابن هيرودس أغريبا الاول ولد سنة 27 ميلادية في روما حيث تربى. حين مات والده لم يستطع ان يخلفه لصغر سنة. في سنة 48 عينه الإمبراطور كلاوديوس ملك خلقيس (عنجر الحالية في لبنان) وفي سنة 49 عينه مراقبا للهيكل مع حق تسمية عظيم الكهنة. وفي سنة 53 عَيِّن ملكا على تتراخية فيليبس وليسانيا. وفي سنة 55 وسع نيرون سلطانه فضم إلى مملكته طبريا وتراخينيدوس وليفياس. وفي أيامه تم بناء الهيكل (62-64)، ورصف شوارع أورشليم بالبلاط.
سفر إعمال الرسل يذكر هيرودس أغريبا الثاني 25/13-26، 26/1-2) فأمامه وأمام اخته برنيقة تكلم بولس مدافعا عنى نفسه ضد شكاوى اليهود عليه، وكاد يطلق سراح بولس لو لم يرفع بولس شكواه إلى روما وتوفي حوالي سنة 93 ميلادية.
ثانيا – أما الهيرودسيون فقد ورد ذكرهم في مرقس عندما تآمروا على يسوع مع الفريسيين (مر 3/6) وذكرهم متى حين قال: "ذهب الفريسيون وعقدوا مجلس شورى ليصطادوه بكلمة. ثم أرسلوا اليه تلاميذهم والهيرودسيين يقولون له: "يا معلم... قل لنا ما رأيك: أيحل دفع الجزية إلى قيصر أم لا؟" (متى 22/15-17). وكذلك ذكرهم مرقس في تحالفهم هذا مع الفريسيين ضد يسوع. لقد كان الهيرودسيون خصوما ليسوع وكانوا يعتبرون هيرودس الكبير مسيحا. ولم يكونوا شيعة يهودية أو حزبا سياسيا، بل كانوا رجال حاشية هيرودس انتيباس.
200
من هو يوسف الرامي الذي دفن السيد المسيح في قبره؟
يوسف الرامي أي يوسف الذي من الرامة. والرامة مدينة تقع إلى الشمال الغربي من أورشليم وتبعد عنها حوالي 35 كيلومترا. سكن يوسف أورشليم حيث كان له مصالح كثيرة، وله فيها ممتلكات. وحفر له في الصخر، في إحدى أراضية قبرا جديدا، فيه دفن يسوع، كما ذكر إنجيل متى (27/60).
يذكر الإنجيل أنه كان رجلا غنيا (متى 27/57) وأنه لعب دورا أساسيا في دفن يسوع، وأنه كان عضوا وجيها في المجلس (مر 15/43). وذكر لوقا أنه امرىء صالح بار لم يوافقهم على مكرهم بيسوع (لوقا 23/50). وكان تلميذا ليسوع سرا لخوفه من اليهود (يو 19/38).
بعد موت يسوع على الصليب، طلب يوسف الرامي من بيلاطس جسد يسوع فأذن له بيلاطس بعدما تأكد من موته. فدفنه يوسف في قبره وأرضه وساعده على ذلك نيقوديموس وآخرون من أعوانهما ومرافقيهما.
201
وُلد يسوع ولد في بيت لحم اليهودية، فهل هناك مدينة غيرها تُعرف بهذا الاسم؟
1 - بيت لحم التي ولد فيها المسيح هي بيت لحم الواقعة في اليهودية. وهي تبعد 7 كيلومترات الى الجنوب من أورشليم. وهي أصلا مدينة كنعانية. ويذكر سفر الأخبار الأول أن حور، من بني كالب، من عشائر يهوذا، وهو بكر أمه أفراته قد بناها (1أخ 4/4) ولذلك سميت مرارا مدينة أفراته أو بيت لحم أفراته.: "ماتت راحيل ودفنت في طريق أفراته وهي بيت لحم" (تك 35/19، 48/7). وتنبأ ميخا وقال: "لكن يا بيت لحم أفراته، صغرى مدن يهوذا، منك يخرج لي سيد على بني إسرائيل يكون منذ القديم منذ أيام الأزل" (مي 5/2). وفي أيام داود كانت بيت لحم تحت سلطة الفلسطينيين (2صم 23/14، 1 أخ 11/16). ولكنها استعيدت في ما بعد. وعاد وسكنها اليهود الراجعون من سبي بابل. ويذكر الإنجيليون متى ولوقا ويوحنا أن المسيح ولد في بيت لحم. وبعد انتهاء الإضطهاد على المسيحيين في مطلع القرن الرابع، بنت فيها القديسة هيلانة، أم الإمبراطور قسطنطين بازيليكا فوق المهد وهى لا تزال قائمة.
2 – ويوجد أيضا بيت لحم في زبولون وتبعد 11 كيلومترا إلى الشمال الغربي من مدينة الناصرة. وقد ورد ذكرها في سفر يشوع 19/15. وهي موطن إبصال الذي تولى القضاء في إسرائيل بعد يفتاح كما ورد في سفر القضاة (12/8)
ولذلك كان لا بُدَّ للإنجيلي من أن يقول بيت لحم اليهودية لكي يميزها عن بيت لحم في ارض زبولون.
202
بطرس شهد بحقيقة يسوع في نواحي قيصرية فيليبس، فهل هنالك مدينة أخرى، في عهد المسيح تحمل أيضا اسم قيصرية؟
1 – قيصرية فيليبس بناها هيرودس فيليبس عند منابع نهر الأردن، على سفح جبل حرمون من الجهة الجنوبية الغربية. وسماها "قيصرية إكراما لقيصر " وقيصرية فيليبس" تخليدا لاسمه هيرودس فيليبس. واسمها القديم بانياس إذ بنى فيها اليونان معبدا للاله بان (من هنا بانياس). وكانت مركز حضارة يونانية. وكان الموقع يشرف على الطريق بين صور ودمشق ويحرس السهل الخصب قرب بحيرة الحولة الذي ترويه ينابيع الأردن. الإنجيليون متى ومرقس ولوقا يجعلون في جوار قيصرية فيليبس اعتراف بطرس بيسوع ووعد يسوع لبطرس.
2 – وهنالك أيضا قيصرية فلسطين أو قيصرية ستراتون وهي مدينة ومرفأ على شاطىء البحر المتوسط، إلى الجنوب من حيفا، وإلى الشمال من يافا. بناها هيرودس الكبير بين سنة 9 وسنة 12 قبل الميلاد قرب برج ستراتون القديم. وسرعان ما صارت أهم مرفأ في فلسطين بسبب موقعها ومنشآتها. وبعد موت أغريباس الأول صارت مركز إقامة الولاة الرومانيين
أقام فيها الشماس فيليبس ( اعمال 21/8). وفيها كان كورنيليوس قائد المائة من الكتيبة التي تدعى الكتيبة الإيطالية، والذي بشّره بطرس وعمّده هو وأهل بيته (رسل 10/1 – 48). وسجن فيها بولس وتكلم أمام الملك أغريبا الثاني (رسل 23/23-25 ، 24/27، 25/1-13).
من أهم الآثار فيها المسرح وملعب الخيل. وفي سنة 1961 عثر على كتابة لاتينية في المسرح تقول: "طيباريوس...بيلاطس البنطي، حاكم اليهودية" هذا ما يدل على أن بيلاطس البنطي هو الذي شيد هذا البناء إكراما للإمبراطور طيباريوس. ويعود هذا النص إلى ما بين سنة 26 وسنة 36 بعد الميلاد ودَلّ على أن الوالي كان يمثل الإمبراطور في المنطقة الموكولة إلى ادارته حيث كان يقوم بوظائف عسكرية وإدارية ومالية.
203
متّى يذكر أن المجوس جاؤوا من المشرق وسجدوا ليسوع، فمن هم المجوس ومن أي بلد جاؤوا؟
1 - من أين جاء المجوس؟ يقول متى إنهم جاؤوا من المشرق. ولذلك يبقى الباب مفتوحا لجميع الافتراضات. فالبعض يقول إنهم جاؤوا من شرقي الأردن أو من سورية أو من بلاد العرب، والبعض الآخر قالوا إنهم كلدان، وغيرهم قالوا إنهم كهنة من بلاد فارس كانوا يتعاطون علم الفلك. هناك اشارة اركيولوجية ثمينة تعود إلى زمن قسطنطين تعتبر أن المجوس جاؤوا من بلاد فارس. وهي أنه لما جاء كسرى الثاني الفارسي واستولى على فلسطين ودمر معابدها (سنة 614) عفا عن كنيسة بيت لحم التي بنتها والدة الملك قسطنطين لأنه رأى لوحة الفسيفساء التي تمثّل سجود المجوس وهم في ثياب أهل بلاد فارس، فظنّ أن هذا المكان المقدس له علاقة ببلاده.
2 - ليس المجوس من أصل ملكي. ولكن التقليد الشعبي انطلق من المزمور 72 /10: "ملوك سبا وشبأ يقربون له العطايا" وأشعيا 60/6: "يأتون من شبأ حاملين ذهبا ولبانا". وجعل منهم التقليد ملوكا واعتبرهم من الأمم الوثنية. وقد اعترفوا بالمسيح بينما تجاهله اليهود وهيرودس. ويعود هذا التقليد الى ترتليانوس (مطلع القرن الميلادي الثالث) ولكن لا نجد ذلك في النص الإنجيلي وليس لهذه المقولة أساس تاريخي. الفن المسيحي القديم لا يصورهم أبدا في اللباس الملوكي، بل في قبعة على مثال وجهاء بلاد فارس.
ربما كانو أناسا يتبعون تعليم زرواسترا من قبيلة المجوس. ويقول المؤرخ اليوناني هيرودوتس أن المجوس كانوا يقيمون في ماداي قبل أن يصبحوا فرقة كهنوتية منغلقة على ذاتها ومحافظة على نقاوة عبادة مزدا. لم يكن المجوس كلهم كهنة. ولكن جميع الكهنة كانوا من هذه القبيلة.
3 - تحدث التقليد المسيحي عن عدد المجوس. قيل أنهم اثنان، وثلاثة (في وثيقة محفوظة في متحف اللتران)، وأربعة (في مقبرة القديسة دوميتيلا)، وثمانية (على اناء في متحف كرشارينافو). التقاليد السريانية والأرمنية : 12 مجوسيا. ولكن العدد "ثلاثة" سيطر وذلك بالنظر إلى عدد الهدايا: الذهب واللبان والمر. المعنى الروحي هو السجود ليسوع المسيح الملك، ودخول الوثنيين في الكنيسة بشكل شرعي. وهناك مخطوط ايطالي يعود إلى القرن التاسع، يذكر اسماءهم: ملكيور وبلتزار وغسبار. وأُعطيت لهم اسماء أخرى في أماكن مختلفة من العالم.
204
كيف كانت طبيعة الحكم والسياسة في اليهودية والسامرة والجليل في عهد السيد المسيح؟
كانت البلاد ترزح تحت الإستعمار الروماني، وقد احتلها الرومان سنة 63 قبل الميلاد على يد القائد بومبيوس وأطلقوا عليها اسم فلسطين نسبة إلى الفلسطينيين الذين قطنوا الساحل ما بين جنوب غزة ويافا.
ومن الناحية الإدارية، فضّل الرومان أن يحكموا البلاد من خلال ملوك محليين، كان اولهم هيرودس المعروف بالكبير والمولود عام 74 قبل الميلاد، ثم عن طريق ابنائه. وحكم هيرودس الكبير ما بين سنة 40 قبل الميلاد إلى سنة 4 للميلاد واشتهر بمشاريع عمرانية كثيرة وأهمها إعادة بناء الهيكل في أورشليم الذي دمره البابليون سنة 586 قبل الميلاد. ومات ولم تُكتمل أعمال البناء التي دامت بعده 18 سنة ودمرها الرومان سنة 70 للميلاد. ويذكر الإنجيل أولاد هيرودس الثلاثة الذين تقاسموا، بموافقة روما، إدارة شؤون البلاد من بعده وهم:
1 - أرخيلاوس رئيس ربع على اليهودية وفي زمنه رجع يوسف ومريم ويسوع من مصر (متى 2/22).
2 - وهيرودس أنتيباس رئيس ربع على الجليل وبيريا (عِبر الأردن) وكان له دور مباشر في سيرة يسوع (لو 13/32، 23/8-12) وخُلع سنة 39 ميلادي لسوء سلوكه.
3 - وفيليبس رئيس ربع على ناحية ايطورية وطراخونيطس وابيلينيا.
وأما المقصود ب "رئيس ربع" أي ربع ما كان يحكمه هيرودس الكبير على وجه التقريب.
أما من الناحية السياسية فقد أُنيط حكم البلاد بمندوب خاص للإمبراطور الروماني. وكان المندوب يقيم عادة في قيصرية الواقعة على شاطىء البحر المتوسط على بُعد 32 كيلومترا جنوبي حيفا، وسميت لاحقا بقيصرية البحرية لتمييزها عن قيصرية فيليبس عند الحدود الشمالية لفلسطين (متى 16/12). تحاشى مندوب الإمبراطور أن يقيم في أورشليم لكثرة القلاقل فيها، ولم يكن يتوجه اليها إلا في الأعياد اليهودية الكبرى تفاديا لثورات محتملة. وكان يصطحب كوكبة مختارة من الجنود ويقيم في القلعة الأنطونية الواقعة إلى الجانب الغربي من الهيكل.
205
هل كان السيد المسيح يقرأ ويكتب؟
كانت الناصرة قرية صغيرة وكان الأولاد يذهبون إلى المجمع ليتعلموا القراءة في الكتاب المقدس والكتابة. نستنتج أن يوسف ومريم أرسلا يسوع لكي يتعلم القراءة والكتابة: "كان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس" (لو 2/52)
وقد ورد في الإنجيل المقدس ما يثبت أن يسوع كان يقرأ ويكتب. فقد ذكر لوقا صراحة أن يسوع يقرأ إذ قال: "وأتى الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر النبي أشعيا، ففتح السفر فوجد المكان المكتوب فيه: "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر الفقراء..." (لو 4/16-18). وذكر متى أن يسوع كان "يعلم في مجامعهم" (متى 4/23) ولم يتعجب الناس من أن يسوع يقرأ ويكتب بل تعجبوا فقط من حكمته والتعليم الجديد الذي كان يأتي به (متى 13/54). وذكر مرقس أنه كان "يبشر في مجامعهم" (مر 1/39)، مما يدل على أن يسوع كان يقرأ ويكتب وأنه كان رجلا مثقفا في أمور الدين يعرف الأسفار المقدسة معرفة جيدة.
كذلك ذكر يوحنا أن الكتبة والفريسيين، عندما أتوه بإمرأة أخذت في زنى قالوا له: "يا معلم، إن هذه المرأة أُخذت في الزنى المشهود. وقد أوصانا موسى في الشريعة برجم أمثالها. فأنت ماذا تقول"؟... فانحنى يسوع يخط بإصبعه على الأرض" (يو 8/4-8) اي انحنى يكتب باصبعه على التراب.
206
ما هي البلاد التي بشر فيها السيد المسيح في حياته العلنية؟
يُطلعنا الإنجيل على أسماء البلاد التالية التي بشر فيها السيد المسيح بملكوت الله:
1 – اليهودية. وهي الاقليم الجنوبي من فلسطين وسميت هكذا نسبة إلى سبط يهوذا بن يعقوب. في القرن الأول قبل الميلاد ضُمّت إليها بلاد أدوم وهي واقعة جنوب اليهودية وأجبر المكابيون أهلها على اعتناق اليهودية دينا ولكن نجاحهم كان ضيئلا جدا. وجدير بالذكر بأن هيرودس الكبير كان أدوميا.
يمتد إقليم يهوذا من البحر المتوسط غربا إلى نهر الأردن شرقا ومن أعلى شبه جزيرة سيناء جنوبا إلى السامرة شمالا عند منتصف الطريق بين رام الله ونابلس. وأهم مدن اليهودية: أورشليم والخليل حيث قبور إبراهيم وسارة ورفقة وليا ويعقوب، وبيت لحم مسقط رأس الملك داود.
2 – السامرة. تحدها مقاطعة اليهودية جنوبا، والجليل من الشمال، ونهر الأردن من الشرق والبحر المتوسط من الغرب. أشهر مدنها: سبسطية (وتعني العَظَمَة والكرامة) وسيخار (بلدة عسكر اليوم) ضمن حدود مدينة نابلس الحالية بالقرب من بئر يعقوب حيث تم لقاء يسوع والمرأة السامرية. ابتداء من القرن الخامس قبل الميلاد اعتبر اليهود أهل السامرة شعبا غريبا من حيث الدين ومنشقا قوميا عن باقي البلاد العبرية.
3 – الجليل. تقع شمال فلسطين وتمتد من السامرة إلى الجنوب الشرقي من بلاد الفينيقيين. وكلمة الجليل تعني الدائرة. اشتهر اهلها بالزراعة والصيد. وفي الجليل تم معظم تبشير يسوع. أما أهم مدنها فهي كفرناحوم وسفورية. وقد كانت الناصرة آنذاك قرية صغيرة ولم تُذكر في العهد القديم اطلاقا.
4 – بيريا. أي عِبر الأردن وهي المنطقة الواقعة شرقي نهر الأردن وتمتد من طبقة فحل وحتى قلعة مكاور جنوبي البحر الميت. إنها شريط ضيق. من أشهر مدنها بيت عنيا حيث كان يوحنا يعمد وقلعة مكاور حيث سجن يوحنا وقُطع رأسه وكانت عاصمتها جادارا ( أو جادورا) بالقرب من مدينة السلط. وفيها "عين الجادور" نسبة إلى جدارا العاصمة.
5 – المدن العشر. وهي تحالف من عشر مدن واقعة من الجهة الشرقية من نهر الأردن باستثناء واحدة غربي النهر وهي بيسان (سيتوبوليس). منها جرش Gerasa، وعمان وكانت آنذاك تدعى فيلادلفيا. كانت المدن العشر تحت الحكم الروماني وكانت تنعم باستقلال داخلي، وكانت صلاحياتها شبيهة بصلاحيات رئيس البلدية اليوم. وكانت المدن العشر ترتبط بعضها ببعض بحلف تضامني للدفاع عن البلاد من الغزاة القادمين من الشرق ومن الجزيرة العربية.
6 - ويذكر الإنجيل ايضا أن يسوع اثناء تجواله في الجليل دخل منطقة صور وصيدا (لبنان) حيث أخرج الشيطان من ابنة المرأة الكنعانية والتي امتدح إيمانها قائلا: "ما أعظم ايمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين. فشفيت ابنتها في تلك الساعة" (متى 15/21-28).
207
ذكر متى أن يسوع جاء إلى تلاميذه في الهزيع الرابع ماشيا على البحر (متى 14/22-34) وذكر لوقا الهزيع الثاني والثالث (لوقا 12/38). فما هو الهزيع؟
كلمة الهزيع هي ترجمة لكلمة لاتينية Vigilia وتعني حرفيا السهر. وهي فترة معينة من الحراسة التي يقوم بها الجنود الرومانيون في الليل. وكانت كل نوبة تدوم ثلاث ساعات. فبالهزيع كانت تقاس الساعات الليلية. وكان هناك أربعة هُزُع:
1 - الهزيع الأول ويمتد من الساعة السادسة مساء وحتى التاسعة ليلا.
2 - الهزيع الثاني ويمتد من التاسعة ليلا إلى الثانية عشرة ليلا.
3 - والهزيع الثالث يمتد من الساعة الثانية عشرة ليلا إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.
4 - والهزيع الرابع يمتد من الساعة الثالثة بعد منتصف الليل إلى السادسة صباحا.
208
كيف كان الناس يعتمدون الساعات في زمن المسيح. مات يسوع على الصليب في الساعة التاسعة ويُقال انها توازي الساعة الثالثة بعد الظهر من توقيتنا اليوم. فهل هذا صحيح؟
كان الليل يقسم إلى هجعات كل هجعة ثلاث ساعات، وتبدأ الهجعات بعد ساعات النهار، أي الساعة السادسة مساء وحتى السادسة صباحا. ويقسم النهار الى ساعات:
الساعة السابعة صباحا في حسابنا اليوم كانت تُسمّى الساعة الأولى من النهار
والساعة الثامنة صباحا هي قديما الساعة الثانية من النهار
الساعة التاسعة كانت الساعة الثالثة من النهار
والساعة العاشرة كانت الساعة الرابعة من النهار
والساعة الحادية عشرة كانت الساعة الخامسة من النهار
والساعة الثانية عشرة كانت الساعة السادسة من النهار
والساعة الاولى بعد الظهر كانت الساعة السابعة من النهار
والساعة الثانية بعد الظهر كانت الساعة الثامنة من النهار
والساعة الثالثة بعد الظهر كانت الساعة التاسعة من النهار
يقول مرقس: "وكانت الساعة التاسعة حين صلبوه" (مر15/25) أي الساعة الثالثة بعد الظهر في حسابنا اليوم.
الترجمة اليسوعية القديمة كانت تذكر الساعات كما هي. في مَثَل العملة واجرتهم، نقرأ: "ثم خرج صاحب الكرم نحو الساعة الثالثة، فرأى عملة آخرين قياما في الساحة بطالين" (متى 20/3) أي أنه خرج الساعة التاسعة صباحا. إلا أن الترجمة الحديثة بدّلت ترتيب الساعات القديم الوارد في متى بالساعات كما نحسبها اليوم.
209
نحن نعبّر عن إيماننا بالقيامة قائلين:"قام في اليوم الثالث كما في الكتب" فاشرح لي ما معنى هذه العبارة مع العلم أن يسوع مات مساء الجمعة وقام من القبر مٌمَجّدا صباح الأحد، فهل هذه ثلاثة أيام؟
1 - منذ انطلاقة الكنيسة يوم العنصرة، عبّر الرسل والمسيحيون الأولون عن إيمانهم بقيامة يسوع من بين الاموات بهذه العبارة: "قام في اليوم الثالث على ما في الكتب". وقد استخدموها في مناداتهم وكرازتهم بالرب يسوع، كما ورد في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتس حيث قال: "إني سلمت اليكم أولا ما تسلمته، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا على ما في الكتب، وأنه قُبِر، وأنه قام في اليوم الثالث على ما في الكتب" (1 كو15/3-4).
قيامة يسوع الناصري حدث تأريخي أكيد، لا يحتمل جدلا ولا تأويلا. غير أن هذا الحدث لا يدركه الناس بالدليل والبرهان بل يقبلونه بالحب والإيمان، لان الله وحده يقدر أن ينجزه. هذا التشابك المميز بين الإيمان والتاريخ يظهر بنوع خاص في تعبير الإيمان: "قام في اليوم الثالث على ما في الكتب". فنحن لسنا بازاء معلومة زمنية وحسب، وإنما أيضا بازاء حقيقة إيمانية سامية إذ ان لعبارة "في اليوم الثالث" في زمن يسوع معنى اخرويا يؤكد على تدخل الله النهائي في آخر الأزمنة.
"في اليوم الثالث" أولا، هي اشارة زمنية، مدلولها حرفي وعددي. فاليوم، في المفهوم العبري الديني، يبدأ عند غروب الشمس، وينتهي عند غروبها في اليوم التالي. فالسبت عند اليهود، يبدأ من غروب الشمس مساء الجمعة وينتهي مع غروب الشمس مساء السبت. مات السيد المسيح مساء يوم الجمعة، الساعة الثالثة، ودفن، وهذا هو اليوم الأول، لأنهم يعتبرون كل جزء من اليوم يوما. وبقي في القبر يوم السبت وهذا هو اليوم الثاني. وانتهى يوم السبت بغياب الشمس مساء السبت وبدأ يوم الأحد، وهذا هو اليوم الثالث. وفي فجر هذا اليوم الثالث، أي في فجر الأحد، قام المسيح من القبر بقوته الذاتية، إلى حياة مجيدة لا يكون للموت عليها من سلطان.
2 - كذلك "في اليوم الثالث" هي عبارة لها مضمون كتابي لاهوتي إذ نؤمن أن المسيح قام في اليوم الثالث "على ما في الكتب". فقيامته تندرج في تدبير الله الخلاصي الذي تعكسه الأسفار المقدسة. وردت عبارة "في اليوم الثالث" في سفر التكوين ( 22/4)، وفي سفر يونان (2/1)، وفي سفر هوشع حيث جاء: "بعد يومين يحيينا، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (6/2) وقد فسّر الربانيون اليهود هذا "اليوم الثالث" الوارد في الكتب بأنه اليوم الذي فيه تُرَدّ الحياة للأموات، وأطلقوا عليه اسم "يوم التعازي الذي فيه يحيي الله الأموات". وبعبارة أخرى فإن "اليوم الثالث"، في مفهومه اللاهوتي يعني "آخر الازمنة" أي يوم القيامة العامة والدينونة الاخيرة، يوم الكلمة الاخيرة التي يقولها الله، بشأن المختارين والهالكين.
3 - نستنتج مما سبق، أن القيامة والتاريخ يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا وثيقا. فيسوع المصلوب ينتصب وسط التاريخ. وقيامته من بين الأموات هي بدون شك محددة تاريخيا بموته، ولكنها تتجاوز التاريخ. فهي ليست حدثا تاريخيا بالمفهوم الإعتيادي، أي ليست حدثا كسائر الأحداث، بل هي حدث فريد، فوق الزمان وفوق المكان، حدث يسوع الناصري الذي صلب، وقام من القبر مجيدا مظفرا، بقوته الإلهية الذاتية، ولن يموت بعد قيامته مرة ثانية. إنه عالم الله ولن يكون للموت عليه من سلطان، ويستحيل إدراكه بالفكر وحصره في الزمن.
في عيد الفصح المجيد، نحن لا نكتفي بالنظر إلى الوراء، بل ننظر أكثر إلى الأمام لنستنشق من إيماننا بموت المسيح وقيامته المجيدة، عطر قيامتنا العتيدة. ذلك أن قيامة يسوع هي عربون قيامتنا إلى الحياة التي لا تموت، وهي "الضامن" في نهاية المطاف لانتصار الحياة على الموت، والحقيقة على الباطل، والعدل على الظلم، والمحبة على البغض. وقد أدخلنا العماد المقدس في سر موت المسيح وقيامته، لأن العماد موت عن الخطيئة وقيامة مع المسيح إلى حياة جديدة لا تموت. نحن لا نهدف في هذه الدنيا إلى ما يُرى، بل إلى ما لا يُرى، لان الذي يُرى هو الى حين، وأما الذي ما لا يُرى فهو للابد (2 كو 4/18).
210
هل كانت مريم المجدلية سيئة السلوك؟ هذا ما نقرأه في بعض التفاسير. فماذا نقول نحن؟
يذكر الإنجيليون عددا من النساء يحملن اسم "مريم". مريم المجدلية واحدة منهن. وعُرفت بالمجدلية نسبة إلى مدينة "المجدل"، على ساحل بحيرة طبرية شمالا، وتبعد عنها حوالي خمسة كيلومترات. ومعنى كلمة مجدل "برج المراقبة". وكان فيها برج لمراقبة المدينة والمنطقة. واشتهرت المدينة بالنسيج والتجارة وبناء السفن وصيد السمك. فكان أهل المدينة في بحبوحة من العيش. يذكر لوقا (8/2) أن يسوع أخرج من مريم المجدلية سبعة شياطين، وأنها كانت إحدى النساء اللواتي تبعن يسوع وأنفقن عليه وعلى تلاميذه. وهذا يدل على أنها كانت من الطبقة الميسورة. أما اخراج سبعة شياطين منها، فلا يعني بالضرورة انها كانت سيئة السلوك. ولا شيء يشير إلى أنها تلك المرأة الخاطئة التي لم يذكر لوقا اسمها (لو7/37-49)، والتي جاءت إلى يسوع، عندما كان متكئا في بيت سمعان الفريسي، تطلب الصفح عن آثامها، وقد أظهرت حبا كبيرا وندامة كبيرة.
وقد شاهدت مريم المجدلية صلب يسوع ووقفت بالقرب من الصليب وكانت جالسة تجاه القبر تنظر أين وُضع يسوع (متى 27/61، مر 15/47). ويذكر مرقس (16/1) ولوقا (23/56) أن مريم المجدلية مع رفيقتيها سالومة ومريم أم يعقوب اشترين طيبا وحنوطا ليعدن بعد راحة السبت إلى القبر ويقُمن بواجب تطييب جسد يسوع بحسب الأصول المتبعة، لأن دفنه مساء الجمعة كان على وجه السرعة، قبل أن يبدأ السبت. وذهبت إليه فجر أحد القيامة حاملة الحنوط والطيب (متى 28/1) وكانت أول من رأى الرب القائم من القبر (مر 16/9) ونقلت البشرى بالقيامة إلى التلاميذ (يو 20/18).
211
هل المرأة الخاطئة التي ذكرها لوقا في 7/36-50 هي نفس المرأة التي ذكرها متى في 26/6-13 ومرقس في 14/3-9؟ الحركات التي قامت بها المرأة في لوقا ومتى ومرقس هي هي، ألا يعني ذلك أنها نفس المرأة؟
المرأة الخاطئة التي ذكرها لوقا ليست المرأة التي ذكرها متى ومرقس. هنالك فروقات كثيرة بين المرأتين تجعلنا نستنتج انهما امرأتان لا واحدة، وان متى ومرقس يشيران إلى امرأة غير المرأة التي يشير اليها لوقا.
1 – نلاحظ أولا أنه في ذلك العصر وفي ذاك المجتمع، كان دهن رأس الضيف بالطيب وغسل رجليه من اسمى دلائل التكريم والحب والإجلال الذي يمكن لِمُضيف ان يقوم به تجاه ضيف عزيز.
2 – الإنجيليون الثلاثة لا يذكرون اسم المرأة. متى ومرقس لا يعطونها أية صفة، بخلاف لوقا الذي يقول إنها خاطئة معروفة في المدينة (لو 7/37) جاءت نادمة تطلب الصفح والغفران (7/36-50) فنالته من يسوع.
3 – في متى ومرقس جرت الحادثة في بيت عنيا، قبل الفصح بأيام قلائل، أي قبل اسبوع الالآم مباشرة، بينما الحادثة في لوقا فقد تمت في الجليل. في لوقا المرأة التائبة جاءت يسوع عندما كان في بيت "سمعان الفريسي" بينما في متى ومرقس فجاءته في بيت "سمعان الابرص".
4 - المرأة في متى ومرقس لم تكن تبكي ولم يذكر الإنجيليان سبب ما فعلت، بل يبدو أنها امرأة فاضلة جاءت تكرم يسوع بأغلى ما لديها، بينما المرأة في لوقا كانت تبكي ندامة على خطاياها الكثيرة. هذا ما كشفه السيد المسيح لمضيفه "سمعان الفريسي".
5 - المرأة في لوقا لم تكسر قارورة الطيب بينما المرأة في متى ومرقس كسرت قارورة الطيب إمعانا في التعبير عن حبها وعرفانها.
6 – يذكر متى ومرقس أن عددا من الحضور لم يستاؤوا من المرأة لأنها كانت تدهن رأس يسوع ورجليه بالطيب، بل استاؤوا لأنهم اعتبروا عملها هذا هدرا كبيرا من المال لا مبرر له، لأن الطِّيب الذي أُريق من طيب الناردين الخالص كثير الثمن، وبالامكان أن يباع هذا الطيب وأن يوزع ثمنه على الفقراء. أما لوقا، فلا يذكر شيئا من ذلك، بل ذكر أن مضيف يسوع سمعان الفريسي استغرب وقال: لو كان نبيا لما تركها تلمسه لانها خاطئة معروفة في المدينة.
7 - قرأ يسوع ما يدور في ذهن سمعان الفريسي، ووجّه كلامه إليه وبيّن له توبة هذه المرأة الصادقة وحبها الكبير وإيمانها العظيم، وقال لها في النهاية: "إيمانك خلصك فاذهبي بسلام" (لو 7/50). بينما في متى ومرقس فإن الامر يختلف كليا. فالسيد المسيح دافع عن المرأة لسبب آخر وبيّنه للحضور حين قال:" لماذا تزعجون هذه المرأة؟ فقد عملت لي عملا صالحا. أما الفقراء فهم عندكم دائما أبدا، وأما أنا فلست عندكم دائما أبدا. وإذا كانت قد أفاضت هذا الطيب على جسدي، فلأجل دفني صنعت ذلك. الحق أقول لكم: حيثما تُعلن هذه البشارة في العالم كله، يُحدَّث بما صنعت إحياء لذكرها" (متى 26/10-13).
لهذه الأسباب يعتقد بعضهم أن المرأة في بيت عنيا التي يذكرها متى ومرقس هي مريم أخت لعازر ومرثا، وأنها جاءت إلى يسوع في بيت صديق هو سمعان الأبرص، وأرادت هناك أن تُعبّر علنا عن عظيم شكرها وعرفانها بجميل يسوع لأنه أقام أخاها لعازر من الموت، وكسرت قارورة الطيب الكثير الثمن وسكبت الطيب على رأس يسوع (متى 26/7، مر 14/3) دلالة على أن يسوع يستأهل أكثر من ذلك، وأما يسوع فقد رأى في عملها هذا أبعد مما ترى: "لأجل دفني صنعت ذلك"، وكان دفنه وشيكا.
212
قصة المريمات لا تزال غامضة في ذهني: فهل لك أن توضح من هي "مريم ام يعقوب ويوسف" التي ذكرها متى في 27/56 ومن هي "مريم الأخرى" التي ذكرها في 28/1؟
العودة إلى النصوص الانجيلية أجدى:
1 – يقول متى " ... منهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسف" (متى 27/56 ). هنا ذكر متى رفيقة مريم المجدلية باسمها "مريم" وميزها عن باقي المريمات بأنها "أم يعقوب ويوسف". وتابع يقول: "ولما انقضى السبت وطلع فجر يوم الأحد، جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى تنظران القبر" (متى 28/1). ومن الواضح أنه يعني ب "مريم الأخرى" تلك التي ذكرها سابقا، أي "مريم أم يعقوب ويوسف".
2 - مرقس يقول: " منهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى وسالومة" (15/40). ومن الواضح بأن مرقس لم يكتفِ بالقول أنها مريم أم يعقوب ويوسى، بل أضاف بأن ابنها يعقوب هو المعروف باسم "يعقوب الصغير"، فوصفها في 15/47 وميّزها عن باقي المريمات بأنها مريم أم يوسف إذ قال: "وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وُضِع". وفي 16/1 ميزها عن غيرها من المريمات بأنها أم يعقوب "ولما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة طيبا ليأتين فيطيبنه".
3 – لوقا يذكر أسماء النسوة اللواتي رأين يوسف ينزل جسد يسوع عن الصليب ورأين القبر وكيف وُضع فيه جثمانه (لو 23/55). ولكنه ذكر أنهن عند فجر يوم الأحد جئن إلى القبر وهن يحملن الطيب الذي أعددنه (لو 24/1)، وذكر منهن: "مريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب" (يو 24/10).
فمن الواضح أن:
مريم أم يعقوب ويوسف
ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى
ومريم الأخرى
ومريم أم يوسى
ومريم أم يعقوب
هي مريم نفسها المذكورة في المراجع الإنجيلية السابقة. وكانت مريم هذه، ممن تبعن يسوع وخدمنه حين كان في الجليل (مرقس 15/41). وأشار لوقا (8/2-3) إلى أن مجموعة من النساء التقيات تبعن يسوع وكن يساعدنه هو وتلاميذه بأموالهن. وقد وقفت مريم هذه، أم يعقوب الصغير بالقرب من الصليب، ورأت إجراءات تطييب جسد يسوع السريعة التي قام بها يوسف الرامي ومن معه، ورأت أين دفنوا يسوع. وعند طلوع فجر الأحد ذهبت مع رفيقتيها مريم المجدلية وسالومة إلى القبر. وكنَّ يقلن في ما بينهن: "من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فرأين أن الحجر دُحرج، وكان كبيرا جدا (مرقس 16/1-4).
213
كم من النساء وقفن عند صليب يسوع؟
للاجابة على السؤال، نعود إلى النصوص الإنجيلية:
1 – متى يقول:
"كان هناك كثير من النساء ينظرن عن بُعد، وهن اللواتي تبعن يسوع من الجليل ليخدمنه، منهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسى، وأم ابني زبدى ... وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الاخرى جالستين تجاه القبر" (متى 27/55-56،61).
"نساء كثيرات" وقفن ينظرن عن بُعد. وهذا أمر عادي في شرقنا حيث في هذه الظروف الرسمية والمأساوية، لا تسمح العادات للنساء بأن يقتربن وأن يشاهدن العنف عن قرب، وأن يخالطن الرجال. وذكر متى منهن ثلاث وهن:
مريم المجدلية
ومريم أم يعقوب ويوسف
وأم ابني زبدى
وذكر أن مريم المجدلية ومريم الأخرى أي مريم أم يعقوب ويوسف جلستا تجاه القبر. فكانتا تراقبان حركة انزال جسد يسوع عن الصليب وتحنيطه السريع ووضعه في القبر. ورأين أن الرجال لم يقوموا بكل الواجبات اللازمة لإكرام جسد يسوع لضيق الوقت وبسبب السرعة لأن السبت كان وشيكا جدا، فقرّرن أن يشترين حنوطا ويعدن يوم الأحد، أي بعد انقضاء السبت ليحنطن جسد يسوع.
2 – مرقس يقول:
"وكان أيضا هناك بعض النساء ينظرن عن بُعد، منهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى، وسالومة، وهن اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدن معه إلى أورشليم" (مر 15/40-41).
مرقس أيضا يذكر أن نساء كثيرات وقفن عن بُعد وذكر منهن:
مريم المجدلية
ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى
وسالومة
أي أنه ذكر اثنتين من الثلاث اللواتي ذكرهن متى وأضاف "سالومة" ، فهذا يعني أن متى ومرقس، ذكرا أسماء أربع نساء من مجموعة النساء اللواتي كن ينظرن.
3 – لوقا يقول:
"ووقف عن بُعد جميع أصدقائه والنسوة اللواتي تبعنه من الجليل، وكانوا ينظرون إلى تلك الأمور ... وكان النسوة اللواتي جئن من الجليل مع يسوع يتبعن يوسف، فأبصرن القبر وكيف وُضع فيه جثمانه" (لو23/49، 55).
لوقا لم يذكر أسماءهن، ولكنه يؤكد على وجود جمهور من النساء اللواتي صعدن مع يسوع من الجليل. وأضاف أيضا أن أصدقاءه كانوا واقفين معهن ينظرون إلى تلك الأمور. ولا غرابة أن يكون بينهم بعض التلاميذ. وقد تجرأت النساء اللواتي جئن من الجليل أن يتبعن يوسف الرامي، لأنه يملك الاذن لإنزال يسوع عن الصليب والقيام باجراءات الدفن. وقد تركه الحرس يقوم بعمله بدون أية معارضة.
4 – أما يوحنا فيقول:
"هناك عند صليب يسوع، وقفت أمه مريم، وأخت أمه مريم امرأة كلوبا، ومريم المجدلية"
فهو يذكر ثلاثة مريمات:
مريم أمه
ومريم امرأة كلوبا
ومريم المجدلية
اثنتان ذكرهما متى ومرقس وهما مريم امرأة كلوبا، ومريم المجدلية، والثالثة وهي مريم أم يسوع.
وخلاصة القول، نستنتج بوضوح تام أن نساء كثيرات شهدن صلب المسيح ودفنه، وذكر الانجيليون اسماء أربعة منهنّ وهن:
مريم أم يسوع
مريم أم يعقوب ويوسف، وهي مريم امرأة كلوبا
مريم المجدلية
وسالومة وهي أم ابني زبدى
ونستطيع أن نستنتج أن ما جرى، بالنسبة للنساء، هو ما يلي: عندما وصلوا بيسوع إلى الجلجلة ليصلبوه، كان جمع الرجال والجنود محتشدين حوله، والنساء لا يخالطن الرجال ولا يقتربن من المشهد المأساوي وينظرن من بعيد. وعندما سمروا يسوع على الصليب وهدأت الجموع وأخذت تنتظر أن يموت، تجاسرت النساء اللواتي ذكرهن الإنجيليون وتقدمن من الصليب، ولم يمنعهن أحد.
214
ورد في إنجيل يوحنا أن يسوع صنع أول أعجوبة له في عرس قانا الجليل بتحويل الماء خمرا بناء على طلب أمه مريم (يو 2/1-11). فأين تقع قانا الجليل؟ وهل لها من آثار؟
قانا قرية في الجليل. يوحنا الإنجيلي ذكر اسمها وأضاف إليه "الجليل" تمييزا لها عن قرى أو أماكن تحمل هذا الاسم في مناطق خارج الجليل. ويبدو واضحا أن كلمة "قانا" ومعناها "القصب" أو الرمح الأجوف كان يُطلق في ذاك الزمن على أكثر من قرية لتوفر القصب فيها أو في جوارها. منها تلك التي في الجليل التي حوّل فيها يسوع الماء خمرا. ومنها نتنائيل الرسول (يو 21/2). وفيها أيضا عامل الملك سأل يسوع أن يشفي ابنه، فقال له يسوع: "إذهب إن ابنك حي" فآمن الرجل بالكلمة التي قالها وذهب، وشفي ابنه (يو 4/43-54).
الموقع التقليدي لقانا الجليل هو "كفر كنا" التي تبعد حوالي عشرة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من الناصرة على الطريق المؤدية الى طبرية. ولربما الاصل هو "كفر قانا". وفي كنيسة الفرنسيسكان كتابات بالعبرية والآرامية تعود الى القرن الثالث أو الرابع بعد الميلاد، تحمل على الاعتقاد بأن هذه القرية هي "قانا الجليل" التي ذكرها الإنجيل.
وهناك أيضا قرية تحمل اسم قانا تقع على بُعد خمسة عشر كيلومترا إلى الشمال من الناصرة. وذكر سفر يشوع (19/28) اسم قرية او مدينة تحمل اسم قانا كانت من نصيب سبط اشير، وهي تقع على بُعد عشرة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من صور، وتقع اليوم في لبنان. وكانت إحدى المدن التي فتحها رمسيس الثاني في السنة الثامنة من تسلمه الحكم في القرن الثالث عشر قبل المسيح.
215
نقرأ في يوحنا عن يسوع والمرأة السامرية أن اللقاء كان عند بئر يعقوب بالقرب من مدينة اسمها سيخارة، فهل لك أن تفيدني ما هي هذه البئر وهل يعقوب حفرها حقا وهل هي لا تزال قائمة حتى الان؟
بئر يعقوب هي في السامرة. وأراد يسوع أن يمر بالسامرة فوصل إلى مدينة يقال لها سيخارة، بالقرب من الأرض التي أعطاها يعقوب لابنه يوسف، وفيها بئر يعقوب (يو 4-3-6). ويعتقد الكثيرون أن سيخارة هو تحريف لشكيم التي تقع آثارها بالقرب من مدينة نابلس. وكان الإعتقاد السائد في زمن المسيح بأن يعقوب حفر البئر كي يشرب منها هو وماشيته (يو 4/12). بينما لم يذكر سفر التكوين أن يعقوب حفر بئرا في تلك الأرض، بل ذكر أن: "يعقوب وصل سالما الى مدينة شكيم التي بأرض كنعان، حين عاد من فدّان أرام، فخيّم قبالة المدينة. واشترى قطعة الحقل التي نَصب فيها خيمته من بني حمور أبي شكيم بمئة قسيطة. وأقام هناك مذبحا ودعاه باسم إيل، إله إسرائيل" (تك 33/18-20). وهي السهم الذي وهبه يعقوب لابنه يوسف، كما ورد في سفر التكوين أيضا (48/22) .
لا تزال البئر قائمة حتى اليوم في المكان المعروف ب "بئر يعقوب". وهو موقع ينطبق تماما على ما جاء في الإنجيل. وتقول المرأة السامرية أن البئر عميقة. ويتفق التقليد اليهودي والمسيحي على تسميتها ببئر يعقوب. ولها تاريخ طويل. فالقديس ايرونيموس في نهاية القرن الرابع يشير إلى وجود كنيسة في هذا المكان وأن في داخلها بئرا، وكانت الكنيسة قد شيدت بشكل صليب لاتيني ولكن السامريين دمروها. فأعاد بناءها الإمبراطور يوستينيانوس الأول الذي ملك من سنة 527 إلى سنة 565 للميلاد وقد دُمرت هذه الكنيسة أيضا في عهد الفاطميين. وجدد بناءها الصليبيون سنة 1187 ولكنها دُمرت في ما بعد ذلك. وقد يكون لدمارها أسباب كثيرة. وبفضل مساعي روسيا حصل الروم الارثوذكس على البئر والعقار المحيط بها وذلك سنة 1860 فأحاطوا البئر بسور وبنوا كنيسة فوق البئر. وعُثر في أواخر القرن التاسع عشر على حجر فيه فتحة وفي جوانبه ثٌلم أحدثتها الحبال التي كانت ترفع الدلاء.
216
يقولون أن يوحنا الرسول حارب مذهب الغنوصية. فما هو هذا المذهب؟
نشأ في القرن الميلادي الأول المذهب المعروف بالغنوصية. وهو ينكر سر التجسد الإلهي. كان المذهب الغنوصي يهدّد الكنيسة لأنه كان ينادي بأن الروح فقط هي الخير وأن المادة شر. ولذلك كان الغنوصيون يعتبرون "سر التجسد" أمرا مستحيلا لأنه من المستحيل أن يأخذ الله الذي هو روح جسدا بشريا ماديا الذي هو شر. فهم يعتقدون بأن الشر عنصر أساسي في المادة وأنه عنصر أساسي في الجسد. ولذلك انكروا أن ليسوع جسدا حقيقيا. وبما أن جسد الإنسان كله شر، فقد يقف الإنسان موقف اللامبالاة فيطلق العنان لميول الجسد وشهواته بلا ضابط إذ لا يهم ما يفعله الإنسان بهذا الجسد الفاسد الشرير لانه عندئذ لا فرق اذا اتجه الإنسان إلى قمع هذا الجسد واتبع مسلك العفة والطهر أو إذا اتجه إلى الناحية الأخرى، ناحية الإباحية والشر والفساد وقد توصل بعضهم إلى القول أن الخطيئة هي نوع من أنواع الواجب الديني.
يخبرنا القديس ايرينيوس أن أحد اتباع مذهب الغنوصية واسمه كيرنتوس كان يقول: في المعمودية، هبط المسيح من السماء، في هيئة حمامة وحل في جسد الإنسان يسوع حاملا للناس رسالة الله، وأن المسيح عاش في يسوع وأنه اخيرا ترك جسد يسوع وقفل راجعا إلى السماء التي منها كان قد جاء وأن الذي صلب على الجلجلة وقام لم يكن هو المسيح لكنه يسوع الإنسان. هذا التعليم يبعد الله عن عمل الفداء ويجرد الصليب من كل قيمة لإنه يعني أن يسوع صار إلها عند معموديته وأن الألوهية فارقته عند صلبه وأنه كان عند موته إنسانا عاديا.
جاءت رسالة يوحنا الحبيب الأولى ردا على مذهب الغنوصية وتحذيرا للمؤمنين. وهي تعبّر أيضا عن هموم الراعي تجاه رعيته، وعن حرصه على سلامتها.
ولذلك يقول يوحنا:
"أيها الأحباء لا تركنوا إلى كل روح بل اختبروا الأرواح لتروا هل هي من عند الله. لأن كثيرا من الانبياء الكذابين انتشروا في العالم. وما تعرفون به روح الله هو أن كل روح يشهد ليسوع المسيح الذي جاء في الجسد كان من الله، وكل روح لا يشهد ليسوع لم يكن من الله" (1 يو4/1-3).
المسيح جاء بالماء والدم، أعني بماء المعمودية الذي به نولد أبناء لله وللكنيسة، وبدم الصليب الذي به خلص المسيح البشرية برمتها.
217
هل للغنوصية أتباع في عالم اليوم؟ أم انتهى أمرها منذ زمن طويل وبلا رجعة؟
1 - في أيامنا الحالية، فلسفة العالم ونظرتها إلى الجسد تختلف عن فلسفة الغنوصية، ولكنها تلتقيها في النتيجة على مبدأ الإباحية الأخلاقية. عالم اليوم لا يقول بأن الجسد شر في ذاته بل يقول بأنه جيد في ذاته ويجب أن تلبي كل طلباته ورغباته ونزواته. هذه هي الغنوصية المعاصرة، إذا صح التعبير. كانت الغنوصية القديمة تقر بوجود الخطيئة ولكنها كانت تقول: "إن الخطيئة هي واجب". وأما الغنوصية الحديثة فهي تعمل الخطيئة ولا ترى الخطيئة خطيئة. فالغنوصية القديمة أقل شرا من الغنوصية الجديدة. تغرق عالمنا في خطايا الإباحية، سواء كان ذلك في وسائل الإعلام أم في الأسرة، والحياة الفردية والاجتماعية وجعل الإجهاض أمرا مشروعا. فهو يهدم ليس فقط عقيدة التجسد بل يهدم كل أخلاقيات الإنسان.
2 - إن الشبيبة تقع بسهولة في حبائل الإباحية التي توفرها لهم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة بكافة مسمّياتها الحديثة. وهذا يتطلب أن يكون لدى المربي قلب الراعي الذي يأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي يعيشه الشباب دون أن يتساهل في مطالبهم التي تنزلق بهم الى الفتور والكسل والتسيّب. ويوحنا الحبيب يشير إلى هذا الموقف بقوله أنه يعد كاذبا كل من يدعي أنه يعرف الله وهو في الوقت عينه لا يحفظ وصاياه. فمَن كان ثابتا في المسيح عليه أن يسلك كما سلك المسيح وأن يطيع المسيح. والطاعة أجمل تعبير عن الحب.
218
من هم الرسل ومن هم التلاميذ؟
سمّى السيد المسيح رسلا الإثني عشر تلميذا الذين دعاهم واختارهم (لو 6/13، مرقس 3/13-20) وأرسلهم في مهمة (متى 10/5، لوقا 9/2). أما مهمتهم فهي أن يكونوا شهودا للمسيح ورسلا للكنيسة الناشئة. وكان الرسل يدركون أن المسيح اختارهم وأرسلهم: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28/19) وأن مَن قَبِلَهم قَبِل المسيح وقَبِل الآب الذي ارسله (يو 13/20 ، 20/21) وأنهم خدام الكنيسة: "من أراد أن يكون فيكم الأول، فليكن لأجمعكم عبدا" (مر 10/44) وأن عليهم أن يؤسسوا الجماعة ويبنوها وأن لهم الحق في منح سر العماد والاحتفال بالعشاء السري ووضع الأيدي والسهر على النظام والإيمان في الجماعة، كما يجب على المؤمنين ان يطيعوهم (رو 15/18، 1 كو14/37، 2 كو10/18).
كان الرسل شهود عيان للمسيح وأساسا للكنيسة. وهذه ميزة خاصة بهم. ونؤمن بنمو شرعي للخدمة الرسولية، وخاصة لتلك الخدمات الرسولية الضرورية لحياة الكنيسة، أي في خدمة خلفاء الرسل، وعلى رأسهم البابا خليفة بطرس الرسول وجماعة الأساقفة، الخلفاء الحقيقيين للرسل، وذلك لحكم الكنيسة وللحفاظ على الوحي نقيا ولتفسيره. ولهذه التواصلية ولهذا النمو أساس في العهد الجديد. فقد قال بولس الرسول لشيوخ أفسس: "تنبهوا لأنفسكم ولجميع القطيع الذي جعلكم الروح القدس حراسا عليه لتسهروا على كنيسة الله التي اكتسبها بدمه" (رسل 20/28) وقال لطيموتاوس: "لا تهمل الموهبة الروحية التي فيك، تلك التي وهبت لك بنبوءة مع وضع جماعة الشيوخ أيديهم عليك... أنبهك على أن تذكّي هبة الله التي فيك بوضع يدي... إحفظ الوديعة الكريمة (وديعة الايمان) بالروح القدس الذي يقيم فينا" (1طيم 4/14، 2 طيم 1/6، 14).
219
هل كان الصوم إلزاميا عند اليهود في زمن السيد المسيح؟ وكم يوما كانوا يصومون؟ ولماذا شبه يسوع ذاته بالعريس وتلاميذه باهل العرس؟
الصوم الوحيد الذي كان إلزاميا عند اليهود، ولا يزال قائما حتى اليوم، هو صوم يوم التكفير (يوم كيبور) الذي مارسه يسوع وتلاميذه. بقية الاصوام التي أدخلها الفريسيون والكتبة لم تكن إلزامية ولا شرعية، ولكن كثيرين من اليهود كانوا يصومونها. متى يقول: "جاء إليه تلاميذ يوحنا وقالوا له: لماذا نصوم نحن والفريسيون وتلاميذك لا يصومون؟" (متى 9/14) وكذلك مر 2/18 ولوقا 5/33. فالصوم المقصود لم يكن الصوم الذي تفرضه الشريعة على الشعب اليهودي، بل أصوام يلتزم بها الفريسيون واقتدى بهم تلاميذ يوحنا .
في رده على السؤال بيّن السيد المسيح السبب الذي من أجله لا يطلب من تلاميذه أن يصوموا. وشبه حضوره بين تلاميذه بحضور العريس واصحابه في حفلة العرس. تلاميذه هم الشباب أصحاب العريس، يرافقونه ويقومون بمختلف الخدمات التي يقتضيها الإحتفال. ذلك لأن المسيح جاء يبشر بالخلاص، ويحمل للبشر بهجة العهد الجديد حيث تتفتح عيون العميان وآذان الصم، ويقفز الأعرج كالأيل، ويهتف لسان الأبكم، وتتفجر المياه في البرية، والأنهار في البادية (أشع 35/5-6). ولكنه أضاف قائلا: "ستأتي أيام فيها يرفع العريس من بينهم، فعندئذ يصومون في تلك الأيام" (لو 5/35). أي يصومون لأن العريس (يسوع) ارتفع عنهم. غيابه عنهم يسبب لهم حزنا وأصواما. بعد صعود يسوع إلى السماء تعيش الكنيسة في هذه الدنيا زمن توبة وصوم وانتظار لرجوعه: "تعال ايها الرب يسوع" (رؤ 22/20).
220
عندما نقارن لائحة أجداد المسيح في متى 1/11- 16 مع لائحة أجداده في لوقا 3/23-38 نجد بعض الاختلافات، فلماذا؟
1 - عندما نقابل لائحة أجداد يسوع في متى وفي لوقا بلوائح المراجع الكتابية نلاحظ حالا أن السلسلة في متى وفي لوقا غير كاملة، وأن كلا منهما قدم سلسلة أجداد المسيح بطريقته الخاصة. من الواضح أن نَسَب يسوع في متى ونَسَبه في لوقا يختلفان، شأنهما في ذلك شأن كل الانساب في التوراة. أي أنهما يلتقيان تارة ويختلفان تارة أخرى. ويبدو واضحا أن مراجع لوقا تختلف عن مراجع متى .
2 – متى يكتب إلى العبرانيين، فأبرز جذور يسوع في شعبه. فيسوع دخل التاريخ من خلال تاريخ شعب الله. فهو المسيح المنتظر، الذي تمت فيه جميع مواعيد الله في العهد القديم (غلا 3/6-29). وبما أنه كان ينبغي للمسيح أن يخرج من سلالة إبراهيم وداود، من أصل يسى كما أنبأ عنه أشعيا (11/10)، وضع متى في بداية إنجيله، مقدمه تثبت هذه الحقيقة. وبناء على ذلك اختار من بين أجداد يسوع 42 عَلَما: 14 من ابراهيم حتى داود، ثم 14 عَلَما من داود حتى الجلاء إلى بابل، و 14 عَلَما من الجلاء إلى بابل حتى يوسف البتول "والد يسوع" بحسب الشريعة. فيسوع ليس فكرة مجردة بل إنسان حقيقي، مرتبط بأجداده. والوعد ليس سرابا، بل حققه الله بيسوع المسيح.
نقول "إختار" 14 جيلا لكل حقبة من الحقبات الثلاث: لماذا الرقم 14؟ لأن هذا الرقم يساوي عدد الحروف التي منها يتألف اسم داود"
د=4
و=6
د=4
والرقم 14 رقم الكمال: 2 ضرب 7 رقم الكمال.
إهتمامات متى ليست اهتمامات المؤرخ بل اهتمامات اللاهوتي. وقسّم متى التاريخ إلى 3 حقبات (وفي ذلك رمز إلى الثالوث). وبعد الحقبة الثالثة نزل الله على الأرض في سر التجسد، في شخص يسوع الذي يُدعى المسيح.
3– لوقا لا يضع نسب يسوع في بداية إنجيله مثل متى لأنه لم يُرِد أن يشير إلى نسب يسوع البشري قبل أن يتحدث عن بنوته الإلهية (لوقا 1/35، 3/22) وربط يسوع بآدم، لا بابراهيم فقط، ليدل على ارتباط يسوع بالبشرية كلها، لا بشعب إسرائيل وحده. ويسوع، عِبر آدم، هو ابن الله. خرج آدم الأول من يد الله، ولهذا لقب ابن الله، ويسوع آدم الجديد جاء أيضا مباشرة من عند الله، كما يذكرنا الحبل البتولي من الروح القدس، مع العلم بانتسابه البشري. فالمسيح هو آدم الثاني دخل سلالتنا وجعلنا من سلالته، يحمل البركة والخلاص لكل الناس. صار ابن الله إنسانا فجعل الإنسان ابن الله. ويقول بولس الرسول أننا في آدم نموت جميعنا (روما 5/17) (1 كو 15/22). لأننا فيه كلنا خطئنا (روما 5/12). ويسوع آدم الجديد جاء أيضا مباشرة من عند الله، كما تذكرنا الولادة البتولية، وهذا بالإضافة إلى نسبه البشري.
4 - لوقا ومتى يبيّنان لنا، كل بطريقته الخاصة مَن هو يسوع في بُعده الإنساني وفي بُعده الإلهي. إن يسوع، في لوقا، ينحدر من داود عبر ناتان الأخ الاكبر لسليمان الملك (2 صم 5/14). وبهذه الطريقة أبعد لوقا كل أبناء داود المتحدرين من سليمان أي من سلالة ملوك مملكة يهوذا. وسلسلة نسب يسوع في متى تذكر عددا من الجدود الخطأة، وعددا من الجدود الصالحين، آخرهم يوسف زوج مريم البار الذي دخل في مخطط الله، ومريم زوجته الممتلئة نعمة والتي لم تحبل بفعل اللحم والدم بل حبلت من الروح القدس. وذكر متى في نسب يسوع أربع نساء: تامار التي ولدت فارص من يهوذا (تكون 38/6-30). وكانت تامار أرملة ابنه عير، وثلاث نساء غريبات عن شعب إسرائيل وهنّ:
أ – راحاب الزانية التي أضافت الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع ليتجسسا على مدينة أريحا وخبأتهما ثم أنزلتهما بحبل من كوة في السور (يش 2/1- 24). وكانت راحاب كنعانية. وبعد احتلال أريحا تزوجت سلمون من سبط يهوذا وولدت منه بوعز فاصبحت جدة ليسوع، وتُمدح من أجل إيمانها (عبر 11/31).
ب – راعوت وكانت موابية غريبة عن شعب إسرائيل ولكنها آمنت بإيمان إسرائيل (را 1/16-17) وولدت عوبيد من بوعز. وعوبيد هذا هو والد يسى وجد الملك داود.
ج – بتشابع الحثية أرملة أوريا الحثي. وقد تزوجها داود بعد موت زوجها وولدت له سليمان (2 صم 12/24).
فبحسب متى، نجد في سلالة يسوع دما كنعانيا بواسطة تامار، ودما حثيا بواسطة بتشابع، ودما موآبيا بواسطة راعوت. ففي لائحة أجداد المسيح أناس لم يكونوا يهودا وآخرون خطأة. وهذا يعني أن الله يتضامن مع جميع البشر وأن الخلاص عند المسيح لكل الناس.
يسوع هو إنسان بحسب الجسد له آباء وأجداد، فهو ليس فكرة مجردة، وينتمي إلى سلسلة المواعيد الواردة في العهد القديم. إنه منتظر الشعوب، جاء في ملء الأزمنة، فيه وجد تاريخ شعب الله وسائر الشعوب معناه الأصيل.
221
يقول يوحنا إن يسوع هرب من اليهود الذين أرادوا أن يمسكوه وعبر الأردن مرة أخرى فذهب إلى حيث عمد يوحنا في أول الامر فأقام هناك (يو 10/40). فأين أقام يسوع عندما عبر الأردن؟؟
عبر يسوع نهر الأردن مرة أخرى إلى الجهة الشرقية من النهر و"أقام هناك". ومناطق الأغوار الشرقية كانت تدعى "عِبر الأردن" في تحديدها السياسي والجغرافي. وهي تضم منطقة الأغوار الواقعة شرقي نهر الأردن، من جنوب طبقة فحل (بيلا) وحتى مكاور جنوب مادبا. وتبلغ المنطقة كلها حوالي مائة كيلومترا طولا وخمسين عرضا. وهي جزء من مملكة هيرودس انتيباس الذي سجن يوحنا المعمدان وأمر بقطع رأسه.
ويذكر إنجيل يوحنا أيضا أن يوحنا المعمدان عمد في أماكن عدة ومنها بيت عنيا عِبر الأردن (1/28) وهي بلدة تقع شرقي النهر وتختلف عن بيت عنيا بالقرب من المدينة المقدسة. وجدير بالذكر أن منطقة "عِبر الأردن" ورد ذكرها عند يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي الشهير باسمها اليوناني "بيريا".
وسكن منطقة "عِبر الأردن" كثير من اليهود واختلطوا بغير اليهود. وفي هذه المنطقة كرز يوحنا المعمدان وعمد الناس بمعمودية التوبة في الأماكن التي تكثر فيها المياه. والسيد المسيح أيضا كثّف تبشيره في هذه المنطقة كما ذكر يوحنا في 10/40-42. ولم تكن المرة الأولى التي يبشر فيها السيد المسيح كما قال ذلك يوحنا صراحة بقوله: "عِبر الأردن مرة أخرى (10/40).
ومن الملاحظ أن عيد تجديد الهيكل يقع في أواخر كانون الأول أو بداية كانون الثاني. وبعد العيد أو في اثنائه توجه يسوع إلى "عِبر الأردن" ويقول يوحنا الإنجيلي انه "أقام هناك" (10/40) وبقي يسوع يعلم فيها حتى يوم تبليغه الخبر بأن صديقه لعازر مريض. ويذكر إنجيل لوقا (13/31-33) أن الفريسيين نصحوا يسوع بمغادرة "عِبر الأردن" التابعة لهيرودس لأنه يريد قتله. فقال لهم يسوع: "اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب" (لو 13/32) فأفهم يسوع خصومه أنه لا يخاف من تهديدات هيرودس ولا من تهديداتهم وأنه سينفذ خطته المرسومة ويصنع المعجزات في تلك المنطقة إلى أن يحين وقت الآمه. ويشير بوضوح إلى أن قتله سيتم في اورشليم: "لأنه لا ينبغي لنبي أن يهلك خارج أورشليم" (لو 31/33).
222
ذكر متى (13/54-56 ومرقس 6/2-3) أسماء إخوة ليسوع، بينما لم يذكر لوقا 4/22 ويوحنا 6/41 أن ليسوع إخوة. فهل كان ليسوع إخوة من أمه مريم أو من أبيه يوسف كما يقول المتجددون؟
لقد أصبح هذا السؤال تقليديا لدى الكثيرين من المسيحيين. بعضهم يطرحونه للاستفسار وللمزيد من المعرفة، وبعضهم لأنهم يجدون أنفسهم أمام تفاسير متناقضة، سواء كان للطعن في بتولية مريم الدائمة أو في بتولية رجلها يوسف. وفي العصور الغابرة لجأ البعض إلى الادعاء بأن يوسف كان رجلا كهلا طاعنا في السن، وأنه كان متزوجا وكان له أولاد قبل أن يخطب مريم. أما اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية الراسخ فهو أن يوسف لم يكن متزوجا قبل أن يخطب مريم ولم يكن كهلا. عاش حارسا بتولا لمريم البتول وليسوع البتول، ومات بتولا بين يدي مريم ويسوع.
للإجابة على السؤال المطروح "هل كان ليسوع إخوة من أمّه مريم أو من يوسف؟ نعود أولا إلى العهد القديم من الكتاب المقدس لكي نطلع على المعاني الكثيرة لكلمة "أخ"، ثم نأتي إلى النصوص الإنجيلية التي ورد فيها أن ليسوع اخوة.
اولا – في العهد القديم تدل كلمة أخ على:
1– الإخوة من أب وأم
"وعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قايين. فقالت: "قد اقتنيت رجلا من عند الرب". ثم عادت فولدت أخاه هابيل". (تك 4/2)
2 - أولاد أب وأمهات عديدات
"فقال إبراهيم: "إني قلت في نفسي: لا شك أن ليس في هذا المكان خوف الله، فيقتلونني بسبب امرأتي. وفي الحقيقة هي أختي، ابنة أبي. لكنها ليست ابنة أمي، فصارت امرأة لي" (تك 20/12)
3 - أولاد أم وأباء عديدين
"وعورة أختك، ابنة أبيك كانت أو ابنة أمك، مولودة في البيت كانت أو في خارجه، لا تكشف ... وعورة بنت زوجة أبيك المولودة من أبيك لا تكشف، إنها أختك، فلا تكشف عورتها" (أح 18/9 -10) .
4 - العم وابن الأخ
"قال ابرام للوط: لا تكن خصومة بيني وبينك، ولا بين رعاتي ورعاتك، فنحن إخوة" (تك 13/8). ومعروف أن لوطا هو ابن أخ ابراهيم.
"فاسترجع جميع الأموال واسترد لوطا أخاه وأمواله والنساء والقوم" (تك 14/16).
5 - أناس من العشيرة الواحدة أو العشيرة المجاورة
"ومات أليعازار ولم يكن له بنون، بل بنات، فأخذهن إخوتهن بنو قيش، وبنو موشي: محلي وعادر ويريموت ثلاثة" (1 أخ 23/22).
"قال لآبان ليعقوب: إذا كنت أخي، افتخدمني مجانا؟ أخبرني ما اجرتك" (تك 29/15).
"أما عظيم الكهنة بين إخوته والذي صُبّ على رأسه زيت المسحة ... " (أح 21/10).
"ومر الشعب وقل لهم: إنكم مجتازون حدود اخوتكم بني عيسو المقيمين بسعير، فسيخافونكم، فتنبهوا جدا ... فجزنا عن إخوتنا بني عيسو المقيمين بسعير على جانب طريق العربة وأيلة وعصيون جابر ... " (تث 2/4، 8).
"لا تكره الأدومي لأنه أخوك" (تث 23/8).
6 – في سفر نشيد الأناشيد، الزوج سمى زوجته أخته، والزوجة سمت زوجها أخاها
"قد خلبت قلبي يا أختي العروس ... أختي العروس جنة مقفلة" (نش 4/9-12)
"قد أتيت إلى جنتي يا أختي العروس" (نش 5/1-16)
وكذلك الزوجة تسمي زوجها أخا: "مَن لي بك كأخ لي قد رضع ثدي أمي ..." (نش 8/1).
7 - عندما يخاطب ملك ملكا آخر كان يسميه أيضا أخي
"كان حيرام ملك صور قد أمد سليمان بخشب أرز وسرو وبذهب ... فخرج حيرام من صور ليرى المدن التي أعطاه إياها سليمان، فلم تحسن في عينيه. فقال: "ما هذه المدن التي أعطيتني إياها، يا أخي؟ (1 مل 9/10-13)
"فشدوا مسوحا على أحقائهم وجعلوا حبالا على رؤوسهم وجاؤوا إلى ملك إسرائيل وقالوا: إن عبدك بنهدد يقول: أسأل أن تبقي على نفسي. فقال: أو لا يزال حيا؟ إنما هو أخي. فاستبشر القوم وبادروا وتلقوا الكلمة من فمه، وقالوا: أخوك بنهدد". (1 مل 20/32-33).
ثانيا – وفي العهد الجديد
1 - يسوع سمى تلاميذه إخوة
"فقال لها يسوع: لا تمسكيني، إني لم أصعد بعد إلى أبي، بل اذهبي إلى إخوتي فقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم. فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ ..." (يو 20/17-18).
2 - وقال بولس أن يسوع ابن الله هو بكر إخوة كثيرين
"وسبق وقضى بأن يكونوا على مثال صورة ابنه ليكون هذا بكرا لإخوة كثيرين" (رو 8/29).
3 - وسمى المسيحيون بعضهم بعضا "إخوة".
وقد ورد ذلك عشرات المرات في الرسائل. ولا يزال المسيحيون وغيرهم، عندما يتوجهون ألى جمهور المؤمنين في الكنيسة أو في أية مناسبات أخرى يبدأوون الكلام ب "أيها الاخوة" إو إذا كان المتحدث أسقفا أو كاهنا، يبدأ ب "أيها الابنا الاعزاء".
ثالثا – بأي معنى نفهم عبارة "إخوة يسوع" الواردة في النصوص الإنجيلية؟
لنعد إلى النصوص حيث وردت كلمة "إخوة يسوع"
1 – متى
أ - "وبينما هو يكلم الجموع، إذا أمه وإخوته قد وقفوا في خارج الدار يريدون أن يكلموه، فقال له بعضهم: إن أمك وإخوتك واقفون في خارج الدار يريدون أن يكلموك. فأجاب الذي قال له ذلك: مَن أمي ومَن إخوتي؟ ثم أشار بيده إلى تلاميذه وقال: هؤلا هم أمي وإخوتي، لأن من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات هو أخي واختي وأمي" (متى 12/46-50).
فيسوع يدعو أما وأخا وأختا كل من يعمل بمشيئة الآب السماوي. فهو يسمو على كل قرابة ناتجة عن اللحم والدم.
ب - "أخذ يعلم الناس في مجمعهم، حتى دهشوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟ أليس هذا هو ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم، وإخوته يعقوب ويوسف وسمعان ويهوذا؟ أو ليس جميع اخواته عندنا؟ فمن أين له كل هذا" (متى 13/54-56).
"وكان هناك كثير من النساء ينظرن عن بُعد. وهن اللواتي تبعن يسوع من الجليل ليخدمنه، منهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسف وأم ابني زبدى" (متى 27/55-56)
في النص الأول، يذكر متى أسماء أربعة إخوة ليسوع وهم:
يعقوب، ويوسف، وسمعان ، ويهوذا
وفي النص الثاني يذكر إسم أم اثنين منهم، وهي مريم أم يعقوب ويوسف. وبكل تأكيد فإن "مريم" هذه ليست "مريم أم يسوع" لأننا نعرف من لوقا أن مريم أم يسوع كانت بتولا وأنها كانت مصممة على البقاء بتولا من قولها للملاك المبشر: "كيف يكون هذا ولا أعرف رجلا؟ (1/34). بالاضافة إلى ذلك، يبدو واضحا من الإنجيل المقدس أن اسم مريم كان شائعا كثيرا بين اليهود.
2 – مرقس
أ - "فدهش كثير من الذين سمعوه، وقالوا: من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أعطيها حتى إن المعجزات المبينة تجري عن يديه؟ أليس هذا النجار ابن مريم، أخا يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان ؟ أو ليست اخواته عندنا ههنا؟ وكان لهم حجر عثرة" (مر 6/2 – 3).
ب - "وكان أيضا هناك بعض النساء ينظرن عن بُعد، منهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسى، وسالومة، وهن اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدن معه إلى اورشليم" (مر15/40-41).
ففي النص الأول، يذكر مرقس أيضا أسماء أربعة إخوة ليسوع وهم:
يعقوب، ويوسى، ويهوذا، وسمعان
وفي النص الثاني يذكر إسم أم يعقوب (يعقوب الصغير) ويوسى، واسمها "مريم". وعندما نقابل لائحتي الأسماء كما وردتا في متى ومرقس نلاحظ أن ترتيب الأسماء يختلف من لائحة إلى أخرى، كما نلاحظ أن متى ذكر "يوسف" أخا ليسوع، بينما مرقس ذكر "يوسى" أخا ليسوع. فهل يوسى هو "يوسف" أم أخ آخر له؟ كذلك متى ومرقس يذكران أيضا "أخوات يسوع" ومن دون أن يذكرا اسماءهن.
3 – لوقا
أ - "وكانوا يشهدون له باجمعهم ويعجبون من كلام النعمة الذي يخرج من فمه فيقولون" أما هذا ابن يوسف؟ (لو 4/22).
ب - "ووقف عن بُعد جميع اصدقائه والنسوة اللواتي تبعنه من الجليل، وكانوا ينظرون إلى تلك الأمور" (لو 23/49).
لوقا لا يذكر اطلاقا أن ليسوع إخوة. ويذكر أن جميع اصدقاء يسوع والنسوة كانوا واقفين بعيدا يشاهدون صلب يسوع بكل حسرة وألم. لقد بقي لوقا متحفظا على ذكر اخوة يسوع. فقد قال: "أما هذا ابن يوسف؟" (لو 4/22) ولم يقل: "أليس اخوته واخواته بيننا .... "
ج - كذلك بقي لوقا متحفظا في سفرأعمال الرسل، حين قال:
"ثم أخذ (بطرس) يروي لهم كيف أخرجه الرب من السجن، ثم قال: "أخبروا يعقوب والإخوة بهذه الأمور. وخرج فذهب إلى مكان آخر" (أعمال 12/17
"فلما انتهيا تكلم يعقوب فقال ..." (15/13).
"وفي الغد دخل بولس معنا على يعقوب، وكان الشيوخ كلهم حاضرين" (21/18 ).
في هذه النصوص من سفر أعمال الرسل لم يذكر لوقا أن "يعقوب" هو أخو الرب. فلو كان أخا حقيقيا للرب من والديه لما أهمل ذكر ذلك في الإنجيل وفي سفر أعمال الرسل، نظرا للمكانة الرفيعة جدا التي كانت ليعقوب في الكنيسة الأولى، كما نستنتج ذلك من سفر أعمال الرسل.
د – أما بالنسبة لتسمية لوقا ليسوع بأنه "بكر مريم" (لو 2/7)، فمن الواضح أنه لا يعني بذلك أن مريم ولدت أولادا آخرين بعده. لوقا شدد على بتولية مريم كما ورد في نص بشارة الملاك لها، وبقي متحفظا حول تسمية "إخوة يسوع" كما ذكرنا. ثم أن لوقا نفسه يوضح أنه أراد بكلمة "بكر" الوضع الشرعي ليسوع وهو أنه بموجب الشريعة يُعتبرمكرسا للرب. فقد ورد في سفر الخروج: "قدّس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني إسرائيل، من الناس ومن البهائم، إنه لي" (خر 13/2). وشرح ذلك لوقا نفسه حين قال: "ولما حان يوم طهورهما بحسب شريعة موسى، صعدا به إلى أورشليم ليقدماه للرب، كما كتب في شريعة الرب من أن كل بكر ذكر ينذر للرب، وليقربا كما ورد في شريعة الرب: زوجي يمام أو فرخي حمام" (لو 2/ 22-24). فالبكر هو أول المواليد، وإن لم يولد بعده آخرون.
هـ - حسب لوقا 1/27 من غير الممكن أن يكون لمريم أبناء أكبر منه سنا. ومن غير الممكن أيضا أن يكون لها أبناء أصغر سنا، والدليل على ذلك هو أنه لو كان لها ابناء اصغر منه سنا لما كان الحج إلى أورشليم ممكنا (لو 2/41-52) لأن الأسرة التي لها ولد يقل عمره عن الثانية عشرة تكون معفاة من الحج إلى أورشليم.
4 – يوحنا
أ - "ونزل بعد ذلك إلى كفرناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه، فأقاموا فيها بضعة أيام" (يو 2/12).
ب - "تذمر اليهود عليه لأنه قال: "أنا الخبز الذي نزل من السماء"، وقالوا: أليس هذا يسوع ابن يوسف، ونحن نعرف أباه وأمه؟" (يو 6/41).
ج - "قال له اخوته: إذهب من ههنا وامض إلى اليهودية، حتى يرى تلاميذك أيضا ما تعمل من الأعمال، فما من أحد يعمل في الخفية إذا أراد أن يُعرف ... ولما صعد إخوته إلى العيد، صعد هو أيضا خفية لا علانية" (يو7/6-10).
يتضح لنا من هذه النصوص الثلاثة أن يوحنا يذكر أن ليسوع "إخوة" عامة، وأنه لم يذكر اسم أيا منهم خاصة. وبالاضافة إلى ما ورد في متى ومرقس فإن يوحنا ذكر موقف اليهود في جدالهم مع يسوع بعد تكثير الخبز، وقالوا: " ونحن نعرف أباه وأمه؟" (يو 6/41) ولم يذكر "اخوته".
5 – بالاضافة إلى هذه النصوص الكتابية من العهد القديم ومن العهد الجديد نضيف الملاحظات التالية:
أ – لم يذكر الإنجيليون أن أحدا من إخوة يسوع كان مع المجموعة التي كانت تنظر وتراقب عن بُعد الآم يسوع وصلبه. لوقا يقول أن الأصدقاء والنسوة كانوا يتابعون ما يجري وينظرون عن بُعد. وعندما قام يوسف الرامي ونيقوديموس بدفن يسوع لم يذكر الإنجيليون أنه كان هناك أي من الذين ذكرهم متى ومرقس إخوة يسوع. ويضيف البعض: بما أن يسوع عندما كان معلقا على الصليب، طلب إلى يوحنا أن تكون مريم أمه ليعتني بها ويكرمها اكرامه لِأمه، فلو كان له إخوة حقيقيون من مريم أو من يوسف هل يكون فعل ذلك؟ لأن أبناءها أي إخوته يتكفلون بها وفقا للعرف والعادة.
ب – أما يوسف رجل مريم ومربي يسوع، فقد انقطعت اخباره في الأناجيل منذ طفولة يسوع. ذكره الإنجيل للمرة الأخيرة عندما بلغ يسوع الثانية عشرة وبقي في الهيكل. وعندما وجده والداه: "نزل (يسوع) معهما، وعاد إلى الناصرة، وكان طائعا لهما" (لو 2/51).
ج - كذلك نلاحظ أن يوسف لم يكن في عرس قانا الجليل حيث كانت مريم أم يسوع هناك وحيث دعي يسوع وتلاميذه. فلو كان على قيد الحياة لدعى إلى العرس إذ ليس من المنطق والمعقول أن يُدعى يسوع ومريم والتلاميذ وأن لا يُدعى رب الأسرة. هذه الملاحظات تصل بنا إلى الاستنتاج بأن يوسف توفي قبل أن يبدأ يسوع المرحلة العلنية من حياته.
د - إن الكنيسة تعترف ببتولية مريم الدائمة الحقيقية، أي انها تعترف ببتوليتها قبل ولادة يسوع وحين ولادته وبعد ولادته. فميلاد المسيح لم يثلم بتولية أمه ولكنه كرس كمال تلك البتولية. وليتورجية الكنيسة تشيد بمريم على أنها دائمة البتولية. إيماننا اليوم ببتولية مريم هو إيمان الكنيسة كما تناقلته الاجيال المسيحية منذ القرن الخامس، وقد وصف القديس اغسطينوس بتولية مريم قائلا: " إنها بتول حملت مع بقائها بتولا، وولدت مع بقائها بتولا، ولها طفل وهي بتول. إنها بتول، ودائما بتول. (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 500)
وخلاصة القول، فإن تحليل النصوص الكتابية في العهد القديم وفي العهد الجديد يوصلنا إلى اليقين بأن تسمية إخوة يسوع في الأناجيل إنما هي تسمية عامة لأقارب يسوع وأنه ليس ليسوع إخوة لا من مريم ولا من يوسف البتول. ونحن الشرقيين أقرب الناس إلى فهم هذه الحقيقة وهذا الواقع. فنحن لا نزال نستعمل كلمة "أخ" في معناها الواسع، وكثيرا ما ننعت بها الإنسان الذي نخاطبه، معروفا كان لدينا أو غير معروف.
223
قال أحد الكهنة إن بولس الرسول عندما تكلم عن خضوع المرأة لرجلها لم يكن يعني خضوع المرأة المتزوجة لرجلها بل كان يعني خضوع الكنيسة للمسيح، فهل هذا صحيح (أفسس 5/22-23).
كان بولس يتحدث عن المتزوجين وعن الكنيسة. ولكن لا بد من أن تقرأ النص كاملا لكي تفهم ماذا كان بولس الرسول يريد أن يُعلِّم بقوله: "على النساء أن يخضعن لرجالهن"
إن الرسول لا يقول أن النساء أقلّ درجة من الرجال، بل قال إنه يجب على النساء أن يحببن رجالهن كما تحب الكنيسة المسيح. وقال أيضا انه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كما أحب المسيح الكنيسة. وكيف أحب المسيح الكنيسة؟ تألم ومات من أجلها إذ "ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل احبائه.
فالمعنى الحقيقي لكلمات القديس بولس هو أن الزواج المسيحي يرمز إلى العلاقة الفريدة القائمة بين المسيح والكنيسة. وهذا يعني أنه يجب على النساء أن يخدمن ازواجهن بنفس الروح الذي به تخدم الكنيسة المسيح، وأنه يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم ويهتموا بهن كما يحب المسيح الكنيسة. فليس هنالك أعظم من عظمة الزواج التي يبيّنها بولس الرسول. فهو يربط الزواج بالمسيح والكنيسة. فالمرأة هي زوجتك، وشريكتك في الحياة، وأم اولادك، ومساوية لك في الكرامة.
224
هل لك أن تفيدني ماذا كانت مهام الكهنة الذين كانوا يساعدون الرسل؟
لما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية كان الرسل أساقفة متجولين، رسموا أساقفة وكهنة مقيمين في الكنائس التي أسسوها ليقوموا مقامهم في الإرشاد والوعظ واقامة الصلوات الجماعية ولاسيما الاحتفال بسر الإفخارستيا ومنح الأسرار المقدسة كما بيّنه سفر أعمال الرسل.
ويُستدل من سفر أعمال الرسل ورسائل القديس بولس أن كلمة كاهن تأتي مرارا مرادفا لكلمة أسقف. بولس الرسول يعطي نفس الاوصاف للكاهن والأسقف معا، فيقول في رسالته إلى طيموتاوس:
"على الأسقف أن لا يناله لوم وألا يكون متزوجا غير مرة واحدة، وأن يكون متقشفا، رزينا، مهذبا مضيافا، أهلا للتعليم، غير مدمن على الخمر، ولا عنيفا، بل حليما يكره الخصام ولا يحب المال، يحسن تدبير بيته، ويحمل أولاده بالحسنى على الخضوع. فكيف يُعنى بكنيسة الله من لا يحسن تدبير بيته؟ وينبغي ألا يكون حديث الإيمان، لئلا تستولي عليه الكبرياء ... وعليه أيضا أن يشهد له الذين في خارج الكنيسة شهادة حسنة ...(1 طيم 3/2/7).
وأيضا في الرسالة إلى تيطس، قال عن الأسقف:
"إن الأسقف هو وكيل الله، يجب أن يكون بريئا من اللوم غير معجب بنفسه ولا غضوبا ولا مدمنا على الخمر ولا شرسا ولا راغبا في المكاسب الخسيسة، بل عليه أن يكون مضيافا محبا للخير، رزينا عادلا، تقيا، متمالكا، يلازم الكلام السليم" (تيطس 1/5-9)
وقال بنفس المعنى عن الكهنة:
"تركتك في إقريطش لتتم فيها تنظيم الامور وتقيم كهنة في كل بلدة كما أوصيتك، تقيم من كان بريئا من اللوم، لم يتزوج غير مرة واحدة، وأولاده مؤمنون لا يتهمون بالفجور ولا عاقون" (طي 1/5-9)
وقال لطيموتاوس:
"الكهنة الذين يقومون بعملهم قياما حسنا يستحقون إكراما مضاعفا، ولا سيما الذين يتعبون في الكلام والتعليم" (1 طيم 5/17).
فكان الكهنة معاونين للأساقفة في خدمة الأسرار وفي نشاطهم التعليمي والراعوي والرسولي. ويطلب يعقوب الرسول من المؤمنين أن يتوجهوا إلى الكهنة لخدمة المرضى الروحية وإعطائهم سر المسحة حيث قال:
"هل فيكم مريض؟ فليدعُ كهنة الكنيسة ليصلوا عليه بعد أن يدهنوه بالزيت باسم الرب" (يع 5/13-15).
225
نعرف من سفر أعمال الرسل (11/26) أن التلاميذ، في انطاكية سماهم الناس لأول مرة مسيحيين لأنهم كانوا يبشرون بالمسيح، ويبدو أن هذا اللقب أعطي لهم للتهكم والاحتقار كما يبدو من رسالة بطرس الاولى 4/16.أما المسيحيون أنفسهم فماذا كانوا يسمون أنفسهم؟
يذكر سفر أعمال الرسل (11/26) أنه في انطاكية سُمّي التلاميذ أول مرة مسيحيين. ومن الواضح أنهم لم يسموا أنفسهم بهذا الاسم وإنما أطلقه عليهم الذين كانوا خارجا عن الإيمان المسيحي. وبهذا الاسم اصبح المسيحيون منفصلين عن جماعة اليهود وعن المجمع اليهودي، وأصبح غالبية المسيحيين من الأمم غير اليهودية الذين آمنوا بالمسيح.
كذلك سُمّي التلاميذ "جليليين" لأنهم كانوا من الجليل (رسل 1/11، 12/7). ويبدو أن هذا الاسم رافق المسيحيين أو فئات منهم مدة طويلة لان الفيلسوف الوثني ابكتيتوس Epictetus الذي كتب في العقد الثالث من القرن الثاني ذكر المسيحيين باسم "الجليليين".
كذلك سُمّي المسيحيون "ناصريين" نسبة إلى يسوع الناصري. وقد استخدم هذا الاسم المحامي ترتلّس Tertillus الذي مثّل حننيا عظيم الكهنة والشيوخ في محاكمة بولس لدى الوالي فيلكس حيث قال: "وجدنا هذا الرجل آفة من الآفات، يثير الفتن بين اليهود كافة في العالم أجمع، وهو أحد أئمة شيعة "النصارى" (رسل 24/5).
وإذا ما تصفحنا أسفار العهد الجديد بإمعان لاكتشفنا أن المسيحيين كانوا يسمون انفسهم باسماء كثيرة:
1 - كنيسة. كثيرا ما أشار المسيحيون إلى أنفسهم باسم "كنيسة" أو "جماعة" الرب. فكلمة كنيسة تُطلق على جميع المؤمنين بالمسيح في كل العالم، وعلى أية جماعة محلية منهم: "وكانت الكنيسة تنعم بالسلام في جميع اليهودية والجليل والسامرة" (رسل 9/31).
2 – رعية. باعتبار المسيحيين رعية الله والله هو راعيهم: "تنبهوا لانفسكم ولجميع القطيع الذي جعلكم الروح القدس حرّاسا له لتسهروا على كنيسة المسيح التي اكتسبها بدمه" (رسل 20/28).
3 – تلاميذ. أطلق الإنجيل على أتباع المسيح لفظة تلاميذ باعتباره هو المعلم (متى 10/1، لو6/17، يو 6/66). فيُطلق المسيحيون على انفسهم اسم تلاميذ يسوع: "في تلك الأيام كثر عدد التلاميذ" (رسل 6/1) لأنهم كانوا يواصلون تعليمه، ويحاولون أن يقتدوا به.
4 – مدعوون ومختارون. أتباع المسيح هم مختارون ومدعوون لأن يكونوا قديسين. وهذا يدل على المركز المميز للمسيحيين في خطة الله، وعلى أن الله اختارهم وهم ضعفاء فتنتفي منهم الكبرياء وينتفي الافتخار لان الله قد منحهم هذا المركز: "أنتم الذين دعاهم يسوع المسيح ... إلى المدعوين ليكونوا قديسين..." (رو 1/6-7). وقد اختارهم الله ليكونوا أبناء له: " أما الذين قبلوه وهم الذين يؤمنون باسمه فقد مكنهم أن يصيروا أبناء الله" (يو 1/12). "وهذا الروح نفسه يشهد مع ارواحنا بأننا أبناء الله ... " (رو 8/16-21).
"من بطرس رسول يسوع المسيح إلى المختارين الغرباء المشتتين في البنط ... إلى المختارين بسابق علم الله الآب وتقديس الروح، ليطيعوا يسوع المسيح ويُنضحوا بدمه" (1 بط 1/1" ويعتبر الرسول المسيحيين غرباء ما داموا في هذه الدنيا لان وطنهم الحقيقي والدائم هو السماء (فل 3/20، 2 كو 5/6).
5 – قديسون. المؤمنون بالمسيح مقدسون بالمسيح: "إلى الذين قُدّسوا في المسيح يسوع بدعوتهم ليكونوا قديسين" (1 كو ½)
6 – مؤمنون. لأنهم يؤمنون بيسوع المسيح ويسلمون له حياتهم وذواتهم مقرين بأنه افتداهم بالآمه وموته على الصليب.: "وكانت جماعة الذين آمنوا قلبا واحدا ونفسا واحدة" (رسل 4/32).
7 – إخوة. كل مسيحي كان يُعتبر أخا للمؤمنين. وكانت جماعة المؤمنين يُدعون إخوة للدلالة على الصلة الوثيقة بينهم، وعلى المساواة بينهم: "أيها الإخوة، يجوز أن أقول لكم صراحة..." (رسل 2/29).
226
إني استنتج من سفر أعمال الرسل أن قيامة المسيح من بين الأموات كانت، لدى التلاميذ، المحور الأساسي لبشرى الخلاص. ألا تشاطرني الرأي؟
الموضوع ليس موضوع "رأي" بل موضوع إيمان. وأنا أشاطرك الإيمان بأن المسيحية برمتها ترتكز على قيامة يسوع من بين الأموات. يسوع القائم من الموت هو في قلب الكرازة الرسولية، وهو خلاصنا.
إن الديانة المسيحية هي الديانة الوحيدة في العالم التي تؤمن بأن إنسانا مات ودفن ثم قام حيا من بين الأموات، وأن شهودا كثيرين رأوه حيا، وأكلوا معه وتحدثوا إليه. قال بطرس الرسول لكورنيليوس ولأهل بيته: "نحن شهود على جميع أعماله في بلاد اليهود وفي اورشليم. والذي قتلوه إذ علقوه على خشبة هو الذي أقامه الله في اليوم الثالث، وخوّله أن يظهر لا للشعب كله، بل للشهود الذين اختارهم الله من قبل، أي لنا نحن الذين أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الأموات. وقد أوصانا أن نبشر الشعب ونشهد أنه هو الذي أقامه الله ديانا للاحياء والاموات. وله يشهد جميع الانبياء بأن كل من آمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (رسل 10/39-43).
إيماننا بألوهية المسيح يستند إلى مصداقية المسيح لما قال إنه مساو للآب الأزلي ولما تنبأ بأنه يقوم في اليوم الثالث. فلو لم يقم كيف نصدقه؟ ولو لم يقم لما كان من قيامة لأحد، ولا من حياة أبدية، ولأصبح إيماننا المسيحي باطلا. ولكن المسيح قام، والمسيحي المؤمن بالقيامة يعيش حياته مع المسيح الحي إلى الأبد.
227
كيف تشرح لي ما ورد في رسالة يوحنا الاولى 5/16-17 . فانا أصلي لكل من هم في حال الخطيئة المميتة، فهل الصلاة من أجل الخاطئين نافعة؟
النص المُشار اليه هو: " إذا رأى أحد أخاه يقترف خطيئة لا تؤدي به إلى الموت، فعليه أن يصلي كي ينعم الله على أخيه بالحياة (ولا اعني الذين يقترفون الخطايا التي تؤدي الى الموت، فمن الخطايا ما يؤدي إلى الموت ولست أطلب الصلاة لها) كل معصية خطيئة. ولكن هنالك الخطيئة التي لا تؤدي إلى الموت"(1 يو 5/16/17).
من الواضح أن يوحنا يميز بين الخطيئة "التي تؤدي إلى الموت" والخطيئة التي "لا تؤدي إلى الموت". الخطيئة التي تؤدي إلى الموت، والمقصود بها الخطيئة التي يصر عليها الإنسان ويرفض التوبة ويموت بحال خطيئته فيهلك. وأما الخطيئة التي لا تؤدي إلى الموت فهي الخطيئة التي يتوب عنها الإنسان توبة صادقة فيغفرها الله وبالتالي فهي لا تؤدي إلى الموت.
يوحنا لا يقول أنه لا يجب أن نصلي من أجل الذين هم في حال الخطيئة المميتة لأن الله وحده يعرف هل الخاطىء يتوب اليه أم لا يتوب. فنحن نعلم بإيماننا أن الله يريد أن يخلص جميع الناس: "قل لهم: حي أنا، يقول السيد الرب. لا أكون مسرورا بموت الشرير. لكن بتوبته عن شره فيحيا. فتوبوا، توبوا عن طرقكم الشريرة. فلماذا تموتون يا بيت إسرائيل" (حز 33/11). وقال السيد المسيح: "جئت لادعو خطأة إلى التوبة"
228
يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي أنه يتم في جسده ما نقص من الآم المسيح ... " (كو ا/24). فهل كانت الام المسيح ناقصة ولم تخلص كل العالم؟
قال بولس الرسول: "يسرني الآن ما أعاني لاجلكم فأُتِمّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة". بهذا الكلام بولس لا يعني أن الآم المسيح كانت ناقصة وأنها لم تكن كافية لخلاص جميع البشر، إنما يعني إننا نستطيع أن نضيف الآمنا إلى الآم المسيح لكي تعم ثمار الفداء فينال الخلاص جميع الناس. فالسيد المسيح الذي بحبه للبشر حقق فداء كاملا وفائضا وشاملا ، فتح الباب أمام كل المتألمين لكي يشاركوه في الآمه.
البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة له حول الألم علق على كلام بولس هذا وقال: " إن السيد المسيح بالآمه خلص العالم. وهذا الخلاص هو فائض وشامل يشمل جميع البشر. لا يستطيع أي إنسان أن يضيف إليه شيئا. ولكن في نفس الوقت، في سر الكنيسة جسد المسيح السري، فإن السيد المسيح بالامه فتح الباب لكل البشر لكي يشاركوه بالآمهم، في كل مكان من العالم وفي كل زمان. فالإنسان بالامه يصبح شريكا للمسيح في الآمه، والآمه تخلص العالم".
229
نحن نؤمن بأن السيد المسيح هو كلمة الله الآب، فلماذا يقول البعض أن يسوع هو نبي؟ أنه أكثر بكثير من نبي: أليس كذلك؟
إن السيد المسيح هو كاهن وملك ونبي في آن واحد. وكلمة النبي، في معناها العام، تعني كل من يحمل كلمة الله إلى الشعب. نحن نؤمن أن السيد المسيح هو نبي وأكثر من نبي. إنه كلمة الله الذي تأنس أي صار إنسانا متخذا جسدا مثل جسدنا وحل بيننا لكي يخلص البشر من عبودية الخطيئة ويجعل طريق السماء أمامهم سالكة، وهو محب للبشر يدعو الجميع إلى الخلاص. وقد حقق الخلاص بأنه اصبح على الصليب الكاهن والذبيحة ومقدم الذبيحة التكفيرية عن خطايا البشر. وهو ملك الملوك وليس لملكه نهاية، وملكه ليس من هذا العالم، كما صرح هو نفسه بذلك حين قال لبيلاطس: "إن مملكتي ليست من هذا العالم" (يو 18/37).
230
نقرأ في سفر أعمال الرسل أن الرسل، عندما حلّ عليهم الروح القدس في العلية أخذوا يتكلمون بلغات كثيرة غير لغتهم. فكانت موهبة التكلم بلغات كثيرة علامة مميزة لحضور الروح القدس. فهل لا تزل موهبة اللغات في الكنيسة؟
أجاب على السؤال واعظ افريقي في القرن السادس بما يلي:
"إذا قال أحد لأحد منا: "لقد قبلت الروح القدس فلماذا لا تتكلم بكل اللغات؟ يجب أن نجيبه: "بل أتكلم بجميع اللغات لأني عضو في جسد المسيح، أي الكنيسة، وهي تتكلم بجميع اللغات. وهذا ما أراده الله إذ ذّاك بنزول الروح القدس، وهو أن تتكلم كنيسته باللغات كلها"... أنتم مجتمعون من كل الشعوب، أنتم كنيسة المسيح، وأعضاء المسيح، وجسد المسيح، وعروس المسيح: "محتملين بعضكم بعضا في المحبة ومجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام" (أف 4/2).
فالتكلم بلغات مختلفة لا يزال علامة على حضور الروح القدس في الكنيسة المنتشرة في كل أقاصي الأرض.
لقد حسن لدى الله أن يتكلم الرسل بلغات مختلفة ليبين حضور الروح القدس: "فأنشدوا بكل اللغات نشيدا واحدا لله، والروح يدفع الى الوحدة القبائل المتباعدة، ويُقدم للآب بواكير جميع الشعوب" (القديس ايريناوس الأسقف الشهيد). فالله العليم بكل القلوب يهب الروح القدس ولا يفرق بين الناس عندما تكون قلوبهم طاهرة بالتوبة والإيمان. وإذا كان التكلم بلغات مختلفة علامة حضور الروح القدس في الجماعة، فإن لحضوره اليوم علامات كثيرة في الكنيسة وأهمها المحبة التي تشمل بها الكنيسة جميع الناس ولا تستثني من محبتها أحدا.
231
أية لغات تحدث بها الرسل عند العنصرة؟
اللغات التي كانت متداولة لدى الشعوب في ذاك الزمن تختلف كليا عن لغات البشر اليوم. وقد عبّر عنها سفر أعمال الرسل بقوله:
"فدهشوا وتعجبوا وقالوا: "أليس هؤلاء المتكلمون جليليين بأجمعهم؟ فكيف يسمعهم كل منا بلغة بلده بين فرتيّين وميديّين وعيلاميّين وسكان الجزيرة بين النهرين واليهودية وقبدوقية وبنطس وآسية وفريجية وبمفيلية ومصر ونواحي ليبية المتاخمة لقيرين، رومانيين نزلاء ههنا، من يهود ودخلاء، وكريتيين وعرب؟ فإننا نسمعهم يحدثون بعجائب الله بلغاتنا" (رسل 2/7-11).
وقد يكون البعض من هذه اللغات لهجات مشتقة من لغة أصلية واحدة
232
يفتخر بولس الرسول بصليب ربنا يسوع المسيح. أنا استغرب ذلك. لماذا لا يفتخر بعجائبه وتعاليمه التي لا تزال تنير طريق المؤمنين إلى الخلاص؟
أجيبك بمقطع من عظة للقديس اغسطينوس بهذا الشأن، لكي ترى لماذا يحق لنا أن نفتخر بصليب ربنا يسوع المسيح:
"إن الآم ربنا ومخلصنا يسوع المسيح تضمن لنا المجد وتعلمنا الصبر... لم يكن في المسيح علّة يستحق بسببها أن يموت من أجلنا. لا علة فيه إلا أنه اتخذ جسدنا المائت. وهكذا مع كونه لا يموت استطاع أن يموت. وهكذا أراد أن يمنح الحياة للمائتين: فقد صيّرنا شركاءه بعد أن صار هو أولا شريكا لنا. لم تكن طبيعتنا قادرة على الحياة، كما أن طبيعته لم تكن قادرة على الموت. صنع معنا تبادلا عجيبا: صار واحدا منا فمات، وصرنا له فحيينا".
"يجب ألا نستحي بموت ربنا وإلهنا، وليس هذا وحسب، بل يجب أن نجد في موته قوة كبيرة وفخرا عظيما. أخذ عنا الموت الذي وجده فينا. ووعدنا بالحياة التي لا تموت والتي لا نمتلكها بقوانا".
"فما استحققناه نحن بالخطيئة، تحمّله هو من أجل الخاطئين، وهو من غير خطيئة، لأنه أحبنا حبا كبيرا ... لنعترف إذا، أيها الإخوة، بشجاعة، ولنعلن على الملأ أن المسيح صُلب من أجلنا. ولا نكن خائفين بل متهللين، ولا نقل ذلك بخجل بل بافتخار".
ذاك ما أدركه القديس بولس فأوصانا بأن نفتخر. كان بإمكانه أن يشيد بعظائم الله وبآياته الكثيرة. إلا أنه لم يقل إنه يفتخر بآيات المسيح، الذي كان لدى الآب والذي خلق العالم، وعندما كان إنسانا مثلنا أمر الطبيعة فأطاعته. إنما افتخر بصليب المسيح حيث قال: "أما أنا فمعاذ الله أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلا 6/14).
233
ليس من السهل أن نفهم سفر "رؤيا القديس يوحنا" فهل معاصروه كانوا يفهمونه أفضل منا؟
بكل تأكيد كان المسيحيون الأولون يفهمونه ويحللونه أفضل منا بكثير، فهو كتب أولا من أجلهم وقال لهم يوحنا: "أنا يوحنا الذي يشارككم الشِّدّة والملكوت والثبات في يسوع". فهو واحد منهم، أخ لهم في ما يعانونه من شِدة من أجل الملكوت، ومن ثبات في يسوع المسيح. وليس من المستبعد على الاطلاق أن تكون الرموز الكبرى التي استعملها يوحنا متداولة بين المسيحيين في شدتهم، مثل: "الوحش" والأختام والمرأة والتنين .... الخ. بالاضافة إلى ذلك، فإنه عندما كان يظن أنهم لن يفهموا الرمز، كان يشرحه لهم. فقد قال:
"إن الكواكب السبعة هي ملائكة الكنائس السبع، والمناور السبع هي الكنائس السبع" (رؤ 1/20)
"ورأيت بين العرش والأحياء الأربعة وبين الشيوخ حملا قائما كأنه ذبيح، له سبعة قرون وسبع أعين هي أرواح الله السبعة التي أُرسِلت إلى الأرض كلها" (رؤيا 5/6)
"هؤلاء اللابسون الحلل البيضاء، من هم ومن أين أتوا؟ ...هؤلا هم الذين أتوا من الشدة الكبرى، وقد غسلوا حللهم وبيضوها بدم الحمل" (رؤ 7/13-15).
"وتبقى جُثتاهما في ساحة المدينة العظيمة، التي تُدعى على سبيل الرمز، سدوم ومصر، وهناك صلب ربها" (رؤ 11/8).
"التنين الكبير، الحية القديمة، ذاك الذي يقال له إبليس والشيطان، مضَلِّل المعمور كله..." (رؤ 12/9)
وفي مكان آخر، أعطى الرمز واستحث قارئيه على أن يحللوه تحليلا صحيحا إذ قال: "هذه ساعة الحذاقة، فمن كان ذكيا فليحسب عدد اسم الوحش، إنه عدد اسم إنسان، وعدده ستمائة وستة وستون" (رؤ 13/18)
"ورأيت حملا واقفا على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون الفا ... وكانوا يرتلون نشيدا جديدا أمام العرش وأمام الأحياء الأربعة والشيوخ، ولم يستطع أحد أن يتعلم النشيد إلا المائة والأربعة والأربعون الفا الذين افتدوا من الارض، هؤلاء هم الذين لم يتنجسوا بالنساء، فهم أبكار..." (رؤ 14/1-5)
"رأيت امرأة راكبة على وحش قرمزي مغشى بأسماء تجديف، له سبعة رؤوس وعشرة قرون... فالرؤوس السبعة هي التلال السبعة التي عليها تقوم المرأة ... والقرون العشرة التي رأيتها هي عشرة ملوك ... والمرأة التي رأيتها هي المدينة العظيمة التي لها الملك على ملوك الأرض" (رؤ17/1- 18).
234
واضح لنا أن سفر الرؤيا كُتِبَ بأسلوب رؤيوي وفيه رموز كثيرة، فهل لك أن تشرح لي المعنى الحقيقي للسفر برمته؟
سفر الرؤيا، يصف كما قُلتَ، واقع الكنيسة المضطَهَدَة وأمانتها. وهو يدعو المسيحيين إلى حفظ الإيمان للمسيح في الأزمات والإضطهادات وانتظار النهاية بالسهر والثبات، ويفسر الأحداث القائمة آنذاك في ضوء الإيمان، وهو يهدف أيضا إلى الكشف عن نهاية التاريخ وازاحة الستار الذي يحجب رؤية آخر الأزمان، ويبين أن النصر النهائي في آخر الأزمنة هو لله سيد التاريخ. لذلك يترتب على المؤمن أن ينتظر مجىء الرب بالسهر والفرح ساعيا إلى بناء ملكوت الله في حياته. وأما الملكوت فهو العالم الجديد حيث الله جعل كل شيء جديدا (رؤ 21/5) وقد افتتحه يسوع بالآمه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء. فالسفر كله هو بمثابة تأمل في الكنيسة التي ترتبط حياتها بالله سيد التاريخ، وبيسوع الشاهد الأمين وبالروح القدس الذي يصلي فيها ومن خلالها. ونختصر السفر بما يلي:
1 - الفصول الثلاثة الأولى بأسلوبها الرؤيوي والنبوي هي رسائل سبع الى الكنائس السبع التي في آسيا، ومن خلالها إلى الكنيسة جمعاء. وهذا المطلع للسفر يجعله متجذرا في الواقع الكنسي المعاش آنذاك.
2 – ابن الإنسان الحي والممجد يبعث رسائله إلى الكنائس السبع ليكشف للناس بفم الروح القدس ما فيها من صفات وفضائل وما ارتكبته من أخطاء. فالكنائس كلها مدعوة إلى مراجعة الحياة. أفسس: تخلّت عن الحب الأول. ومطلوب من إزمير الأمانة في الشِّدة حتى الموت. ومن برغاموس وتياطيرة أن تتخلصا من الأضاليل التي تسربت اليهما. وأما سرديس فهي معرضة لتجربة التقلب. وفيلادلفية واللاذقية إلى الفتور.
وجميع الكنائس موعودة بالغلبة إذا كان لها "آذان سامعة" وإن هي عرفت أن تستجيب لما يقوله الروح القدس لها. ومن الملاحظ أنه في مختلف العطايا الموعود بها الغالب، في خاتمة كل رسالة، إشارة إلى الأسرار المقدسة. فالملابس البيض، والاكليل، والاسم الجديد يُذكِّر بالمعمودية . وأما المنّ وثمار شجرة الحياة والعشاء فتُذكِّر بالإفخارستيا.
3 - وأما سائر الفصول الأخرى، بمفرداتها وبنيتها فهي ترسم ملامح الكنيسة باسلوب رؤيوي، وتصف الكنيسة التي تعيش الاضطهادات والمشاكل والهموم الكثيرة. فهي تكافح وتجاهد وتتعثر في مواجهتها لمشاكل عصرها. وهي صورة للكنيسة التي عليها في كل العصور أن تواجه التحديات والاضطهادات. ويصف سفر الرؤيا صعوبات الجماعات المسيحية المتأتية من اليهود ومن القوى السياسية المستبدة.
أ - فالكنيسة واجهت وضعا صعبا من اليهود. إنها تدرك انها تؤلف شعب الله الجديد الذي يضم كل الشعوب وكل الأمم، وأنها البقية الباقية المؤتمنة على العهد الذي حققه السيد المسيح بالآمه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء. فالسيد الميسح هو الذي خرج بالبشرية من عبودية الخطيئة إلى حرية ابناء الله، وجعل من الناس شعبا كهنوتيا (5/13) وهو الحمل الذبيح الذي أخذ الكتاب المختوم بسبعة اختام وفض أختامه لأنه ذبح وافتدى لله بدمه أناسا من كل قبيلة ولسان وشعب وأمه" (5/9) وهكذا السماء والارض ترفعان المجد والتسبيح إلى المسيح "الحمل". وأما ليتورجية الكنيسة فهي ليتورجية سماوية (الفصلان الرابع والخامس) ترمز إليها الليتورجية الجارية أمام "الجالس على العرش". وتمثل الحيوانات الأربعة العالم المخلوق بمكوناته الاربعة.
أما فض الحمل للاختام السبعة، فهو يكشف ما تخفي الأختام من احداث وما تحمله من علامات الأزمنة الاخيرة. وقبل أن يفض الختم السابع يضعنا السفر ازاء شعب الله في آخر الأزمنة، حين يُشاهد أربعة ملائكة قائمين على أطراف الأرض الأربعة (7/1). ولن ينزلوا العقاب إلا بعد أن "يُختم عبيد الله على جباههم. وأما عددهم المائة والأربعة والأربعون الفا فهو يرمز إلى كثرة المختارين من آل اسرائيل، إلى جانب المختارين من الشعوب الوثنية الذين لا يحصى عددهم وهم من كل أمه وقبيلة وشعب ولسان (7/9). وكلهم غسلوا حللهم وبيضوها بدم الحمل يعبدون الله ليل نهار، والحمل الذي في وسط العرش يرعاهم.
أما في الأرض فتنفخ الملائكة السبعة بالأبواق إيذانا بالعقاب (8/6- 11 ، 19) وقبل النفخ في البوق السابع ينقلنا الكاتب إلى رؤية ملاك يهبط من السماء، وبيده كتاب صغير مفتوح يطلب من يوحنا أن يبتلعه، فابتعله وملأ جوفه مرارة وفمه حلاوة (10/8-11) وهو الكتاب الذي بموجبه تجري الدينونة. ثم يعلن أن الوثنيين سيدوسون المدينة المقدسة اثنين وأربعين شهرا، وهذا رمز إلى الكارثة الكبرى التي حلت بأورشليم وهيكلها عام 70 فوجَّه دمار هيكل اليهود فكر المسيحيين إلى زمن الكنيسة التي أخذت مكان الشاهدين (رمز لموسى وإيليا)، ومع نفخ الملاك السابع تعالت الأصوات في السماء: "صار مُلك العالمين لربنا ومسيحه" (11/3-9)
ب – وتتوالى الرؤى لتصوير الصراع بين الكنيسة وقوى الشر. فالكنيسة واجهت اضطهادات القوى السياسية المستبدة. فبالنسبة للمرأة والتنين، فإن المرأة رمز الكنيسة التي ولدت المسيح عبر مخاض الجلجلة. وأما القتال الشديد بين ميخائيل وملائكته والتنين واعوانه فهو يرمز إلى اندحار الشيطان وغلبة المسيح. وسيبقى المؤمنون بالمسيح يحاربون وحش البحر، وهو رمز للدول المستبدة وفي مقدمتها الامبراطورية الرومانية، كما يحاربون وحش البر المؤتمِر بأمره وهو رمز الإديولوجية التي انتهجتها السياسة الرومانية في قهر الشعوب المغلوبة، وكبح حريتها في الإيمان والعبادة. وكان الامبراطور دومسيانوس (81-96) قد فرض على الناس أن يعبدوه باعتباره إلها، وسفك دماء الكثيرين. وبازاء قوى الشر يتجلى الحمل على صهيون ومعه مائة واربعة واربعون ألفا، كُتِبَ على جباههم اسمه واسم ابيه.
وعندما ينذر الملائكة بالدينونة (14/6-13) تتجلى ساعة ثبات القديسين وانتصارهم، عبر الآمهم التي تشركهم في الآم المسيح (14/14-20). أما رؤيا المرأة الراكبة على وحش قرمزي فهي ترمز إلى كونها سكرى من دم القديسين ومن دم شهداء يسوع. وأما الوحش فلقد زال من الوجود، ثم عاد لزمن قليل في شخص الملوك الذين سيحاربون الحمل، والحمل يغلبهم لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين مع الحمل يغلبون معه. وفيما يهتف الملاك قائلا: سقطت، سقطت بابل العظيمة، تصدح أناشيد الظفر من فم المختارين: "هللويا، الخلاص والمجد والقدرة لإلهنا... حان عرس الحمل... طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل".
وتُختم هذه الرؤى بالمعركة الأخيرة في السماء حيث يحرز المسيح انتصارا حاسما. وقد شبِّه بالفارس "الأمين الصادق" واسمه كلمة الله (19/11-13). في السماء يظهر المسيح بالثوب الأحمر رمزا لدمه المسفوك على الارض، وبعد أن يوثق الشيطان لِألف سنة، يتجلّى الشهداء الذين استشهدوا من أجل يسوع وكلمة الله، وقد عادوا إلى الحياة وملكوا مع المسيح ألف سنة. وكثيرا ما فُسِّرت الالف سنة وكانها نهاية العالم، بينما المقصود هو أننا في زمن الكنيسة والتي منذ البداية أصبحت تنتظر بالسهر والثبات مجيئه الثاني.
ج – ويُختتم السفر بوصف الكنيسة المنتصرة. فالقسم الأخير من الرؤيا ينقلنا إلى ملكوت الله الذي افتتحه يسوع بقيامته المجيدة أي إلى السماء الجديدة والأرض الجديدة. أورشليم الجديدة النازلة من السماء هي رمز للكنيسة المهيأة مثل عروس مزينة لعريسها. فالكنيسة هي ملكوت الله، فيها يقيم الله وتلتقى كل الشعوب حيث يشعر كل البشر أنهم في بيتهم لأن الله هو للكل، وهو يجعل كل شيء جديدا. فالكنيسة هي مسكن الله مع الناس وهي شعبه. وسوف يمسح الله كل دمعة من عيونهم ولن يبقى للموت، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم من وجود لأن العالم القديم قد زال (21/3-4). والرب القدير هو هيكل أورشليم الجديدة، وفيها يجري ماء الحياة المنبثق من عرش الله والحمل. الكنيسة على الأرض، تواجه الشِّدّة والإضطهادات، ولكنها تثبت على محبة المسيح وتعبر عن رجائها بقدوم المسيح وتصلي قائلة: "تعال أيها الرب يسوع". وجميع أبنائها مدعوون لأن يثبتوا في الأمانة للمسيح مدركين أن المسيح هو محور الكون وسيد التاريخ، وهو من كل شيء البداية والنهاية.
235
ورد في سفر الرؤيا وفي سفر دانيال وصف لكائنات اربعة وهي: الأسد والعجل والإنسان والنسر. فما تفسيرها؟
ورد في سفر الرؤيا وصف لأربعة حيوانات (حز1/5 – 12):
"وفي وسط العرش أربعة حيوانات رُصِّعت بالعيون من قدام ومن خلف. فالحيوان الأول أشبه بالاسد، والحيوان الثاني أشبه بالعجل، والحيوان الثالث له وجه كوجه الإنسان، والحيوان الرابع أشبه بالعقاب الطائر" (رؤ 4/6-7).
وقد استقر التقليد المسيحي على أن هذه الحيوانات الأربعة ترمز إلى اٌلإنجيليين الأربعة:
1 - القديس إيريناوس، أسقف مدينة ليون الشهيد، الذي استُشهِد في القرن الثالث يقول بأن
أ - الأسد يرمز إلى القوة ويُعبِّر عنه إنجيل يوحنا.
ب - وأن العجل يُقدم كثيرا ذبيحة للرب فهو يرمز إلى الكهنوت
ويُعبِّر عنه إنجيل لوقا،
ج - وأن الإنسان يرمز إلى التجسد ويُعبِّر عنه إنجيل متى،
د - وأن النسر يرمز إلى عطية الروح القدس وإلى السمو اللاهوتي
ويُعبِّر عنه إنجيل مرقس.
2 - أما القديس أغسطينوس في القرن الرابع فهو يرى
أ - أن الأسد يمثل إنجيل متى،
ب - وأن العجل يمثل إنجيل لوقا،
ج - وأن الإنسان يمثل إنجيل مرقس،
د - وأن النسر يمثل إنجيل يوحنا.
وتفسير القديس أغسطينوس هو الرأي الشائع اليوم في الكنيسة.
236
يا أبونا، قل لي، هل من الممكن أن يساعدني سفر الرؤيا في حياتي الروحية؟
سفر الرؤيا يساعدك ويساعدني في حياتنا الروحية، إذا عرفنا أن نقرأه قراءة صحيحة، وأن نتأمل فيه مليا. فهو:
أولا – يساعدنا على اكتشاف يد الله الخفية في التاريخ، في مسيرة الكنيسة نحو الملكوت وفي حوادث زماننا الذي نعيش فيه، ويعزينا ويشجعنا على الأمانة للمسيح مركز التاريخ وسيد العالم. وكلمته إلى المسيحيين ثابتة في كل مكان وكل زمان. وهي تحرك فينا الرجاء والثقة بأن الحمل، أي المسيح المائت على الصليب في سبيل خلاصنا سوف ينتصر في النهاية على قوى الشر في العالم، فقد قال: ثقوا فقد غلبت العالم. وقد حقق النصر فعليا منذ يوم الجمعة العظيمة وأحد الفصح المجيد. ولذلك لا تنفع التفاسير الحرفية للرموز لأنها تحيد بنا عن معانيه العميقة وتقودنا إلى ارتكاب اخطاء كثيرة، وتولد فينا الخوف لكثرة ما يصف من نكبات وكوارث تحل بالعالم.
ثانيا – كُتِب سفر الرؤيا حوالي سنة 85 حين كانت الإمبراطورية الرومانية تضطهد الكنيسة. فهو يتوجه أولا إلى المسيحيين المضطهدين ويصف واقعهم الصعب ومستقبل الكنيسة ويشجعهم ويذكرهم بأمانة الله لكنيسته. فالكنيسة كانت تجابه الإضطهاد ومشاكل عصرها. فالرسائل إلى الكنائس السبع تشير بوضوح إلى هرطقات وانشقاقات ومشاكل داخل الجماعة. ولكنها كانت في نفس الوقت مطمئنة بأنها لن تنهار أبدا لأن المسيح وعدها بأن أبواب الجحبم لن تقوى عليها. فالمسيح بحفظها ويرعاها.
ثالثا - عرف المسيحيون الأولون أن يقرأوا سفر الرؤيا قراءة صحيحة. عرفوا أن رموزه الكثيرة تعبر عن واقع الكنيسة المضطهدة، وأنه يدعوهم إلى الثبات على الإيمان، والأمانة للمسيح وإلى التحرر من الفجور والشهوات والسكر والقصوف في الطعام والشراب وعبادة الاصنام المحرمة، كما قال ذلك صراحة بطرس الرسول في رسالته الاولى. (4/3). لقد أدركوا أن مشاهد السفر تُعبِّر عن وضعهم في الإمبراطورية الرومانية التي كانت تضطهدهم. فالوحش هو السلطة السياسية التي ترتكب الكثير من المظالم والجشع والكبرياء، والتنين هو الشيطان الذي يعيث في العالم فسادا. أما يسوع المسيح فهو الرب، وهو الشاهد الأمين، يسهر على كنيسته وسلطته فوق سلطة كل بشر.
رابعا – إن سفر الرؤيا يعود بالمسيحيين في كل مكان وجيل، إلى واقع حياتهم الروحية، وهو معركة الخير ضد الشر، معركة الكفر بالشيطان والإيمان والحياة بالمسيح. كلمة الله هي هي بالأمس واليوم وإلى الأبد. وهي تتوجه إلى كل الناس في كل مكان وزمان، ويبقى علينا أن نفهمها ونتغذّي بها: "من له أذنان فليسمع ما يقوله الروح". فكلنا مدعوون إلى التوبة وإلى الثبات على محبة المسيح. والمسيح حررنا بدمه من خطايانا وهو يوبخ ويؤدب ويبقى مع كنيسته إلى الأبد. الحياة المسيحية ليست حياة سهلة، ولكن تابع المسيح لا يخاف العاصفة.