المجموعة السادسة - تاريخ الكنيسة

أضيف بتاريخ 07/25/2023
rania.kattan

المجموعة السادسة

تاريخ الكنيسة


381
ما معنى "تاريخ الخلاص" ؟

تعني الكنيسة بتاريخ الخلاص أن الله أخذ على عاتقه تاريخ البشرية كلها، وقدم خلاصه لكل إنسان. فالله الآب حقق "سر الخلاص" بإرسال ابنه الحبيب وروحه القدوس إلى العالم. ذاك هو سر المسيح الذي كُشف في التاريخ بمقتضى خطة معلومة، ورسم مُحكم التنسيق، يسميه بولس الرسول "تدبير السر" (أف 3/9).

وتعني الكنيسة أيضا أن كل اختبارات الخلاص التي حدثت قبل المسيحية أو خارجها تتوجه كلها بصورة زخمة إلى تدبير الخلاص الذي صنعه المسيح بالسر الفصحي، سر الآمه وموته على الصليب وقيامته المجيدة من مثوى الأموات وصعوده إلى السماء. إنه قضى على موتنا بموته، وبعث الحياة في حياتنا بقيامته.

سقط الإنسان في عبودية الخطيئة، وخلاصه لا ياتي إلا من الله . فخلاصه ثمرة محبة الله له إذ: "أنه أحبنا وأرسل ابنه كفارة عن خطايانا" (1 يو 4/10). "الله هو الذي، في المسيح، صالح العالم مع نفسه" (2 كو 5/19).  وبسر التوبة يستطيع المعمَّد أن يتصالح مع الله والكنيسة التي تنال من المسيح "ملء الخلاص" الذي أراده لها أي: الإعتراف بالإيمان القويم والكامل، وحياة الأسرار التامة، وخدمة الخلافة الرسولية التي هي على شركة كاملة مع بطرس الرسول وخلفائه. بهذا المعنى الأساسي، كانت الكنيسة كاثوليكية في يوم العنصرة، وستكون كذلك الى يوم مجيء المسيح" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 830).

382
نقرأ في تاريخ الكنيسة أن صحارى بلادنا كانت تعج بالنساك، واليوم نرى في الكنيسة التوجه إلى الحياة الرهبانية، فهل من فرق بين الحياة الرهبانية والحياة النسكية؟

الحياة الرهبانية هي هبة تنالها الكنيسة من السيد المسيح، وبالتالي فهي تتعلق بسر الكنيسة والمسيح. وهي طريقة حياة ثابتة، تقوم على اعتناق المشورات الإنجيلية نذورا: الفقر والطاعة والعفة، واتباع المسيح بدافع الحب إلى أقصى الحدود ضمن الحياة الجماعية، وذلك لمجده تعالى وبناء الكنيسة وخلاص العالم والشهادة على اتحاد المسيح والكنيسة. 

أما الحياة النسكية فهي تُبرز الوجه الداخلي لسر الكنيسة القائم على الألفة الشخصية مع المسيح. وهي عطاء  الذات الكلي للمسيح، بدون أن يعتنق الناسك دائما المشورات الانجيلية الثلاثة نذورا. لكنه يكرس حياته لتسبيح الله وخلاص العالم، في انعزال عن العالم أشد من انعزال الرهبان، وفي صمت العزلة، وفي الصلاة المتواصلة والتوبة. ليست الحياة النسكية إنكارا للعالم ولوجوده بل هي ألفة فائقة مع المسيح مصدر النعمة وصانع الفداء. إنها "غوص" النفس في أعماق الخالق، وهي دائما عمل شخصي فردي لا عمل جماعي. الحياة النسكية، بعيدا عن نظر البشر هي بحد ذاتها، كرازة صامتة بالمسيح. 

383
من هم آباء الكنيسة؟ وكيف نميزهم عن غيرهم؟ ومن هم معلمو الكنيسة وكيف حصلوا على هذا اللقب؟

1 – أُطلِق  لقب "آباء الكنيسة" على مجموعة من العلماء والمفكرين والقديسين، من العصور الأولى وحتى القرن الثامن، ممن أغنوا الكنيسة بكتاباتهم وعظاتهم، ودافعوا عن الإيمان القويم ضد الهرطقات. ويبلغ عددهم حوالي المائة،. ويُعتبر عهد آباء الكنيسة في الغرب منتهيا بموت القديس ايزيدورس من أشبيلية سنة 636  وفي الشرق بموت القديس يوحنا الدمشقي سنة 749. ومن أهم آباء الكنيسة القديسون: امبروزيوس واثناسيوس وأغسطينوس وباسيليوس الكبير وبندكتوس واكلمنضوس الروماني وقبريانوس واغناطيوس الانطاكي وغريغوريوس الكبير وايرينيوس وايرونيموس ويوحنا فم الذهب ويوستينوس النابلسي الشهيد ... الخ.

إن تأثير آباء الكنيسة على مدى الأجيال كبير جدا لأنهم نقلوا تعليم الكنيسة. أما ما يميزهم عن غيرهم  فهو: 

1-   صحة العقيدة. وهذا لا يعني العصمة  ولا ينفي الضلال في بعض
     الأمور.
2 - قداسة السيرة بالمعنى الذي كان لها في أوائل المسيحية.
3 - اعتراف الكنيسة بهم، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
4 – لأنهم عاشوا في عهد ينتهي في الغرب بموت ايزيدورس من مدينة
     اشبيليه وفي الشرق بموت يوحنا الدمشقي أي في الجيل الثامن.

2 – كذلك لُقِّب البعض من القديسين  بأنهم معلمو الكنيسة بسبب كتاباتهم المميزة ومواعظهم البليغة. من بينهم القديسون: ألبرتوس الكبير، والفونسيوس ليغوري، وانسلموس، وانطونيوس البادواني، وبرناردوس، وبونفنتوره، والقديس توما الأكويني، وفرنسيس السالسي، ويوحنا للصليب، وبطرس كانيزيوس، وروبرتس بللرمينو، والقديسات: تريزيا الافيلية، وكاترينا السيانية، وتريزيا للطفل يسوع.

 


384
كيف نشأت محاكم التفتيش في القرون الوسطى؟

تاريخ نشأتها طويل نختصره لك كما يلي:

1 – في القرن الثاني عشر انتشرت في ربوع  أوروبا البدع والهرطقات التي شكلت خطرا كبيرا على الإيمان المسيحي، نذكر منها بنوع خاص بدعة الكاتار وبدعة الفودوا والألبيجوازية وغيرها من البدع التي تفشت في أوساط كثيرة، وشكلت جماعات وطوائف مناوئة للكنيسة. وبدأت هذه البدع، على وجه العموم، بتمرد طبقات فقيرة ضد أسيادهم، وضد الإكليروس الغني. كان الكثيرون يعتقدون أن ثروات الكنيسة  الطائلة هي السبب الرئيسي في فساد الكنيسة. فالهرطقات والبدع في القرون الوسطى، نشأت لأسباب اقتصادية واجتماعية. ومن الناحية الإيمانية، كانت هذه الهرطقات والبدع تنكر سر التجسد وسر القربان، وترفض العماد للأطفال والسلطة الأسقفية والكهنوت. وبعضها أيضا راح يرفض الزواج وأكل اللحوم، وكان يطالب بهدم الكنائس وتحطيم الصلبان لأن الصليب أداة عذاب المسيح. فكانت هذه الهرطقات والبدع مناوئة للدين وللأخلاق. وفي سنة 1167 دعا زعماء الهرطقة إلى مجمع في مدينة سان فيليكس دي كارامان لتنظيم أمورهم. 

2 - في القرن الثالث عشر كان للبدع طوائف مناوئة للكنيسة وللإيمان المسيحي في معظم المدن الإيطالية ومملكة نابولي وصقلية، وفي شمال إيطاليا وجبال الألب. وساعدها على الانتشار تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان همّ رؤساء الكنيسة يتوجه إلى تأمين السلامة  والأمن والاستقرار للمجتمع والمحافظة على وديعة الإيمان. 

3 – في سنة 1184 اتفق البابا والامبراطور على خطة للتفتيش عن الهراطقة، وأُعطي المطران المحلي صلاحية تسليم الهراطقة إلى السلطة المدنية. وسنة 1216 عهد البابا انشنسيوس الثالث إلى القديس دومنيك مؤسس رهبانية الدومنيكان بإعادة تبشير المناطق الفرنسية التي انتشرت فيها بدعة الكاتار. وكان أتباع بدعة الألبيجوازيين آنذاك يلجأوون إلى العنف وسفك دماء الكثيرين من المواطنين المتنفذين، من الإكليروس ومن رجال الدولة. وقد طلب البابا إلى ملك فرنسا فيليب اوغيست ان يتدخل، ولكن كان تدخل الملك  فاترا. ولما توج فريدريك الثاني في المانيا سنة 1220 وكان سياسيا بارعا، سن عددا من القوانين، واعطى الاساقفة صلاحية التفتيش عن الهراطقة، وإحالتهم إلى المحاكم المدنية، وأضاف عام 1224 يقول أن الهرطوقي إذا أصر على هرطقته فليحرق بالنار. وهذه العقوبة الصارمة قبلها البابا هونوريوس الثالث، دون أن يعلن ذلك رسميا وقبلها رسميا خلفه البابا غريغوريوس التاسع ونفذها في ايطاليا.

4 – في جنوب فرنسا،  انتشرت بدعة الكاتار. فسنت السلطة المدنية قانونا لمعاقبة الهراطقة سنة 1229 وأصبح هذا القانون القاعدة لأصول المحاكمات التي تتّبعها محاكم التفتيش. ولما أُنتخب البابا غريغوريوس التاسع، أعلن ان مسؤولية الحفاظ على الايمان تعود أولا إلى الإكليروس وليس إلى السلطة المدنية. ونشر البابا قانونا سنة 1231 حيث حوّل التشريع المدني ضد البدع والهرطقات إلى تشريع كنسي. وطبِّق هذا القانون في ميلانو وروما وصقلية، ومن ثم في مدن شمال إيطاليا، وإسبانيا وسائر أنحاء أوروبا.

5 – على وجه العموم، كانت الإجراءات تتم كما يلي: كان المنتمون إلى الهرطقات والبدع يُعطون "مهلة قضائية" مدة تتراوح بين 15 يوما وشهر لكي يمثلوا تلقائيا أمام القضاة ويعترفوا بضلالهم ويتوبوا وهم واثقون بأنهم، في هذه المدة يجدون رحمة وغفرانا. وكان المفتشون يعلنون هذه المدة القضائية ويأمرون المسيحيين بإدانة الهراطقة والمشتَبَه بهم تحت طائلة الحرمان. وكان يجب على من يتهم أحدا بأنه هرطوقي أن يقدم الدليل القاطع على صحة إدّعائه. وكان المصرّون على هرطقتهم يُعاقَبون في النتيجة بعقوبة الإعدام حرقا. وكان "التفتيش"، في معظم الأوقات، يأمر بخنقهم قبل إحراقهم، كي لا يُحرَقوا وهم أحياء، وكانوا يرفضون تشويه أجسادهم بعد موتهم حرقا. ولم يكن المفتشون يحسنون التمييز بين الذين تمردوا على الإيمان المسيحي بوعي وقصد، ويتحملون نتيجة تصرفهم، وبين الذين  لا ذنب لهم لانهم وُلدوا ونشأوا وتربوا في الهرطقة. 

6 – في القرون الوسطى، كان المجتمع المسيحي متمسكا تمسكا شديدا بعقيدته وعاداته. وعندما أخذت البدع والهرطقات تتطاول على العقيدة وعلى ما في المجتمع من عادات تقوية، أخذ المجتمع المسيحي يجتاز أزمة دينية كبيرة. ولذلك أراد التفتيش أن يوجه ضربة قاضية إلى البدع والهرطقات. فسقط آخر معقل للكتار وهو مدينة مونتسقور سنة 1244.

كان التفتيش نتاج ظروف تاريخية وثمرة الجو الفكري السائد الذي كان سائدا في القرون الوسطى. وكانت السلطات الزمنية تنقاد عموما لما يرضي الكنيسة. ومن جهة أخرى، كان الهراطقة في ذلك العصر، متمردين وكانت عقديتهم تُعرِّض المجتمع المسيحي لخطر جسيم. صحيح أن سلطة التفتيش كانت تعمل ما في وسعها لحصر المذنبين وتقليل عدد المحكوم عليهم حرقا. غير أن هذا لا يكفي لتبرير عقوبة النار. وكان يجب الاستغناء عنها. فما في الإنجيل من رحمة ومحبة ودعوة إلى التوبة هو لكل الناس، في كل الازمنة.

385
هل كانت الكنيسة الأولى شيوعية؟ فقد ورد في سفر أعمال الرسل: "وكان جماعة الذين آمنوا قلبا واحدا ونفسا واحدة، لا يقول أحد منهم انه يملك شيئا من أمواله، بل كان كل شيء مشتركا بينهم ... ولم يكن فيهم محتاج" (أعمال 4/32، 34)

1 - لم تكن الكنيسة الاولى شيوعية، ولم تستنبط نظاما اقتصاديا لسد حاجات الناس، بل اختبرت منذ  انطلاقتها بعد العنصرة، عيش الأخوّة المشترك حيث كانوا يسدّون حاجات بعضهم البعض. فمن كان يملك حقلا أو بيتا كان له ملء الحرية في أن يبيعه ويأتي بثمن المبيع، فيلقيه عند أقدام الرسل، فيعطى كل منهم على قدر احتياجه" (رسل 4/34-35) فلم يكن فيهم محتاج. وقد حُكم على حننيا وسفيرة لانهما كذبا على الرسل، مع العلم أنهما لم يكونا ملزمين ببيع ملكهما، ووضع الثمن عند أقدام الرسل (رسل 5/1-4).

هذه الخبرة التي مرت بها كنيسة أورشليم لم تكن نظاما اقتصاديا، ولم يلتزم بها المسيحيون  في المدن والمناطق الأخرى. ولم تمر هذه الخبرة من دون مشاكل، كما يذكر ذلك سفر أعمال الرسل (رسل 6/1-6). وسرعان ما تبين للرسل أن هذا الاسلوب لم يكن كافيا لسد حاجات الجماعة، فنظم بولس الرسول  جمع التبرعات لفقراء المدينة المقدسة، وقد قال بهذا الصدد لأهل كورنتس: "وأما جمع الصدقات للقديسين، فاعملوا أنتم أيضا بما رتبته في كنائس غلاطية" (1 كو 16/1). 

2 - كثيرون من الجماعة المسيحية الأولى كانوا يعتقدون بأن المسيح آت  قريبا جدا وأنهم لن يروا الموت قبل رجوع المسيح، فأرادوا أن يعيشوا على الأرض ما سوف يعيشونه في السماء حيث السعادة الأبدية  للجميع. وقد طال انتظارهم. قال بطرس الرسول بهذا الصدد:

"هناك أمر لا يصح لكم أن تجهلوه أيها الاحباء، وهو أن يوما واحدا عند الرب بمقدار ألف سنة ... إن الرب لا يبطىء في انجاز وعده، كما اتهمه بعض الناس، ولكنه يصبر عليكم لأنه لا يشاء أن يهلك أحد، بل ان يبلغ جميع الناس إلى التوبة. سيأتي يوم الرب كما يأتي السارق ..." (2 بط 3/8-10).

3 – نستخلص من الإنجيل المقدس، ان تقاسم الخيرات هو علامة المحبة المسيحية، وأن السيد المسيح لم يلغ حق الملكية ولم يقم نظاما اقتصاديا جديدا. ولكنه يطلب منا ان نعيش متجردين من الخيرات الزمنية، سواء ملكنا منها الكثير أم القليل. فالغنى قد يُبعد الإنسان عن الله، وقد يغذي فيه الوهم  بأنه في مأمن  وسلام واستقرار. قال يسوع: "لا تستطيعون أن تعبدوا ربين الله والمال". وقال أيضا طوبى لفقراء الروح". ولم يقل طوبى للفقراء ماديا. والسيد المسيح لم يتجاهل الناحية الاقتصادية للحياة فتعلم مهنة النجارة. وفي حياته العلنية ذكر لوقا: "إن نساء كثيرات كن يساعدنه هو ورسله بأموالهن" (لو 8/3). وذكر متى أن يسوع دفع ضريبة الدرهمين (متى 17/24-27). وذكر يوحنا أن يهوذا كان مسؤولا عن صندوق دراهم جماعة التلاميذ (يو 12/6). وخلاصة القول، أن يعيش الإنسان متجردا لا يعني أن لا يملك شيئا. فامتلاك الخيرات الدنيوية ضروري للحياة، وضروري لعمل الخير بكل اصنافه المادية والاقتصادية.

386
قرأت مرة أن الملك قسطنطين الذي أعطى الحرية للمسيحيين وأنهى عصور الاضطهاد الروماني للكنيسة لم يطلب في حياته العماد وإنما عُمِّد وهو على فراش الموت. فهل هذا صحيح؟

هذا صحيح. لقد حكم قسطنطين  الإمبراطورية الرومانية من سنة 306 إلى سنة 337. فبعد ثلاثة قرون من الاضطهاد أعطى الديانة المسيحية حقها الشرعي في الوجود مثل سائر الديانات الوثنية المعترف بها في الإمبراطورية. ومنذ سنة 312 اصبح قسطنطين داعما للكنيسة بكل وضوح وحماس. وأنهى عصر الإضطهاد في أوروبا. وتبعه إنتهاء الاضطهاد في الشرق سنة 313 وأعاد إلى الكنيسة املاكها التي سلبتها منها الدولة في عصر الاضطهاد، وأعفى الكنيسة من الضرائب. وسنة 315 وضع صورا وشعارات مسيحية على العملة. وأخذ المسيحيون دورهم في الحياة الاجتماعية والسياسية  وتبوّأوا مناصب عاليه في الدولة. فكان قسطنطين أول امبراطور تبنّى المسيحية، بينمااعتنقت أمّه وأخواته الديانة المسيحية وربى أولاده تربية مسيحية. إلا أنه لم يطلب العماد إلا وهو على فراش الموت.

387
متى بدأت الحياة النسكية والرهبانية في الكنيسة؟

من  الثابت تاريخيا أن الحياة النسكية بدأت في مصر قبل انتهاء عصر الاضطهادات سنة 313 التي فيها أصبحت الديانة المسيحية صاحبة حق قانوني في الوجود في الإمبراطورية الرومانية. كثير من الرجال والنساء، بنوع خاص في مصر، زهدوا في الحياة الدنيوية والاجتماعية ولجأوا إلى البراري لكي يعيشوا حياتهم المسيحية، هربا من مضايقات الاضطهاد، ومن تملقات الحضارة والعالم. لقد أرادوا أن يعيشوا حياة الكمال وأن يتجردوا من كل شيء: "إذا أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أموالك واعطها للفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال فاتبعني" (متى 19/21). فكانت الحياة النسكية، مع ما فيها من خشونة وصعوبة مادية وروحية، هي الواسطة الكبرى لتحقيق هذا التجرد الكامل. القديس هيلاريون الناسك، تلميذ الناسك القديس انطونيوس أقام في صحراء غزة، وذلك حوالي سنة 300، وكانت بداية الحياة النسكية في فلسطين.

وجدير بالذكر أن الحركة النسكية لم تنشأ بايعاز من رجال الكنيسة، ولكنها كانت مبادرة علمانية. إلا أن الكنيسة احتضنتها لأنها رأت فيها سبيلا  إلى التجدد الروحي. وحاولت أن تثقف النساك على الحياة الروحية وعلى تحاشي الكثير من التطرفات، وعلى تنظيم الحياة الجماعية والليتورجية والعمل والدراسة.

388
انتشرت المسيحية انتشارا واسعا في الامبراطورية الرومانية بعد الاعتراف بها رسميا  في مطلع القرن الرابع. فهل لك أن تزودني بأهم الحوادث التي جرت للكنيسة في هذا القرن الرابع؟ 

نعم افيدك بهذا الشأن، واختصر لك أهم حوادث القرن الرابع من تاريخ الكنيسة كما يلي:

1 – سنة 313 اكتسبت الديانة المسيحية وضعا شرعيا في الدولة الرومانية، بموجب "مرسوم ميلانو"، وأصبح الإمبراطور قسطنطين أول امبراطور مسيحي ولكنه لم ينل سر العماد المقدس إلا وهو على فراش الموت. وبدأ آريوس ينشر تعاليمه في الاسكندرية. وسنة 324 انتصر قسطنطين على ليشينيوس في معركة  ادرينوبلس وأصبح الإمبراطور الوحيد على الشرق والغرب. وقد عُقد المجمع النيقاوي سنة 325، بمبادرة من الإمبراطور. فشجب هذا المجمع البدعة الأريوسية. وسنة 337 توفي الإمبراطور قسطنطين، وخلفه ابناؤه من سنة 337 الى سنة 361.

2 – سنة 318 أسس القديس باكوميوس (290-346) أول دير للرهبان الذين يلتزمون بالحياة الجماعية، واسست أخته ماريا سنة 340 أول دير للنساء. وفي عام 330 تم التاكيد على الاحتفال بعيد الميلاد في 25 ديسمبر في كل أنحاء العالم المسيحي. وسنة 336 تم تدشين كنيسة مار بطرس في روما على تلّة الفاتيكان. وشجب البابا اسطفانوس تعليم قبريانوس، في شمال افريقيا الذي كان يطالب بإعادة تعميد الذين جحدوا الإيمان ويريدون أن يتوبوا ويرجعوا إلى حضن الكنيسة.

3 - الإمبراطور  كونستانسيوس (347) حارب البدعة الدوناتية، وكذلك الإمبراطور قراسيانوس (376). وحوالي سنة 357 أسس القديس باسيليوس أسقف قيصرية، ديرا في أرض تملكها عائلته واتصف قانون الرهبانية بالكثير من الاعتدال. ومن سنة 361 الى سنة 363 حاول يوليانوس الجاحد أن يعود بالإمبراطورية إلى العهد الوثني ولكنه لم ينجح. فكانت صيحته الشهيرة: "لقد غلبتني أيها الجليلي". وفي تلك الفترة، انتصرالغوط في معركة اندرينوبل على الرومان. وبدأت القبائل البربرية من الفيزيقوط والاوستراقوط والفندال والفرنك تتدفق على اوروبا.

4 – سنة 380 جعل الإمبراطور تيودوسيوس الإيمان المسيحي إلزاميا على كل المواطنين، وحارب البدعة الأريوسية. وسنة 381  عقد مجمع القسطنطينية المسكوني الثاني حيث شجب الأريوسية وجميع البدع الأخرى. وسنة 390 لبس الإمبراطور تيودوسيوس المسح دلالة على توبته ورجوعه إلى الله لأن القديس امبروزيوس منعه من دخول الكنيسة  بسبب ما ارتكب من ظلم وعنف تجاه أهل تسالونيكي. وسنة 392 ألغى قراسيانوس رسميا العبادات الوثنية. 

389
هل لك أن تعطيني لمحة عن تاريخ كنيسة القيامة في القدس الشريف؟

منذ نشأة المسيحية كان المسيحيون يكرمون قبر السيد المسيح وجلجلة الصلب بالرغم من الاضطهادات الكثيرة التي لحقت بالكنيسة منذ نشأتها. وفي أواخر القرن الاول للميلاد، كان الفيلق الروماني العاشر يسهر على الأمن والسلام في القدس. وكان قائد الفيلق يتعاطف مع المسيحيين. فأقام المسيحيون معبدا صغيرا في مكان القيامة. ولكن الرومان دمروه سنة 135 لما ثار عليهم الزعيم اليهودي بار كوبا في عهد الامبراطور أدريانوس. فالرومان لم يميزوا بين معالم اليهود ومعالم المسيحيين. وأمر أدريانوس بغرس حرش في المكان، وأقام عند قبر الخلاص نُصبين، أحدهما للإله جوبيتر رئيس الآلهة، والآخر لفينوس إله الحب والجمال والخصب والدعارة. ومع هذا لم يكف المسيحيون عن التوافد إلى أقرب مكان من قبر المسيح متخذين التمثالين مرجعا ودليلا على موقعه.

ولما انتهى عهد الاضطهاد، جاءت القديسة هيلانة والدة الملك قسطنطين حاجة إلى المدنية المقدسة، وأمرت باجراء الحفريات بحثا عن الصليب وعن قبر المسيح. وبنت كنيسة ضخمة تم تدشينها سنة 333 للميلاد. ولما غزا الفرس فلسطين سنة 614 دمروا جميع الكنائس، ما عدا كنيسة المهد  وأخذوا خشبة الصليب. فاسترجعها منهم الامبراطور هرقل سنة  628. وبنى المسيحيون كنيسة جديدة بصورة مصغرة عن الكنيسة السابقة. وسنة 1009 أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بهدم كنيسة القيامة وكنائس كثيرة غيرها. وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يعاني من عقلية متقلبة ونفس كئيبة، وأن أعماله كانت دون اتزان لا يلبث ان يندم عليها عندما يصحو إلى نفسه. وفي 19 تشرين الأول من السنة نفسها أمر بتحطيم صخرة قبر المسيح بالمطرقة. ولكنه عاد سنة 1010 وأصدر أمرا باعادة بناء الكنائس التي هدمها ومنها كنيسة القبر المقدس. فأعاد المسيحيون بناء كنيسة متواضعة في مكان الكنيسة القديمة، وعادوا يقيمون فيها الشعائر الدينية.

وفي 15 تموز سنة 1099 دخل الصليبيون مدينة القدس فشيدوا كنيسة جديدة بين سنة 1131 و 1140 وهي التي لا تزال قائمة في صورتها الأصلية حتى يومنا هذا. وهي من تصميم المهندس الفرنسي جوردان. وقد تصدعت هذه الكنيسة في عهد الخوارزميين فاسرع المسيحيون إلى ترميمها سنة 1244. وفي القرون اللاحقة أضيفت بعض المباني إلى الكاتدرائية الصليبية، وكان المسيحيون سكان المدينة المقدسة يقومون باستمرار بالترميمات الروتينية لحفظها.

في سنة 1808 نشب حريق هائل داخل الكنيسة فسقطت قبتها وأعيد بناؤها. وفي سنة 1819 أوشكت الكنيسة على الانهيار مرة اخرى بسبب خلل فيها، فقامت فرنسا وروسيا بترميمها. وقد نصت معاهدة ميتيلين سنة 1913 بين فرنسا وتركيا، على ما لكل طائفة من حقوق، ومع ذلك بقيت نقاط كثيرة غامضة، كثيرا ما كانت ولا تزال سبب خصومة بين الطوائف. وفي أواخر عهد الانتداب البريطاني على فلسطين، اكتشف الخبراء الانكليز خللا جديدا في أعمدة الكنيسة، فعززوها بحزام حديدي من الداخل ظل قائما حتى اتفق على الترميم، المالكون الرئيسيون لكنيسة القيامة وهم اللاتين واليونان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس، وذلك  في العهد الأردني.

في اللغات الأجنبية يطلقون على الكنيسة التي تضم الجلجلة والقبر ومكان وجود الصليب "كنيسة القبر المقدس". أما المسيحيون العرب فيسمونها "كنيسة القيامة". والتسميتان تعبران عن إيمان المسيحيين بأن المسيح الذي مات على صليب الجلجلة ودفن في القبر، قام حقا من القبر بقوته الذاتية عزيزا مجيدا مظفرا. 

390
إدّعى أناس من المتجددين بأن نهاية العالم قريبة، ولم يَصدُقوا. فهل لك أن تفيدني  متى  ينتهي العالم ومتى يقوم  الناس من القبور ؟

لا أحد يعرف متى تكون نهاية العالم  ومتى يقوم الأموات من التراب، إلا الله وحده. ولذلك فإن كل التنبوءات عن نهاية العالم كانت باطلة وليست من الله. أما قيامة الاموات فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بمجيء المسيح الثاني في نهاية العالم ومن العبث ان يتكهن الانسان متى ستكون نهاية العالم.  ولكن ّ أهم ما في حياة كل إنسان، ليس نهاية العالم، بل نهاية حياته. وقد اعطانا السيد المسيح المبدأ الذي يجب أن يقودنا في حياتنا إذا أردنا نهاية صالحة ومصيرا أبديا سعيدا وهو أن نكون مستعدين لاستقبال الموت. لنا وقت محدود للعيش بالبر والقداسة قبل ان تعود اجسادنا إلى تراب الأرض وقبل أن تعود نفوسنا إلى باريها. 

إن السيد المسيح بقيامته المجيدة، عَبَرَ من حال إلى حال. إجتاز من وجود ينتهي إلى وجود مجيد لا ينتهي. المسيح الذي صلب بالامس والذي مات وقبر، هو الذي يتمجّد اليوم بالقيامة إلى الأبد نفسا وجسدا.  قيامة المسيح تعطي حياتنا معناها. نحن أبناء القيامة المجيدة مع المسيح. فالقيامة المجيدة تنتظرنا في نهاية الطريق. إنها ليست حلما بعيدا، وهي ليست وهما أو خيالا، بل هي حقيقة وواقع. نحن نقترب من النهاية. وكلما نظرنا اليها بتقوى وإيمان، اكتشفنا من خلالها أن كل يوم من حياتنا، إنما هو صفحة من كتاب حب الله العظيم، وأن الموت هو مجرد باب ضيق يفضي إلى الحياة الأبدية مع المسيح.

 

 

391
أما كان ينبغي التساهل مع هنري الثامن ملك انكلترا في القرن 
السادس عشر، ويُسمح له بالزواج ولا ينشق عن الكنيسة الكاثوليكية؟

قضية زواج الملك هنري الثامن من امرأته  كاترين من الأراقون Catherine d’Aragon ليست قضية مصالح بل قضية سر مقدس، ألا وهو سر الزواج. القضية قضية إيمان. فالكنيسة تؤمن أن الزواج الصحيح من جميع وجوهه والذي تم اكتماله بالحياة الحميمة بين الزوجين، لا تستطيع أية سلطة، دينية كانت أم مدنية، أن تلغيه بما يسمى الطلاق. وهذه كانت حالة زواج هنري الثامن من زوجته كاترين من أراقون.

كانت انكلترا في بداية القرن السادس عشر من أكبر الممالك الكاثوليكية في اوروبا. وملكها هنري الثامن لم يكن مشجعا للبروتستنطية. وقد اغدق عليه البابا بلقب "محامي الإيمان" بعد أن كتب كتابا يدافع فيه عن الإيمان الكاثوليكي وينتقد فيه مواقف لوثر من الكنيسة. ومع ذلك فإن هنري الثامن تبنى موقفا ضد الكنيسة من سنة 1530 الى سنة 1534 قاد في النتيجة مملكته إلى الإنفصال النهائي عن الكنيسة الكاثوليكية وأسس ما نسميه اليوم بالكنيسة الأنجليكانية.

السبب الرئيسي الذي قاد الملك هنري الثامن إلى الإنفصال هو سبب سياسي محض. وتؤكد ذلك سلسلة الاحداث التي تبعت الإنفصال.  فقد تزوج هنري الثامن امرأة أخيه آرثر الذي توفي عن عمر 16 سنة، واسم زوجته كاترينا، وذلك بتفسيح رسمي من السلطة الكنسية. ولكن كاترينا لم تنجب له اولادا يرثونه على العرش. فسيطرت عليه فكرة الخلافة على العرش وحاول أن يجد سببا لبطلان زواجه من كاترينا ولكنه لم ينجح. وقد أعلن البابا اكليمنضوس السابع أن زواجه صحيح. فنصب هنري الثامن ذاته رئيسا على الكنيسة في إنكلترا، وأعلن  صديقه المطران توماس كرانمر رئيس اساقفة كانتربري أن زواجه من كاترينا هو باطل. فثبّت الملك علنا زواجه الذي عقده سرا من آن بولين. فأنزل به البابا عقوبة الحرمان. وفرض الملك بعدها على كل مواطن أن يحلف يمين الولاء للملك والاعتراف ببطلان زواجه من كاترين.

إن تتابع الأحداث أثبت أن طلاق هنري الثامن لزوجته كاترين كان عملا سياسيا محضا. آن بولين لم تنجب له سوى بنتا. فتزوج الملك بعدها أربع مرات، وحكم بالموت على احدى ازواجه وعلى اكثر من صاحبة له.

392
لماذا وقفت الكنيسة ضد العِلم والتقدم  بإدانتها العالم جاليليو الذي اكتشف أن الأرض تدور حول الشمس؟

إن الكنيسة لم تقف ضد العِلم وضد العلماء. وفي ما يُسمى ب "قضية جاليلي" فإن تاريخ الاحداث يبين بكل وضوح أن الكثيرين من رجالات الكنيسة والعِلم في الجامعات الاوروبية كانوا يؤازرونه في رأيه بأن الارض تدور حول الشمس، وان الشمس لا تدور حول الارض. وأما مختصر الاحداث فهو كما يلي:

1 -  عام  1610 عرض جاليليو نظريته بأن الأرض تدور حول الشمس. وفي 21 كانون الأول سنة 1613 أرسل رسالته الشهيرة إلى الأب كاستيلي. حيث طرح السؤال التالي: إذا كانت النظرية العلمية لا تتطرق إلى خلاص النفس، هل يجوز الحكم عليها بأنها "هرطوقية"؟ أما محتوى الرسالة فقد أثار حفيظة الأب لوريني. فقدم هذا احتجاجا إلى الكردينال المسؤول عن سلامة الإيمان. نظر الكردينال في الأمر فرفض أن يدين الرسالة كما رفض أن يعتبر محتواها مخالفا للايمان. واستؤنف هذا القرار، فأدان الاستئناف الرسالة، وذلك في 26 شباط سنة 1616.

2 – سنة 1623 نشر جاليليو نظريته في جريدة ال Saggiatore  ، بعد حصوله من الأب ريكّاردي على ال "لا مانع من طبعه" أي بعد التأكيد بأن لا شيء يخالف الإيمان في نظريته. وسنة 1624 التقى جاليليو البابا اوربانوس الثامن  ست مرات ليشرح له نظريته.

3 – سنة 1632 نشر جاليليو "الحوار" بعد الحصول على موافقة روما وفلورنسا. وفي اكتوبر سنة 1632 دُعي للمثول أمام المجلس الساهر على سلامة الإيمان Sanctum Officium . وفي 22 حزيران حكم عليه بالسجن. وفي الأول من كانون الأول سنة 1633 عاش في فيلا يملكها في بلدة ارجنتري. وسنة 1638 نشر جاليلي "الحوار  Il Dialogo مع العلوم الجديدة"، وكان ذلك قبل موته بأربع سنوات.

9 - وأخيرا سنة 1757، أي اكثر من مائة سنة بعد موته، نسبت لأول مرة  إليه جريدة ال Libreria Italiana  القول: "ومع ذلك فان الأرض تدور".

إن حَدَث مسألة جاليليو، إذا ما وُضِع في إطاره التاريخي والكنسيي والاجتماعي الصحيح، لا يبرر الضجة الكبيرة التي أثيرت حولها في ما بعد. لقد نال جاليلي، في حياته، إحترام وتقدير الكثيرين من رجال الاكليروس.  وكان له في آخر سني حياته  أن يتابع دراساته العلمية شرط ألا يعود إلى موضوع دوران الارض. 

لقد كان جاليلي الابن "المدلل" في الاوساط الكنسية في روما. أما الصعوبات التي واجهها فتعود أساسا إلى الأسلوب الذي انتهجه لعرض نظريته. فالكثيرون من رجال الإكليروس والعلمانيين في الأوساط العلمية في الغرب، في عهده وقبله، كانوا يعتقدون مثله بأن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. وقد قدم جاليلي نظريته باسلوب يفتقر إلى البراهين العلمية. وكان يحتمي بالكتاب المقدس، ليبرر نظريته، كما كان يحتمي أيضا أعداؤه بالكتاب المقدس لكي يبرروا إدانتهم له.  وكان من جهة، يحصل على ال "لا مانع من طبعه"، ومن جهة أخرى كان أسلوب كتابته يثير حفيظة الكثيرين ممن لا يعتقدون بأن الأرض تدور حول الشمس. فأثار اسلوبه هذا الشبهة حوله، مما أدى في النتيجة إلى ادانته. وهذه الإدانة غير مقبولة اطلاقا. 

يبقى من المستهجن حقا أن تتدخل الكنيسة رسميا في أمور علمية لا تمس الإيمان على الإطلاق، سواء دارت الأرض حول الشمس أو دارت الشمس حول الأرض. ولم تكن هذه الإدانة حجر عثرة امام العلماء المسيحيين الذين حافظوا على التراث العلمي القديم واغنوا المكتبات ببحوثاتهم، وكانوا ولا يزالون في طليعة التقدم العلمي، النظري والمختبري.  وعندما بدأت تبزغ العلوم الحديثة في القرن السادس عشر، كان الباباوات من أكبر المشجعين لها في البلاد المسيحية، وخصوصا للعلوم المختبرية. وإنما طالبت الكنيسة وتطالب دائما الالتزام بالاخلاق واحترام الحياة البشرية وكرامتها منذ أول لحظة من الحبل به.

وجدير بالذكر أن الكنيسة أعادت لجاليليو تقديره إذ وصفه البابا بيوس الثاني عشر بأنه كان أكثر أبطال البحوث شجاعة، وأشاد البابا بندكتوس الساجس عشر بمساهمات جاليليو في علم الفلك أثناء احتفالات الذكرى الى 400 لأول تلسكوب لجاليليو.

393
سمعت من بعض الشباب أن الكنيسة بدأت تلزم بحضور قداس الأحد أيام الآحاد وأعياد البطالة في مطلع القرن التاسع عشر. فهل هذا صحيح؟ وهل للالتزام بقداس يوم الأحد تاريخ قديم ولماذا له أهمية كبيرة في الكنيسة؟

منذ نشأة الكنيسة، أصبح يوم الرب، أي يوم الأحد، محور حياة الكنيسة، وينبوع غذائها بالإفخارستيا، كما يؤكد ذلك سفر أعمال الرسل ورسائل القديس بولس الرسول. القديس يوستينوس النابلسي  الشهيد، في القرن الثاني للميلاد (100 – 165) وكان يُعلّم الفلسفة في جامعات روما، وجه رسالة إلى الإمبراطور انطونيوس وإلى مجلس الشيوخ، حيث وصف باعتزاز عادة المسيحيين الذين كانوا يجتمعون نهار الأحد، في مكان واحد يضم مسيحيي المدن والأرياف. وقال عدد من شهداء أفريقيا، في استجواب الحاكم لهم: "نعم احتفلنا بعشاء الرب بدون أي وجل لاننا لا نستطيع أن نستغني عنه: هذا قانوننا". وقال شهيد آخر: "لا يمكننا أن نعيش بدون عشاء الرب". وقالت إحدى الشهيدات: "نعم إني ذهبت إلى الاجتماع واحتفلت بعشاء الرب لأني مسيحية". 

وفي مطلع القرن الثالث، وليس في مطلع القرن التاسع عشر، تحولت هذه الممارسة العفوية إلى قانون كنسي. وقد ورد في كتاب "الديداسكاليا" في منتصف القرن الثالث:

"في يوم الرب، دعوا كل شيء، وهرولوا بسرعة إلى اجتماعكم. هناك تسبحون الرب. ولا عذر أمام الله لاولئك الذين لا يجتمعون يوم الرب لسماع كلمة الحياة وتناول طعام الحياة الذي يبقى إلى الأبد".

وعندما انتهى عهد الإضطهاد، أخذ الفتور يدب في حياة بعض المسيحيين، فأخذت الكنيسة توضح للمؤمنين واجب المشاركة في قداس الأحد، وانزلت في القرن الرابع عقوبات روحية على من لا يحضر قداس الأحد ثلاث مرات في السنة. وفي القرن السادس أصبح واجب حضور القداس ذا طابع الزامي بموجب القانون الكنسي.

394
كيف ومتى مرّ سر التوبة من الاعتراف العلني أمام جمهور المؤمنين إلى الإعتراف السري أمام الكاهن لنيل الحل والغفران؟

أجيبك باختصار مفيد كما يلي:

1 - هرماس في كتابه بعنوان "الراعي" في أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثاني للميلاد  كتب يؤكد أن المسيحي إذا ارتكب خطأ كبيرا وتاب إلى الله والكنيسة، يستطيع أن ينال المغفرة. وكان الإقرار بالخطايا يتم علنا أمام جمهور المؤمنين. وفي القرن الثاني والثالث كانت الكنيسة ترفض موقف المتشددين القائلين بأنه لا مغفرة لمن أنكر إيمانه بالمسيح. فكانت تقبل توبتهم. وكان الخطأة التائبون يقومون بالتكفير عن خطاياهم قبل أن ينالوا غفرانها. وكان الزمن الأربعيني، زمنا مكثفا للتوبة. وكانت تتم المصالحة فيه مع الله والكنيسة، بنوع خاص، يوم خميس الأسرار. 

2 - في القرن السادس، إنقرضت عادة الإعتراف أمام جماعة المؤمنين، وصار الخاطىء يقر بخطاياه سريا للكاهن المعرِّف. وفي القرن التاسع أخذت الكنيسة تُعطى الحلة من الخطايا قبل قيام الخاطىء بالتكفير عنها، أي كما هو الحال اليوم. وسنة  1215 سن مجمع اللطران الرابع في روما قانونا يلزم المؤمن بأن يعترف قلما يكون مرة واحدة في السنة. ودافع المجمع التريدنتيني سنة 1551 عن سر التوبة رافضا التعاليم البرتستنطية التي كانت تطعن بسر التوبة المقدس. هذا من الناحية التاريخية.

3 – بعدما انطلقت الكنيسة يوم العنصرة، لم يكن يدور في خلد الجماعة المسيحية أن الذين تلقوا المعمودية ثم انكروا المسيح يمكن أن يُغفر لهم لأنهم: "يصلبون ابن الله ثانية لخسرانهم ويشهرونه" (عبر 6/4-6). هذا الموقف المتشدد كان يفيد المسيحي ويجعله يدرك أهمية المعمودية والالتزام بما وعد به يوم  عماده. ولكن سرعان ما وجدت الجماعات المسيحية ذاتها امام واقع الخطأة من المسيحيين الذين يرتكبون الخطيئة، ومن ثم يريدون الرجوع إلى الحظيرة. بولس الرسول يطالب بتوبة الخطأة من أهل كورنتس قبل قدومه اليهم، حيث قال:

"أخاف، إذا أتيتكم مرة أخرى، أن يذلني إلهي عندكم، فأحزن على كثير من الذين خطئوا في ما مضى، ولن يتوبوا عما ارتكبوا من الدعارة والزنى والفجور" (2 كو 12/21)

الشدة والرأفة في آن واحد أدّيا بالكنيسة في بادىء الأمر إلى غفران الخطايا بعد المعمودية، مرة واحدة فقط. ثم أمام واقع انتشار المسيحية  الكبير، أخذت الكنيسة تخفّف من الصرامة تجاه الخطأة. أعداد كثيرة من المسيحيين كانوا بعد المعمودية يعودون إلى الخطيئة ومن ثم كانوا يتوبون. وكانت الكنيسة قبل الحل تفرض عليهم الصوم والصدقة والقيام بتضحيات كثيرة. ولكن هذا الأسلوب أدى بالكثيرين إلى معادلة غير صحيحة وهي أن الخطيئة من هذا النوع يجب أن يكون قصاصها هذا القدر من الصلاة والصوم والصدقة. ولكي تتحاشى  الكنيسة هذه المعادلة وتسهل التوبة أمام الخطأة من أبنائها أخذت تكتفي بالإقرار السري بالخطايا أمام الكاهن المعرف، والكاهن المُعرِّف كان يعطي الحلة من الخطايا على أن يقوم التائب بايفاء ما يعطيه الكاهن من قصاص روحي تكفيرا عن خطاياه. 

4 – من الواضح أن الكنيسة، على مدى العصور لم تدّع قط بانها جماعة من القديسين الذين لا يخطئوون. ولذلك كانت تقبل دائما توبة الخطأة وتعيدهم الى صفوفها. وكان الأسقف أو الكاهن يمثل المسيح والكنيسة ويعطي أو يرفض الحلة ويقبل الخاطىء مع خراف المسيح. فكان ولا يزال سر التوبة  هو سر الرحمة. والإقرار السري بالخطايا للكاهن المعرف كما يتم اليوم يركز على أن التوبة يجب أن تكون من كل القلب والنفس والضمير، وعلى التائب أن يعبر عنها للكاهن  بصدق واخلاص.

395
هل القداس الذي نقيمه في أيامنا هذه يختلف عن القداس الذي كان يقيمه المؤمنون زمن الرسل والكنيسة الأولى؟

سؤالك يتطلب  أن نعود الى التاريخ ، وهو باختصار شديد كما يلي: 

1 – بعد صعود يسوع إلى السماء وانطلاقة الكنيسة بعد حلول الروح القدس على الرسل يوم العنصرة وحتى أواخر القرن الميلادي الأول، كان المؤمنون يقيمون ذبيحة القداس وكانوا يسمونها "كسر الخبز" (أعمال 2/42) أو "عشاء الرب" (1 كورنتس 11/20). وكانوا يقيمون صلاة تمهيدية ثم يصغون لقراءات من العهد القديم ومن حياة يسوع وعجائبه وتعاليمه (أي الانجيل) ثم العظة. وبعدها كان المترأس يصلي على التقادم ثم يتلو المقدمة فالصلاة الإفخارستية والتناول. وكان المسيحيون من أصل يهودي يقيمون"كسر الخبز" أي القداس باللغة الآرامية، وهي اللغة التي كان الشعب اليهودي يتكلمها آنذاك. وكان المسيحيون من أصل غير يهودي يقيمونها  باللغة اليونانية.

2 – سنة 150 القديس يوستينوس الذي استشهد سنة 165، وهو نابلسي الأصل وكان فيلسوفا يعلم في جامعات روما، في كتاب وجّهه إلى الإمبراطور للدفاع عن المسيحيين، بيّن فيه كيف يقيم المؤمنون سر الإفخارستيا وذكر ليتورجية الكلمة من العهد القديم والعهد الجديد، وطلبات المؤمنين وتهيئة التقادم وجمع التبرعات (الصينية) من أجل الفقراء، والمقدمة ثم الصلاة الإفخارستية والمناولة.

3 -  في نهاية القرن الثالث نشأت الليتورجيات في مدن الامبراطورية الكبرى: الاسكندرية وانطاكيا والقسطنطينية وروما.

4 – في عهد البابا لاون الكبير ( 366 – 384) تحولت نهائيا اللغة الليتورجية  في روما من اليونانية الى اللاتينية.

5 -  البابا انوشنسيوس الأول  (401 – 417) أمر بصلاة إفخارستية  واحدة  لجميع القداديس. ولا يجوز تغييرها. وفي منتصف القرن الخامس أصبح اللباس الليتورجي الخاص إلزاميا لإقامة القداس.

6 – البابا جيلازيوس الأول (492 – 496 ) جمع صلوات القداس في ثلاث كتب. كتاب للأزمان الليتورجية، وكتاب لأعياد القديسين (الشهداء)  وكتاب لقداديس العبادة.

7 – البابا غريغوريوس الكبير (590 – 604) جمع الكتب الثلاثة السابقة في كتاب واحد وهو كتاب القداس الإلهي (الطقس اللاتيني)

8 – البابا لاون الرابع أمر سنة 850  بان يستعمل كل كاهن يقيم القداس المنصفة حول الرقبة والقميص الأبيض والبطرشيل والمنديل على اليد اليسرى  وبذلة القداس.

9 – البابا انوشنسيوس الثالث (1198 – 1216) أعاد النظر في تركيبة كتاب القداس الذي أمر به البابا غريغوريوس الكبير.

10 – البابا بيوس الخامس سنة 1570 أعاد النظر في كتاب القداس السابق. وبقي كتاب القداس هذا المنسوب إليه قائما وساري المفعول حتى التجديد الليتورجي الكبير بعد المجمع الفاتيكاني الثاني.

فكما ترى من التاريخ، فإن أجزاء القداس الرئيسية بقيت هي هي: صلوات الدخول، ثم ليتورجية الكلمة فالتقادم والصلاة الإفخارستية والتناول. وعلى مدى العصور ازدادت ليتورجية القداس غنى بكثرة الصلوات لمختلف الأزمنة الكنسية والتنظيم الليتورجي.

396
قرأت في بعض الكتب أنه قبل القرن الخامس كانت الكنيسة تقيم النساء كاهنات فهل هذا صحيح؟ هل هنالك مرجع كنسي يبين أن الكنيسة لا تقيم النساء كاهنات؟

كان للديانات الوثنية القديمة كاهنات. أما في المسيحية، فقد قامت النساء بادوار مهمة جدا في الكنيسة الاولى، إذ أن النساء قدّمن الخدمة للمسيح في رسالته، وكذلك مع بولس الرسول وبقية الرسل. في العصور القديمة طالبت بعض النساء، كما يطالب بعضهن اليوم بأن يُسَمن كاهنات، ولكن الكنيسة لم تسم أيا منهن كاهنة. أما الحركات الغنوصية في الأجيال الأولى للمسيحية الخارجة عن تعليم الكنيسة فقد سامت كاهنات. إلا أن الكنيسة شجبت هذه السيامات كما شجبت إنحرافها عن الإيمان وعن التقليد الرسولي المتواتر. وقد اكتشف أيضا باحث ايطالي مؤخرا أنه في القرنين الخامس والسادس كانت هناك مجموعات من الكاهنات في جنوبي إيطاليا وأن الأساقفة والبابا تصدوا آنذاك لهذا الامر.

ترتليانوس  (155-220) في كتابه ضد الهراطقة قال: " إنه لأمر مخجل حقا أن ترى نساء الهراطقة يعلّمن ويجادلن ويدعين إخراج الشياطين وإجراء الأشفية ويعمّدن. إن سيامتهن باطلة وأعمالهن فاسدة".

ومن المراجع القديمة أيضا، نذكر على سبيل المثال أن المجمع النيقاوي الذي عُقد سنة 325، أعلن قي المادة 19 من اعماله:" إن النساء اللواتي نسميهن شماسات، لم يُسمن أبدا شماسات وهن علمانيات ويجب اعتبارهن دائما علمانيات". وإذا كن لا يُسَمن شماسات فكم بالحري لا ينبغي أن يُسَمن كاهنات.

فالكنيسة منذ نشأتها علمت وعملت هكذا أي أنها ترفض دائما سيامة الكاهنات. وهذا التصرف في الكنيسة على مدى الأجيال هو إعلان لتعليم المسيح المعصوم من الغلط. ونذكر أيضا من المراجع الحديثة، الإعلان الرسمي الذي صدر عن مجمع الايمان في روما، في 15/10/1976 حيث قال: 

"إن الكنيسة أمينة على السير على خطى المسيح ولا تمنح النساء سر الكهنوت."

 ذكر القانون 1024 من مجموعة الحق القانوني أن السيامة الكهنوتية تمنح بصورة صحيحة لرجل معمد فقط. وصرح البابا يوحنا بولس الثاني في 22/5/1994 في رسالته الرسولية حول "السيامة الكهنوتية" أن الكنيسة لا تملك سلطانا على سيامة النساء كاهنات".

397
بالإضافة إلى الأناجيل والرسائل ما هي أقدم وثيقة تحدثنا عن الإفخارستيا وعن احتفال المؤمنين بها؟


إلى جانب كتب الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل الرسل، فإن أقدم مخطوطة مسيحية هي " الديداكية" ومعناها " التعليم". التي ترجع الى سنة 50 – 110 م. وتستعمل الديداكية كلمة "الذبيحة" أربع مرات للدلالة على الإفخارستيا، وتقول:" هذه هي الذبيحة التي كلّمنا عنها الرب".

وتبين الديداكية أن يوم الإحتفال الإعتيادي بالإفخارستيا هو يوم الرب أي يوم الأحد، وأنه يجب على المسيحي أن يتوب أولا عما اقترفه من خطايا:

"ففي يوم الرب اجتَمعِوا لكي تكسروا الخبز وتشكروا بعد أن تتوبوا عن خطاياكم لكي تكون ذبيحتكم طاهرة". وفي الليتورجيات الشرقية والغربية هنالك تعابير كثيرة مأخوذة من الديداكية". 

"وكما أن هذا الخبز كان حبوبا من القمح على الجبال ثُمّ جُمِعت وطُحِنت فاصبحت خبزا واحدا. هكذا الكنيسة فانها تجتمع في كل أنحاء الأرض في ملكوتك لأن لك المجد والقدرة في المسيح يسوع إلى أبد الآبدين…"

"أذكر يا رب كنيستك ومن جميع المخاطر نجّها، واجعلها في حبك كاملة واجمعها من الرياح الاربع وقدسها في ملكوتك الذي أعددته لها". 

 


398
نحن نعرف من الكتاب المقدس أن عمان كانت تعرف ب "ربة عمون"، ثم لا ندري كيف تم تغيير اسمها إلى فيلادلفيا ولماذا هذا التغيير؟

نعم. المعروف عن عمان اليوم في الكتاب  المقدس أنها كانت تُدعى "ربة عمون" أو "ربة بني عمون" (2صم 12/26)  وعند أسوارها مات اوريا. وبعد اجتياح الاسكندر الكبير للشرق، غيّر اسمها القائد بطليموس الثاني فيلادلفوس (285 – 246)  فسماها فيلادلفيا. والكلمة يونانية ومعناها "المحبة الأخوية". وأما فيلادلفيا التي في آسيا الصغرى فقد بناها أتاليس فيلادلفوس، وكان فيها إحدى الكنائس السبع الشهيرة التي ورد ذكرها في سفر الرؤيا (رؤ 3/7-13). 

399
أسمع كثيرا أننا في الأردن وسوريا ننتمي إلى الغساسنة، فمن هم الغساسنة؟

أجيبك على السؤال باختصار شديد كما يلي:

1 – نزحت قبائل الغساسنة من جنوب جزيرة العرب إلى سوريا. ويدعى جدهم جفنة، وعُرفوا بأولاد جفنة أو "آل جفنة". وكثيرا ما لُقّب جد الغساسنة ايضا ب "ثعلبة". ويبدو، استنادا الى بعض المؤرخين واخبار العرب، أن بني جفنة استولوا على الحكم في سوريا بعد أن انتصروا على الجضاعمة من قبائل سليح. ويقول ابن  قتيبة أن أول أمير جاء بالغساسنة إلى  سوريا هو ثعلبة بن عمرو وهو أعظم أمرائهم شأنا. وكان الغساسنة  في سوريا عملاء الرومان، بينما كان اللخميون في العراق عملاء الفرس. وقد حارب الأمير الغساني، المدعو الحارث بن جبلة، أمير اللخميين المدعو المنذر وانتصر عليه في شهر نيسان سنة 528.

2 - ويذكر المؤرخ بروكوبيوس أن الإمبراطور يوستنيانوس رقى الحارث بن جبلة إلى رتبة ملك وبسط سلطته على قبائل عربية كثيرة كي يكون خصما قويا في وجه اللخميين،  عملاء الفرس. وفي شهر نيسان سنة 529 غزا اللخميون  سوريا  وعاثوا فيها فسادا ولم يلاقوا أمامهم مقاومة تُذكر. وحوالي سنة 541 حارب بن جبلة الحارث  الغساني إلى جانب الروم تحت قيادة بليزاريوس ضد الفرس واللخميين وعبر نهر دجلة على رأس جيشه ثم عاد الى بلاده من غير أن يحقق أية نتائج حربية مما جعل الرومان يشكون في إخلاصه للقيصر.

3 - وحوالي سنة 544 عاد اللخميون والغساسنة  إلى القتال. وقبض المنذر أمير اللخميين على ابن الحارث أمير الغساسنة اثناء رحلة قام بها الحارث للبحث عن مرعى، فقدمه المنذر ذبيحة للالهة أفروديت أي العُزّى. وكان المنذر لا يزال وثنيا. وقد استمر القتال بين الاميرين: فاحرز الحارث بن جبلة انتصارا حاسما على اللخميين في شهر حزيران سنة 554 في معركة وقعت بينهما بالقرب من قنسرين. وهذه المعركة هي المعروفة بيوم حليمة. وحليمة اسم مكان المعركة وليس اسم امرأة  كما يفسره عادة كتبة العرب.

4 - وقد سافر الحارث الى القسطنطينية سنة 563 ليفاوض حكومة القيصر في مَن يخلفه من اولاده في عمالته على سوريا وما يجب اتخاذه لمقاومة ملك الحيرة. وكان الحارث من أنصار المذهب القائل بطبيعة واحدة في السيد المسيح. وفي زيارته إلى القسطنطينية طلب من الملكة تيودورا تعيين أسقفين وهما يعقوب البرادعي ( Jacob Bardacus) وتيودورس على المقاطعات السورية العربية، فوافقت المكلة على طلبه. وقد حصل الأسقف يعقوب على الرها مركزا أسقفيا له مع سلطة قضائية على سوريا والديار العربية. أما تيودورس  فكان أسقفا متجوّلا يتنقل مع القبائل حيثما حلت. فتوطدت بذلك دعائم الكنيسة القائلة بالطبيعة الواحدة بعد أن كانت مهددة بالخطر.

توفي الحارث بن جبلة سنة 569، وعند وفاته استلم زمام الحكم ابنه المنذر بن الحارث وسرعان ما هب لمحاربة عرب الحيرة اللخميين، عمال الفرس، الذين كانوا قد أغاروا بعد وفاة أبيه على سوريا. فانتصر عليهم في يوم الصعود في 20 أيار 570 اثر المعركة المعروفة ب "عين أباغ" التي أكثر الشعراء العرب من ذكرها. وكان المنذر بن الحارث متحمسا مثل أبيه لعقيدته القائلة بطبيعة واحدة في المسيح. وكان يشترك شخصيا في المناقشات الدينية. وقد عقد في بداية حكمه  وتحت رعايته مجمعا للكنائس وذلك للنظر في بدعة القائلين ب "ثلاثة آلهة" فاعتبروهم هراطقة.

5 – وعندما انهزم الغساسنة في النضال ضد اللخميين الموالين للفرس، أقال الروم  المنذر بن الحارث ونفوه إلى صقلية سنة 581. وكان لابنه النعمان الذي خلفه نفس المصير مما يدل على انعدام ثقة الروم بالغساسنة. وافتقرت قبائل الغساسنة إلى قيادة حاسمة، فانضم البعض منهم إلى الفرس. وعندما دخلت الجيوش الإسلامية سوريا لم تتصدّ لها قبائل الغساسنة في سوريا وساندتها نكاية  بالرومان.

400
هل كان في مكة مسيحيون قبل مجىء الإسلام؟

إن المسيحيين هم أتباع المسيح من الشعوب الوثنية. وأما النصارى فهم اتباع المسيح من بني إسرائيل. والمسيحيون والنصارى مختلفون في ما بينهم عقيدة وكنيسة وسلطة اختلافا عميقا. كان في مكة نصارى قبل مجىء الاسلام. ولكن النصرانية فيها لم تكن على ما كانت عليه في كثير من المدن العربية خارج الحجاز من الانتظام. كان عدد كبير من سكان مكة  نصارى. وكان التجار النصارى يترددون على مكة للتجارة. وكان أيضا عدد كبير من العبيد النصارى، معظمهم من الأحباش الذين جاؤوا للخدمة. وقد أشار اليعقوبي في كتابه  بعنوان "تاريخ" إلى وجود النصرانية بين قريش : "أما مَن تنصّر من أحياء العرب فقوم من قريش"،  وذكر ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزي.(الجزء الاول، صفحة 298).

كان الحضور النصراني في مكة والحجاز كبيرا من حيث العدد ومن حيث التنظيم والأهمية، وكان النصارى منقسمين إلى مذاهب كثيرة مما أدى إلى اضعافهم وعدم تماسكهم. فقد كان لكل مذهب امتداده في صفوف العرب المتنصرين. ومن جهة اخرى يبدو أن اليهود كانوا عائقا كبيرا أمام انتشار النصرانية في مكة والحجاز لانهم كانوا يعادون النصرانية ويقلصون انتشارها، وكانوا أصحاب نفوذ كبير وأموال طائلة وينعمون بالإستقرار والإعتزاز بدينهم اليهودي.