المجموعة التاسعة - مسيحيون ومسلمون

أضيف بتاريخ 07/25/2023
rania.kattan

المجموعة التاسعة

مسيحيون ومسلمون
بالحكمة والموعظة الحسنة


448
كثير من المسلمين يتهموننا بعقائد ليست بعقائدنا. الأَولى بهم أن يصغوا إلينا لكي  يطلعوا  على ما نؤمن به، أليس كذلك؟

1 - هذا صحيح. كثيرون يعتقدون بأننا مشركون، نعبد ثلاثة آلهة، وغيرهم يعتقدون بأننا نعتبر مريم العذراء إلها. ولكن أيضا، كثيرون يعرفون أننا لا نؤمن بثلاثة آلهة ولا نعتبر أمنا مريم العذراء إلها. نتمنى على  المواطنين العرب، مسلمين ومسيحيين، أن يتوخوا ثقافة منفتحة تجاه بعضهم بعضا.

2 - نحن نعيش في وطن يختلط فيه المواطنون المسلمون والمسيحيون. في المدارس والمعاهد يجلس الطالب المسيحي جنبا إلى جنب الطالب المسلم. ويتعلم الطالب المسيحي الكثير عن الإسلام في كتب اللغة العربية وغيرها من كتب العلوم والاجتماعيات والثقافة العامة. أما الطالب المسلم فيجهل كل شيء عن ديانة زميله المسيحي، ولا يجد في المناهج المدرسية سوى الانتقاد، وتاريخا مبتورا لبلادنا، يتجاهل حقائق تاريخية كثيرة. وبالتالي يأخذ الطالب المسلم فكرة مناقضة للواقع وللتاريخ عن زميله المسيحي وعن الإيمان المسيحي، مما يؤدي بالكثيرين إلى أن ينظروا إلى المواطن المسيحي نظرة  حذر ورفض، إن لم تكن نظرة عداء.

3 - هذا من  جهة، ومن جهة أخرى، فإن  وزارة التربية والتعليم في الأردن قد اتخذت قرارها بتعليم الدين المسيحي للطلاب المسيحيين في المدارس الحكومية، وذلك قبل أكثر من 15 سنة. ويبدو واضحا أنها لم تتخذ قرارها  بطيبة خاطر لأنها لا تزال ترفض أن تُطبّق هذا القرار. فلا يزال الطالب المسيحي في المدارس الحكومية، في أثناء حصة الدين الإسلامي، إما ان يغادر القاعة وإما أن يُرغَم على حضور الحصة، ويتعرض أحيانا لاضطهاد مفتوح من قبل بعض الأصوليين، الأساتذة والطلاب على السواء.

حبذا لو أن المسلمين يطلعون على الإيمان  المسيحي الصحيح، كما يطلع المسيحيون على الإسلام إيمانا وتراثا وتاريخا من خلال المناهج المدرسية المفروضة في جميع المدارس، وعندها لتبدلت الأمور، وتوحدت الصفوف، وظهرت القواسم الإيمانية والتاريخية والإجتماعية والتراثية والثقافية المشتركة، وزالت من الربيع العربي مظاهر التزمت والتعصب والجفاء من قلوب الناس.

4 - قال محمد الطالبي في مقال له عن "الإسلام والحوار"، في كتاب " وثائق عصرية في سبيل الحوار بين المسلمين والمسيحيين"، منشورات المكتبة البولسية، صفحة 48:

"لم نتمكن حتى الآن من إرجاع الإسلام إلى مجرى التاريخ. والمسافة التي اجتازها في هذا الاتجاه زهيدة جدا بالنسبة إلى المسافة التي بقي عليه أن يجتازها. والإسلام عاجز اليوم عن أن يجمع رجالا ذوي خبرة واختصاص وذلك في كل ميدان من ميادين المعرفة ولا يمكن لنا خاصة حسب ما أعلم أن نذكر إلى جانب العدد الوافر من المسيحيين المختصين في العلوم الإسلامية، من رجال الكنيسة وغيرهم مسلما واحدا متخصصا حقا في علوم الدين المسيحي".

في الأردن أعرف صديقا مسلما، من ذوي الخبرة والإختصاص في علوم الدين المسيحي وهو الأستاذ عامر الحافي. وبكل تأكيد يوجد أمثاله في سوريا ولبنان. وما نتمنّاه هو أن يزداد عدد المسلمين المتخصصين في علوم الدين المسيحي في أردننا الغالي، وفي البلاد العربية كافة. 

449
كثيرون يصفون علاقة المسيحيين الأردنيين بالمسلمين الأردنيين تارة بأنها علاقة تسامح وتارة بأنها علاقة مسامحة. ولكني أعتقد أن العلاقة بيننا هي أكثر من ذلك، إنها علاقة عيش مشترك  بين مواطنين من أصل واحد  وتراث واحد وثقافة واحدة  تنبع من ديانتين مختلفتين، فيهما ثوابت إيمانية كثيرة مشتركة، وذلك منذ 1400 سنة، أليس كذلك؟

1 - إذا فتحت القاموس لكي تطلع على المعنى الحقيقي لكلمتي "تسامح" و "مسامحة"، لوجدت أن "التسامح في كذا" يعني التساهل فيه، ويقولون "السماح رباح" أي أن المساهلة أو التساهل في الأمور تُربِح صاحبها. "سامحه بذنبه" يعني صفح عنه. و"استسمح": طلب الصفح. هذه المفردات تفترض أن هنالك خصومة أو منازعة أو مشادة بين إثنين، وأن أحدهما أخطأ بحق الآخر، أو يكون كلاهما مذنبين فيتسامحان، وتعود العلاقات بينهما إلى حالتها الطبيعية، أو أن لأحدهما على الآخر مطلبا وهو يصر على الحصول عليه، والآخر يتسامح معه ويمنحه إياه.

أشاركك الرأي ولا أرتاح إطلاقا لوصف علاقة المواطنين في وطنهم بأنها علاقة تسامح ومسامحة. فالعلاقات الإسلامية المسيحية تقوم على الثوابت الإيمانية المشتركة لدى الطرفين وعلى العيش المشترك بسلبياته وإيجابياته التاريخية والإجتماعية، أي عيش الأخوّة في الخيمة الواحدة والوطن الواحد وعلى المصير الواحد. فالعلاقة بين الناس لا تقوم على التسامح. فالتسامح فوقي يعكس حالة من التنازل الذاتي عن حق استرضاء للآخر أو احتواؤه. وعند المسيحيين  كما عند المسلمين، لا تنازل في الثوابت الإيمانية. وبقية العلاقات الإجتماعية والوطنية والتاريخية والمصيرية هي مشتركة بينهم لأنهم إخوة في وطن واحد. كل ذلك يقتضي احترام الاخر، وحقه في اختيار دينه، لأنه من المجحف حقا أن تُلزم أحدا أن يؤمن بما تؤمن به أنت، أو أن تفرض رموزا أو شعائر غريبة عن دينه. فلكل إنسان حق أساسي في دينه وإيمانه. 

2- بالاضافة إلى ذلك فإن كل إنسان محدود بوجود الآخرين، والآخرون محدودون بوجود كل إنسان. وهنا نرى أنه من واجب الدولة أن تسهر على حرية الدين لكل المواطنين وأن تحمي هذه الحرية. ولا يمكن أن تحل المشاكل التي قد تنشأ بين المواطنين بنظام دكتاتوري جائر، ولا بالليبرالية المطلقة. وبمقدار ما تكون المشاكل واقعية فإننا لا نستطيع أن نجد لها الحل العملي إلا بالصبر وضبط النفس والشجاعة وبُعد النظر.

3 - كذلك  لا يحق للدولة بحكم طبيعتها كمجتمع طبيعي أرضي، أن تفرض إيمانا على مواطنيها. انما قد تتبنى دينا من الأديان، وفي هذه الحالة يُطلب منها، من باب العدل والمساواة، أن تضمن حقوق جميع المواطنين الذين لا ينتمون إلى هذا الدين وأن لا تسمح، في الحياة العامة، بطغيان دين على دين وعلى حقوق الأقليات الدينية. 

4 - المسيحيون العرب يطالبون بحرية الضمير والإنتماء الديني، وبالتساوي المدني في الحقوق والواجبات. وهم يرون، استنادا إلى إيمانهم، أنه  يجب على كل مسيحي أن يكون طيبا، متسامحا، محبا، خدوما، صبورا تجاه كل انسان. لأن كل إنسان مخلوق على صورة الله، ولكل إنسان الحق الطبيعي في أن يُعترف به كائنا حرا ومسؤولا. ويرى المسيحيون أن  الحق في ممارسة الحرية مطلب ملازم لكرامة الشخص البشري، خصوصا في الشأنين الأخلاقي والديني. 

450
أنا مسيحي ولي صديق عزيز مسلم.  قرأنا خبرا في الجريدة مفاده أن لجنة من الفاتيكان يقيمون مع لجنة من المسلمين حوارا إسلاميا مسيحيا في الأردن. وكان تعليقنا على الخبر : "هذا طشي" لأننا نعرف أن المسلم هو مسلم ولا يجادل في ثوابت دينه، وأن المسيحي هو مسيحي ويدافع عن ثوابت إيمانه. فهل نحن على خطأ؟

الخبر صحيح. لجنة من الفاتيكان أقامت وتقيم حوارات منذ سنوات كثيرة مع لجنة مسلمة في الأردن. والحوار الذي أقاموه ليس مجرد مجاملات وليس "طشيا". بل هو حوار حقيقي وُدّي أخوي يسوده الإحترام والإصغاء. ويبدو لي من سؤالك أنك تحتاج إلى مزيد من المعلومات عن  الحوار الذي يتم بين هذه اللجان :

1 – فالحوار لا يتناول الثوابت الإيمانية، وهو ليس مجرد مجاملات. المسلم يرفض أن يجادل في ثوابت دينه. وهو على حق في ذلك. ويجب احترامه في إيمانه وفي حقه بأن يكون مسلما. والمسيحي أيضا له ثوابته ولا يحق لأي إنسان أن يستهدف زعزعته في إيمانه ويجب احترامه في حقه على أن يكون مسيحيا. فالحوار الرسمي  بين المسلمين والمسيحيين، سواء كان في الأردن أو في أي بلد آخر، لا يتناول أبدا الثوابت الإيمانية. إنها ليست موضوع جدل وحوار. وبالتالي لا يعني الحوار على الإطلاق أن طرفا من الأطراف المتحاورة يحاول أن يقنع الطرف الآخر بما يتنافى وعقيدته الدينية. 

2 - الحوار هو سعي يقوم به الطرفان لإبراز الأرضية المشتركة بين الإسلام والمسيحية لكي يسهلا العيش المشترك والإحترام المتبادل الواجب على كل فريق تجاه الآخر. وفي بلادنا الشرقية أخذنا نشعر أكثر من أي زمن مضى، بضرورة التركيز على الأرضية المشتركة بين المواطنين، وأعني بها الأرضية الإيمانية والتاريخية والإجتماعية والمصيرية بين المسلمين والمسيحيين، لان التيارات المنحرفة التي تسيء إلى عيشنا المشترك تتكاثر وتؤثر سلبا على  حياة المواطنين وعلى علاقاتهم المتبادلة. 

3 - يتناول الحوار الرسمي عادة مواضيع ذات أرضية مشتركة كبيرة بين الإسلام والمسيحية، مثل  العدالة، وتربية  الشباب وأخلاقيات الأسرة... الخ. ويسمح الحوار لكل طرف بأن يعبر عن ذاته ويشرح مواقفه وبأن يصغي للآخر الذي هو بدوره يعبر عن ذاته، بعيدا عن الجدل العقيم والأحكام المسبقة. وهكذا تبرز النقاط المشتركة والنقاط المختلف عليها، ويحترم كل فريق مواقف الفريق الآخر. ويركز الحوار في النتيجة على النقاط المشتركة دعما للعيش المشترك. 

4 – في بلادنا يقف المواطنون المسلمون والمسيحيون على أرضية مشتركة، إيمانية واجتماعية ووطنية وتاريخية، وهي تمكنهم من العيش المشترك بسلام وطمأنينة ومن العمل المشترك في بناء المجتمع والوطن، مع الإحترام اللازم لكل مواطن في ثوابت إيمانه. ومما يساهم في تحقيق هذا الهدف السامي هو أن المسلمين والمسيحيين يعيشون في إطار اجتماعي واحد وفي إطار وطني واحد، ويواجهون مصيرا واحدا وتحديات  اجتماعية  واقتصادية  ووطنية مشتركة وذلك منذ مئات السنين. أرضيتنا صلبة نبني عليها عملنا المشترك حاضرا ومستقبلا، حيث لا يشعر أحد أنه غريب أو منبوذ.

451
ما هي نقاط الإلتقاء الرئيسة في الثوابت الإيمانية، بين الإسلام والمسيحية؟

ذكر المجمع الفاتيكاني الثاني أهمها في تصريحه  "علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية"، رقم 3 حيث ورد ما يلي:

"تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد، الحي، القيوم، الرحمن، القدير الذي خلق السموات والأرض، وكلم الناس".

"إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله وإن خفيت مقاصده، كما سلم لله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه. وإنهم، على كونهم  لا يعترفون بيسوع إلها، يكرمونه نبيا، ويكرمون أمه العذراء مريم مبتهلين إليها أحيانا بإيمان. ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميع الناس بعدما يُبعَثون أحياء. من أجل هذا يقدرون الحياة الأدبية ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم".

ولئن كان قد وقع، في الماضي، كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجمع يحرضهم جميعا على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق على التفاهم في ما بينهم، وأن يكونوا يدا واحدة، من أجل خير جميع الناس، لتحقيق العدالة الإجتماعية، والقيم الروحية والسلام والحرية".

452
هل لك أن تفيدني باختصار ما هو مضمون القرآن الكريم؟

باختصار شديد، يتناول القرآن أمورا عديدة، منها العقائد والحياة الدينية والأخلاقية والإجتماعية والأسرية والسياسية، مما يجعل الاسلام، في نظر عامة المسلمين،  دينا ودولة معا. 

فمن حيث الإيمان هنالك آيات تتحدث عن وحدانية الله ورسالة محمد ونبوءته وعن الملائكة والجن والقيامة والدينونة وجهنم والأنبياء والرسل ... الخ. 

ومن حيث الشعائر الدينية فهناك آيات تحدثنا عن الأركان الخمسة للإسلام وهي: الشهادة التي يجب إعلانها، والصلاة خمس مرات في اليوم، والصوم والزكاة والحج إلى مكة مرة واحدة على الأقل للذين استطاعوا إلى الحج سبيلا.  

ونجد آيات تتحدث عن قصص الأنبياء وأقوامهم، وعن الشعب اليهودي وحياة الأنبياء ... الخ. وهناك آيات تتحدث عن حياة الإنسان الذي يسعى إلى خلاصه ودخول الجنة. ويؤمن المسلمون بأن القرآن هو خاتمة الكتب وبأنه يحوي على كل ما يحتاج إليه الإنسان ليسير سيرا سويا في هذه الحياة.

453
لطفا: إشرح لي  ما هو  مفهوم الوحي والإلهام في الإسلام؟

1 – الوحي  في الإسلام هو كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه (الأعمال الكاملة، ص 415 للإمام الشيخ محمد عبده). إنه إعلام يأتي من الله. ويدرك النبي بيقين قاطع أن ما يلقى إليه  هو من الله، ولا  يتداخل في مضمونه معنى ولفظا. وقد يكون الوحى بكلام ملفوظ أو مكتوب. مضمون الوحي، بحسب الإسلام، هو كلام الله الموحى إلى محمد، أو إلى الرسل والأنبياء من قبله، لكي يبلغوه إلى الناس. وأما مجموع ما أوحِيَ إلى محمد، فيؤلف كتابا هو القرآن. فالقرآن، عند المسلمين، هو "كلمة الله ذاتها"، وهو الوحي بالذات تلقاه محمد، وأملِيَ عليه كلمة كلمة إملاء إلهيا بواسطة الله وجبرائيل. ولهذا السبب يعتبر المسلمون القرآن كلام الله ذاته. وقد أمر محمد بتدوينه تحت إدارته وإشرافه. فالمبنى والمعنى هما من الله. 

ويلخص لنا أحمد أمين قصة الوحي في كتابه "فجر الإسلام"  (طب 10 النهضة المصرية القاهرة 1965، صفحة 267-268 ) كما يلي:

"نزل القرآن متقطعا خلال 23 سنة. فهناك قسم قد نزل في مكة ويساوي ثلثي القرآن، وقسم نزل في المدينة ويساوي ثلث القرآن ... واقتصرت الآيات المكية على عرض أسس الدين ودعوة الناس ... أما ما يخص القوانين التشريعية الخاصة بالأحوال المدنية والإجرامية والأحوال الشخصية فقد أضيفت بعد هجرة النبي إلى المدينة".

ويعتقد المسلمون أن القرآن محفوظ في السماء في اللوح المحفوظ، مكتوب على صفحات طاهرة نبيلة عالية، كتبت بأيدي كُتّاب شرفاء عادلين. ويتألف القرآن من 114 سورة. أما الآيات فيتراوح عددها بين 6200 و 6226 آية بحسب طريقة التعداد. وقد رتبت السّوَر ترتيبا توفيقيا (أي  بحسب أمر الله ورسوله، كما يعتقدون)  وليس حسب النزول أو حسب طولها ، فالسّورة الثانية – البقرة – مثلا مؤلفة من 286 آية بينما نجد سُوَرا في آخر الكتاب تتراوح بين 3 و 6 آيات فقط.

2 - الإلهام في الإسلام، يقول أيضا  محمد عبده، هو "وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يُطلب من غير شعور منها من أين يأتي، وهو شبيه بوجدان الجوع والعطش والحزن والسرور" بينما يحدده صبحي صالح بأنه "وجدان تعرفه النفس معرفة دون اليقين، وتنساق إليه من غير شعور بمصدره الحقيقي، فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة آلهة الشعر عند اليونان وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين". الخلاف بين عبده وصالح يقوم على حقيقة اليقين في المعرفة.  فما يقره محمد عبده يرفضه صبحي الصالح، ولكنهما متفقان على جهل المصدر والإنسياق ألى تتميم العمل. 

وإذا قارنا الإلهام بالوحي تبين لنا أن الفرق بينهما في معرفة المصدر يقينا. فالنبي الذي يتلقى الوحي يرى أنه صادر عن الله تعالى، بينما المُلهم لا يدري أن الإلهام جاءه من عند الله. وقد رأى ذلك محمد فكان "يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي كان يُعبّر عنها بإلهام من الله. وهذا يعني أن المعنى في أقوال الحديث هو من الله، بينما المبنى فهو من محمد.

فالدين الإسلامي يرتكز على كتاب أو بتعبير آخر أن كلمة الله صارت كتابا وهو القرآن. فكلام الله مثبت في حروف. وبالتالي فالدين الإسلامي دين كتاب وهو القرآن. أما محمد فهو عبد لله، أنزل الله عليه هذا الدين كاملا إلى البشرية جمعاء، عندما بلغت رشدها، كما يقولون.

454
وكيف تشرح  الوحي والإلهام من منظور المسيحية؟

1– الوحي الإلهي في المسيحية هو كشف الله للإنسان عن الحقائق التي تفوق العقل ولا تعارضة. والوحي في الشريعة هو كلام الله المنزل على نبي. فقد شاء الله أن يكشف عن ذاته ويبيّن مشيئته الأزلية لخلاص البشر. فهو يريد أن يُشرك البشر في الخيرات الإلهية التي تفوق العقل البشري. ولذلك فهو، في الكشف عن سِرّه، يكشف أيضا عن سِرّ الإنسان. قال بطرس الرسول:

"لم تأت نبوءة قط بإرادة بشر ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلموا من قِبَل الله" (2 بط 1/21).

إن ما يتضمّنه ويعرضه الكتاب المقدس من حقائق موحاة، مكتوب كله بوحي من الروح القدس. فالكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، وبجميع أجزائه، مقدس وقانوني. فالله هو مؤلفه، وهو الذي اختار أناسا لكتابة هذه الكتب المقدسة، واستخدمهم، مع بقائهم متمتعين بكامل قدراتهم. فهم مؤلفون حقيقيون دوّنوا كل الأمور التي أراد الله إعلانها كتابة. وبما أن الله تكلم في الكتاب المقدس بواسطة البشر وبأسلوب البشر، فينبغي على المفسّر أن يبحث عن المعنى الذي أراده مؤلف الكتاب المقدس، والذي عَبّر عنه حقا، في ظروفه الخاصة، بحسب أوضاع عصره وثقافته، بالأساليب الأدبية المألوفة في ذلك الوقت، حتى نفهم فهما صحيحا ما أراد مؤلف الكتاب المقدس إعلانه. قال بولس الرسول:

"كل ما كتب هو من وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البِرّ، ليكون رجل الله كاملا مُعدّا لكل عمل صالح" (2 طيم 3/16-17).

تؤمن الكنيسة أن الوحي  نزل على  البشر ودُوّن في الكتاب المقدس على مراحل مختلفة، وبطريقة تختلف باختلاف المواقف والظروف والمواضيع. فللوحي تاريخ. وهذا التاريخ محدود ضمن التاريخ العام للبشرية. ويصل إلى قمته بالسيد المسيح، الذي فيه إكتمال وحي الله:

"إن الله بعدما  كلّم الآباء قديما بالأنبياء مرات كثيرة بوجوه كثيرة، كلّمنا في آخر الأيام هذه بابن جعله وارثا لكل شيء وبه أنشأ العالمين" (عبر 1/1-2)

فالحقيقة الكاملة التي شاء الله أن يعلنها عن ذاته وعن خلاص البشر تتجلى في المسيح، وسيط العهد بكامله وملئه. والسيد المسيح منح الرسل المواهب الإلهية، وأمرهم أن يبشروا الجميع بالخلاص، الذي صنعه هو نفسه، وأعلنه بلسانه، ينبوعا لكل حقيقة خلاصية ونظام أخلاقي، لأنه برأفته الفائقة أراد أن يكون الوحي كاملا وصحيحا إلى الأبد، وأن يبلغ إلى جميع الأجيال. وهذا ما فعله رسله الكرام الذين بدورهم أقاموا خلفاء لهم، ونقلوا اليهم سلطانهم لتبقى البشارة في الكنيسة صحيحة وحية إلى الأبد. وكل ما يتعلق بتفسير الكتاب المقدس يخضع في النهاية لحكم الكنيسة التي كلّفها الرب بحفظ كلمته وتفسيرها.

والوحي مرتبط بحياة البشر وتنوعهم، وهو متعدد الأساليب والفنون وهو وحي فاعل يراعي ظروف البشر الراهنة. وهو متدرج  ومتطور يربط بين العهدين القديم والجديد.

2 – الإلهام في المسيحية يعني أن الله يلقي في نفس الإنسان  دعوة يحثه بها على فعل شيء أو تركه. وبالنسبة للكتب المقدسة فإن الإلهام هو تأثير إلهي يحثّ الكاتب على كتابة الكتاب، ويوجهه في مراحله كلها، بحيث يحتوي على كل ما أراد الله أن يقول بواسطته، ليكون للناس كلمة خلاص. فالإلهام هو هبة مجانية من الله، يجود بها على الكاتب ليكتب كتابا يكون إلهيا ملهما. وليس الهدف الرئيسي من الالهام تقديس نفس الكاتب، بل توصيل كلمة الله إلى الجماعة المؤمنة. 

ومن تحديد الوحي والإلهام نرى أن الكتاب المقدس هو كتاب إلهي وبشري معا. فالله من جهة، هو الذي يتكلم بواسطة الكاتِب الملهَم، ويعمل شخصيا، وينحني على الإنسان. والله هو الذي يراقبه ليقول للناس ما يريد أن يقوله. ومن جهة أخرى، فإن الكاتب المُلهم ليس مجرد آلة في يد الله، يملي الله عليه كما يملي المُعلّم على التلميذ، بل هو إنسان عاقل وحر، يحترم الله عقله وحريته، ويترك له حرية استعمال الكلمات والمفردات حسب معرفته اللغوية، وحرية الأسلوب في التعبير، وكيفية تركيب الجُمَل، كما يراه الكاتب الملهم مناسبا لتقديم كلمة الله، وفقا لمقدرة مستمعيه على الفهم. وفي نفس الوقت يبقى الكاتب الملهم دائما خاضعا لإلهام الروح القدس الذي يراقبه في عرض الحقيقة التي يريد الله أن يقدمها للناس. فالكاتب الملهم هو حقيقة مؤلف السفر الذي يكتبه، ويبقى خاضعا للمؤلف الأصلي والرئيسي الذي هو الله. لذلك نستيطع أن نلتقي من خلال الأسفار المقدسة، شخصية الكاتب المُلهَم بما فيها من خصال، ونفسيته وثقافته وأدبه. لذلك يكون كل كاتب متأثرا بحضارة زمانة، وجغرافية بلاده وثقافة أمّته. كما يكون متأثرا بالأحوال السياسية والإقتصادية والإجتماعبة السائدة.

يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني في "دستور الوحي الإلهي" على إيمان الكنيسة قائلا: "إن الحقائق التي أوحى الله بها والتي تتضمنها أسفار الكتاب المقدس وتعرضها، قد كُتبت بإلهام الروح القدس ... لذلك فالله واضعها" (فقرة 1). فالروح القدس الذي ينسب إليه الوحي والإلهام، حل على جميع الأنبياء والرسل. فهو الناطق بالأنبياء الذي يبقى مع الكنيسة يرشدها إلى الحق كله (يو 16/13). فالكتاب المقدس هو قاعدة الإيمان ودستور الحياة المسيحية. وهو الذي يُسمعنا صوت الأنبياء وصوت السيد المسيح، ومنه تستلهم الكنيسة تعاليمها ورسالتها.

أما الإيمان فهو جواب الإنسان على الله الذي يوحي. والإيمان يعني أننا نتقبل باختيارنا الوحي من الله. ولكي يؤمن الإنسان يحتاج إلى نعمة الله التي تُثير فيه الإيمان وتسانده، كما يحتاج إلى معونات داخلية تحرك القلب وتوجهه نحو الله وتفتح البصيرة وتمنح الفرح لجميع الذين يقبلون الحق ويؤمنون.  فنحن لا نؤمن لأننا نعرف، بل نعرف لأننا نؤمن.

الدِّين المسيحي ليس كتابا بل هو شخص، وهو المسيح يسوع، أو بتعبير آخر هو كلمة الله الذي صار جسدا وسكن بين البشر. إنه المسيح الإله والإنسان معا. فمن يقرأ الكتاب المقدس يرى، في العهد القديم، شعبا يسير نحو لقاء مخلصه. أما في العهد الجديد، فيرى أن يسوع المسيح هو المخلص، وأنه وعد تلاميذه بأنه يكون معهم طوال الأيام حتى انقضاء الدهر (متى 28/20)، وأنه يرسل إليهم الروح القدس لينيرهم  ويساندهم في مهمتهم الجديدة. فالدين المسيحي هو يسوع الحي بدينامية تدفع بالمسيحيين داخل كنيسته إلى السير معه باستمرار، والصعود إلى ذرى الكمال والقداسة.

455
ما الفرق بين الوحي والإلهام في الإسلام والوحي والإلهام في المسيحية؟

1 –  يتميز الوحي في المسيحية بكونه وحيا تاريخيا أي أنه يقوم على أسس تاريخية ويرتبط بأحداث تاريخية ويتفاعل معها ويتحدد في مكان وزمان ويأخذ بعين الإعتبار أحوال الناس ويُنقَل بواسطة شهود، مشافهة وكتابة، ويتكيف مع الثقافات والحضارات والتقاليد الشعبية ويتزين بمختلف الفنون الأدبية، ويتخذ أسلوب ناقله. وقد ورد بهذا الشأن، في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي، للمجمع الفاتيكاني الثاني: 

"تدبير هذا الوحي يقوم في الأحداث والأقوال المرتبطة فيما بينها إرتباطا جذريا. فالاعمال التي انجزها الله في تاريخ الخلاص، توضح وتدعم التعاليم والحقائق التي تشير إليها الأقوال. أما الأقوال فتعلن الأعمال، وتضيء السر الكامن فيها. على أن الحقيقة الكاملة التي شاء الله أن يعلنها عن ذاته وعن خلاص البشر فإنها تتجلى في المسيح، وسيط الوحي بكامله وملؤه في آن واحد" (رقم 2).

في المسيحية، ليس الوحي حرفا مُنزلا ولا كتابا محفوظا، بل هو وحي ينمو نموا مطّّردا خلال خمسة عشر أو عشرين قرنا، قبل أن يصل إلى ملئه في ظهور المسيح  "كلمة الله" الذي تجسد وصار بشرا، وهو ملء الوحي وخاتم الأنبياء، أي أن الوحي اكتمل كليا في يسوع المسيح مخلص العالمين (أف 3/5). وفي هذا النمو المطّرد، حمل الوحي معه من حضارات الشعوب القديمة وتقاليدهم، ولَبِس أشكالا وأجناسا من الفنون الأدبية التي تختلف، شكلا ومضمونا، عن أساليب تعبيرنا، واتخذ لغات البشر وتراكيبها وخصوصياتها. والفنون الأدبية فيها غنية ومتنوعة: من نثر وشعر وكرازة وصلوات وأخبار وأمثال وحكم وأناشيد ورؤى ورسائل... الخ. ولذلك لا يُفهم الوحي بمعزل عن أُطُره التاريخية كلها. وقمة الوحي هو يسوع المسيح الإله المتجسد الذي أقام الكنيسة ووضع الأسرار المقدسة، وهو سيعود في مجده يوم الدينونة العامة. وقد أرسل الروح القدس ليساعد المؤمنين على التأمل والإستزادة من معرفة سر المسيح بشكل أكثر عمقا وبُعدا.

2 - أما في الإسلام، فإن الوحي نزل على الرسل والأنبياء. وقد وصل إلى ملئه في القرآن، وهو لا يخضع  لِأحوال الشخص الملقى عليه، بل هو وحي منزل من فوق، من اللوح المحفوظ في الأفق الأعلى. وقد نزل دفعة واحدة. وهذا الوحي كله من عند الله بمعناه ومبناه. وقد نزل على محمد تنزيلا من رب العالمين. فمحمد لا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، ولا دور له فيه إلا التبليغ.

في المفهوم الإسلامي، الوحي موجود حرفيا في القرآن مبنى ومعنى، أي أن كلمة الله تجسدت وصارت كتابا هو القرآن. فالوحي عند المسلمين كتاب هو القرآن.  ولا يد لأحد في القرآن غير الله. 

 


456
لماذا يَدّعي المسلمون أن بولس الرسول هو مؤسس الديانة المسيحية؟

يدعي كثير من المسلمين أن بولس الرسول هو مؤسس الديانة المسيحية، لأن بولس الرسول كان العدو الأكبر للمسيح وللدين المسيحي، ولأنه، حسب اعتقادهم، بانتقاله من مضطهِد للمسيحيين إلى مناصر لهم، إنما انتهج سياسة خبيثة كي يهدم مسيحية المسيح من الداخل بعد أن فشل في هدمها عن طريق استخدام القوة والإضطهاد. وبحسب رأيهم أيضا، سيطر بولس على الجماعة المسيحية وتوصل إلى إبتداع عقيدة جديدة نسبها زورا إلى المسيح، فانحرف المسيحيون عن المسيحية الأصلية إلى المسيحية البولسية. 

أما المسيحيون، فإنهم يرون في بولس أعظم رسول للمسيح وأقوى  المدافعين عن المخلص. وقد استشهد من أجل المسيح. وتَعتبر الكنيسة رسائله جزءا من العهد الجديد. كان بولس مضطهِدا للكنيسة. وبعد ظهور يسوع له عند أبواب دمشق عرف يسوع. وكشف له يسوع أنه إختاره ليكون له عند الوثنيين رسولا (غلا 1/15، أف 3/2). فتحوّل بولس من مُضطهِد للمسيحيين إلى مجاهد في سبيل المسيح يبشر الجميع بيسوع المسيح. وانتهت بشارته باستشهاده في روما حوالي سنة 67. وقد كتب رسائل عديدة وجّهها إلى عدد من الكنائس، وكانت رسائله وليدة مناسبات تجيب على أمور وحالات معينة، وتحتوي على شروحات  وتعليقات حول العقيدة المسيحية، ولاسيما ألوهيّة المسيح وموته وقيامته. وقد أصبحت هذه الرسائل من أهم مراجع الديانة المسيحية. وتعليم بولس الرسول على اتفاق تام مع الإنجيل وبقية كتب العهد الجديد.

457
كيف كُتب  وجُمع القرآن الكريم؟

يؤمن المسلمون أن القرآن أُملِي بحرفه على محمد، وطُلِب منه أن يُبلّغ الرسالة خلال 23 سنة حتى وفاته. ويقول المسلمون أن هذا الوحي هو هبة من الله وليس حقا مكتسبا. وأن البرهان على ذلك هو فتور الوحي خلال ثلاث سنوات، حيث لم يستطع محمد عمل شيء خلالها، بل كان ينتظر عودة الملاك جبريل من جديد. وعندما عاد الوحي إلى محمد بعد هذا الإنقطاع، بدأ يحفظ ويُعلّم ما تلقاه من الملاك جبريل  فكثر رويدا رويدا عدد الحفّاظ. وتكونت في العصر النبوي شبه مدرسة لتحفيظ القرآن ودارسته. إلا أن محمدا علاوة على ذلك، إتخذ كُتّابا لتدوين الوحي، منهم الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس. وكان يحفظ عنده كل ما كان يُكتَب. ولكنّه لم يجمع القرآن في مصحف واحد في حياته، بل تم ذلك على يد  الصحابة المحيطين به، وإنما كان يسهر بنفسه على ضبط النقل وحفظه وترتيب آيات القرآن كما كان يأتي بها جبريل.

وبعد موته، رأى عمر بن الخطاب أن عددا كبيرا من حُفّاظ القرآن قد استشهدوا خلال حروب أهل الردة في موقعة اليمامة، سنة 12 للهجرة، فخاف على فقدان قسم كبير من القرآن إذا ما توفي الآخرون. فاقترح على أبي بكر الصِّدّيق أول خليفة لمحمد من الخلفاء الراشدين، ووالد زوجته عائشة، أن يجمع القرآن. فاقتنع أبو بكر الصِّدّيق ودعا زيدا بن ثابت أقرب الصحابة لمحمد وطلب منه القيام بهذه المهمة الصعبة. وضم زيد إليه بعض الصحابة وباشر بجمع القرآن. فجمع النصوص المكتوبة والنصوص الأخرى من صدور الرجال حتى وصل أخيرا إلى تكوين مصحف أكثر توسعا من المصنّفات الفردية. ثم أودعت الصحف عند أبي بكر الصديق الذي احتفظ بها حتى توفاه الله، فصارت من بعده إلى عمر بن الخطاب الذي أصبح الخليفة الثاني، وظلت عنده حتى وفاته، فانتقلت إلى ابنته حفصة زوجة محمد.

ولكن هذا الجمع الأول لم يمنع من حدوث اختلافات في القراءة ذات أهمية لا تنكر. فاضطر عثمان بن عفان، الخليفة الثالث وصهر محمد، زوج ابنته أم كلثوم، أن يعمل على تفادي هذه الخلافات، وأن يوحّد النص. وحدث ذلك بعد أن أطلعه حذيفة بن اليمان على هذه الخلافات. فدعا من جديد فريقا من بني قريش مؤلفا من عبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعلى رأسهم زيد بن ثابت. وبعد أن أحضر الصحف الموجودة عند حفصة أمرهم بالعمل قائلا: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم". فجمعوا القرآن كله في مصحف واحد، أصبح المصحف الرسمي، ونُقِل إلى عدة نسخ، وزّعها عثمان على المراكز الإسلامية الرئيسية: الكوفة والشام والبصرة. واحتفظ بواحدة عنده بالمدينة (يثرب) وأصبحت هذه النُّسخ المرجع الوحيد للمسلمين. ويقال أن جميع النسخ السابقة قد أُحرقت.

ويشمل المصحف على 114 سورة لكنها كانت بلا تنقيط وشكل، والسور بلا أسماء، لأن مصحف أبي بكر كان مجردا من كل ذلك. وحفاظا على صحة القراءة، أُرسل مع كل نسخة حافظ يوافق قراءته. فكان يزيد بن ثابت مقرىء المصحف المدني، وعبد الله بن السائب مقرىء المكي، والمغيرة بن شهاب مقرىء الشامي، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرىء الكوفي، وعامر بن عبد القيس مقرىء البصرة. 

وهكذا تكوّن وتثبّت القرآن كمصحف بعد وفاة محمد بنصف قرن تقريبا. ولم يعتبر المسلمون أن المدونين كانوا يجمعونه بإلهام (بالمعنى المسيحي) وإنما هو عمل بشري، ولم يكن عملهم إلا تثبيت السُّوَر في مصحف واحد سمي: "مصحف عثمان".

في القرن الهجري الأول (الثامن الميلادي) بدأت تدخل بعض التحسينات في كتابة الكلمات ووُضِعت الحركات والنقاط لرفع اللّبس عن قراءة القرآن، وتوضيح الأحرف، وتم ذلك في خلافة عبد الملك سنة 65 هجرية على يد عبيد الله بن زياد، والحجّاج بن يوسف الثقفي حاكم العراق. فأصبح النص القرآني أوضح قراءة وأيسر فهما. وهكذا دخلت التحسينات التشكيلية تدريجيا على النص القرآني وبلغت ذروتها في القرن الثالث الهجري.

سنة 1923 ميلادية (1342 هجرية)  ظهرت في القاهرة طبعة أنيقة جميلة دقيقة للقرآن، تحت إشراف مشيخة الأزهر في زمن الملك فؤاد الاول. ورُقِّمَت الآيات بشكل أدق، فانتشر القرآن في الأوساط الإسلامية، وأصبح أكثر تداولا.

458
كيف كُتِبت أو جُمعت الأناجيل؟

كلمة إنجيل كانت تعني أصلا "الحلوان" الذي يُعطى لمن يحمل خبرا سارا. ثم أُطلقت على "الخبر السار نفسه". أما في العهد الجديد فتعني البشرى، أي الخبر السار نفسه، أي خلاص البشر على يد السيد المسيح. وفي منتصف القرن الميلادي الثاني صارت عَلَما للكتب التي تتضمن هذه البشرى.

الإنجيل هو واحد، وحروفه أربعة، دوّنه أربعة كُتّاب، كل منهم بلغته وثقافته. مرقس ولوقا ويوحنا كتبوا باليونانية، وأما متى فقد كتب بالآرامية. فالإنجيل هو قلب أسفار العهد الجديد. 

نُميّز ثلاث مراحل في نشأة الأناجيل:

1 – المرحلة الاولى: حياة يسوع وتعليمه. الكلمة صار جسدا وحلّ بيننا. عاش المسيح في فترة تاريخية معروفة من تاريخ الشعب اليهودي والدولة الرومانية، وفي بلاد وأماكن معروفة. وقد بشّر بملكوت الله، وصنع عجائب كثيرة، وعلّم كثيرا واختار له عددا من التلاميذ، لكي يساعدوه في حمل الرسالة ويضمن إستمراريتها. وقد حكم عليه بيلاطس البنطي ورؤساء الشعب اليهودي بالموت صلبا ونفّذوا الحكم. ومات ودفن وقام من القبر ممجدا في اليوم الثالث، وظهر حيا مرارا كثيرة لتلاميذه، بعد قيامته وقبل صعوده أمامهم إلى السماء.

2 – المرحلة الثانية: الإنجيل الشفوي. إن السيد المسيح لم يكتب إنجيلا ولم يستكتب أحدا، ولكنه علّم وعمل وأمر تلاميذه أن يبشروا. قال لهم: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28/19-20). فذهب الرسل يبشرون في كل مكان. وكان الرب يؤازرهم ويؤيد الكلمة بالآيات التي تصحبها" (مر 16/20).

3 –  المرحلة الثالثة: الإنجيل المكتوب. ما كتبه الرسل جاء في مرحلة لاحقة. كتبوا للكنائس في ظروف خاصة، وكتبوا في الإنجيل أقوال ومعجزات السيد المسيح، لكي يزداد المؤمنون عُمقا في تفهّم إيمانهم بالمسيح الفادي، في ضوء الروح القدس، ولكي لا ينجرّوا للبدع التي أخذت تتفشى بين المسيحيين مثل بدعة الغنوصيين.

دَوّن الكُتّاب المُلهَمون الأناجيل الأربعة. وقد اختاروا الكثير من العناصر التي بلغتهم عن طريق الرواية، وقدّموا لنا عن يسوع صورا حقيقية وصادقة. وتؤكد الكنيسة أن الأناجيل الأربعة هي كتب تاريخية أكيدة، وأنها تنقل بأمانة الكثير الكثير مما عمل يسوع إبن الله ومما علم، سحابة حياته بين البشر في سبيل خلاصهم الأبدي، إلى اليوم الذي رُفِع فيه إلى السماء.

الإنجيل بحروفه الأربعة يحتل في الكنيسة مكانة فريدة. ويكفي أن نشير إلى ما له من إحترام وإجلال في الليتورجيا، وإلى الأثر الكبير الذي تركه في نفوس القديسين، على مر العصور. فالمسيحي يحفظ ما علّم المسيح، ويتأمل في أقواله وأعماله، لكي ينهل من الإنجيل غذاء روحيا، ويكتشف الآفاق الخفية والعجيبة للحياة  في المسيح ومع المسيح وبالمسيح.

المسيحيون يؤكدون تأكيدا قاطعا صحة الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد. وهو لم يَنزل مكتوبا، ولم يكتبه السيد المسيح، بل كتبه الرجال الذين أوحى الله اليهم أن يكتبوا. 

459
كيف تَرُدّ على القائلين بتحريف الكتاب المقدس؟

القول بتحريف الكتاب المقدس لا يستند إلى دليل وبرهان ولا يستقيم أمام العلم والمنطق والتاريخ. 

1 – يفترض المنطق على من يدّعي أن الكتاب المقدس "مُحرَّف" أن يكون بحوزته نصان: النص الأصيل، والنص المُحرَّف، للمقارنة بينهما ولإثبات التحريف بالبراهين المنطقية والعلمية والتاريخية الدامغة. ذلك أن سلامة الكتاب المقدس من التحريف، قبل أن تكون قضية لها علاقة بالدين، هي مسألة علمية وتاريخية خالصة، وليس لها أي أثر في التاريخ. واقع الحال يُعطي البرهان الساطع على عدم التحريف لأن الإنجيل واحد وإن تعدّدت حروفه أو نصوصه. وجدير بالذكر أن الإدعاء بتحريف الكتاب المقدس ظهر بعد حوالي ستمائة سنة على كتابة الأناجيل.

2 – إنتشر الكتاب المقدس في جميع أنحاء العالم، قبل مجىء الإسلام: في بلاد العرب وشمال افريقيا وإيران والهند وجميع البلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية. ويُثبت علم المخطوطات والخطوط والتاريخ أن هناك الآف من مخطوطات الكتاب المقدس، في مختلف اللغات، وأنها محفوظة في المتاحف والمكتبات، في مختلف دول العالم. فليس من الممكن  أن يتم تحريف الكتاب المقدس في جميع أنحاء العالم، وبين كل الأمم والألسنة وفي جميع النسخ والمخطوطات والترجمات باتفاق الجميع. وجدير بالذكر أن الذين إعتنقوا المسيحية في تلك البلاد، لم يكونوا على لغة واحدة، بل على لغات كثيرة مما يجعل اتفاقهم على تزوير الكتب المقدسة أمرا مستحيلا.

3 - إن المسيحيين منقسمون إلى طوائف كثيرة، وهم في خلاف لاهوتي مستمر في ما بينهم، وكل فريق منهم يدعم وجهة نظره بآيات من الكتاب المقدس. فليس من الممكن أن يتفق الجميع على تحريف الكتاب الوحيد المشترك بينهم، دون أي إعتراض، ودون أن يرد أي ذكر لذلك في التاريخ.

4 – لو أراد أحدهم أن يُحرِّف شيئا لسارع أولا إلى تغيير ما هو عسير في الإنجيل المقدس، وإلى الترويج لممارسات وعقائد أقرب إلى هوى البشر وعقولهم. فما هو صعب جدا في الإنجيل المقدس على الطبيعة الإنسانية الضعيفة بقي على ما هو عليه. نذكر على سبيل المثال قول السيد المسيح: "مَن أراد أن يخلص حياته يهلكها"، "أحبوا أعداءكم وصلوا لأجل من يعنتكم ويبغضكم"، "أدخلوا من الباب الضيق فهو يؤدي إلى الملكوت" وما شابهها من الآيات التي تخالف الأهواء البشرية والنظرة الدنيوية للحياة. بالإضافة إلى ذلك، جدير بالذكر أن حقائق الإيمان في الأسفار المقدسة وفي التقليد الحي في الكنيسة متلاحمة، أي أنها كتلة واحدة ولا وجود لاي تناقض بينها.

5 – منذ نشأة الكنيسة وانتشارها، تَنَكّر اليهود للمسيحيين، وناصبوهم الكراهية والعداء. فقد كان اليهود دوما بالمرصاد للمسيحيين. وبالرغم من ذلك، وبالرغم من الإتهامات الكثيرة التي كانوا يقذفون بها المسيحيين، لم يذكر التاريخ قط أن اليهود أتهموا المسيحيين بأنهم حرّفوا كتبهم المقدسة.

6 – في زمن الرسل وما بعده بقليل، كتب كثير من العلماء والأتقياء ولاسيما آباء الكنيسة، كتابات دينية مسيحية نذكر منهم: البابا إكليمنضوس الذي استشهد سنة 101، وأغناطيوس الأنطاكي الذي استشهد سنة 110 ، ويوستينوس النابلسي الذي استشهد في مطلع القرن الثاني، وإيريناوس أسقف مدينة ليون الذي استشهد في منتصف القرن الثالث، وإكليمنضوس الإسكندري الذي توفي سنة 212، وترتليانوس الذي توفي سنة 220، وأوريجانوس الذي توفي سنة 253، وقبريانوس في شمال افريقيا الذي استشهد سنة 258، وأوسابيوس المؤرخ الكنسي الذي توفي سنة 340 وإيرونيموس الذي توفي سنة 420، وأغسطينوس الذي توفي سنة 430 ...الخ. وقد أحصيت في كتابات الآباء الذين عاشوا قبل مجمع نيقية سنة 325 للميلاد إقتباسات بلغ عددها 32000 إثنان وثلاثون ألفا من العهد الجديد. فإذا ما قابلناها مع الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم لوجدنا أنها مطابقة تماما لها.

7 – وأخيرا، بخصوص الأناجيل، نذكر رأي  الاستاذ محمود العقاد في كتابه "حياة المسيح" حيث قال:

"ليس من الصواب أن يقال ان الأناجيل جميعا عمدة لا يُعوّل عليها في تاريخ السيد المسيح، لأنها كُتِبت عن سماع بعيد، ولم تُكتَب عن سماع قريب من الزمن والمكان، ولأنها في أصلها مرجع واحد متعدد النقلة والنساخ، ولأنها روت من أخبار الحوادث ما لم يذكره أحد من المؤرخين ... وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ، إذ هي تضمّنت أقوالا في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، ومواطن الإختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها بالمقارنة بينها وبين آثارها. ورفضها على الجملة أصعب من قبولها عند الرجوع إلى أسباب هذا وأسباب ذاك ... وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالإعتماد".

460
نحن نؤمن بعِصمة الكتاب المقدس من الغلط، فماذا يجب أن نفهم بهذه العِصمة؟
 
الكتاب المقدس من حيث انه كتاب الله، يعلّمنا من غير خطأ الحقائق التي أراد الله إيداعها في الكتاب المقدس من أجل خلاصنا. إننا نعرف أن الله لا يخطأ ولا يخدع احدا. فهو يحفظ الكاتب المُلهَم من الباطل. ولهذا السبب فالإلهام تصاحبه هبة "العِصمة من الخطأ"، ليس عند المؤرخ المُلهِم فحسب بل في مجمل الكُتّاب أيضا. ولذلك تُعلّم أسفار الكتاب المقدس بحزم وأمانة وبدون خطأ، الحقيقة التي أراد الله  أن يراها مدوّنة في الكتب المقدسة. ولهذا السبب "فالكتاب كله من وحي الله يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البِرّ ليكون رجل الله كاملا مُعَدّا لكل عمل صالح" (2 طيم 3/16/17). وبالتالي فإن عصمة الكتاب المقدس من الغلط التي تُعلّمها الكنيسة تنطبق على "التأكيدات" الإيمانية والأدبية والأخلاقية التي أراد الكاتب المُلهِم أن يُعلّمنا إياها بإلهام من الروح القدس.

ولا بد من التذكير هنا بأن الكاتب المُلهَم يأخذ بعين الاعتبار عقلية معاصرية، ويكتب بطريقة مناسبة لهم كي يوصل إليهم الرسالة. فهو لا يبتغي أن يُثبّت حقيقة علمية كما هي عليه، بل هدفه تبليغ حقيقة دينية. وهذا ما يفسر أن الأفكار الدنيوية التي يحتوي عليها الكتاب المقدس ليست من حقل الحقيقة الإلهية. فعلينا اذا أن نميّز جيدا بين شخصية الكاتب الخاصة وشخصيته العامة. وهذا التمييز له أهمية كبرى في التفريق بين ما هو من الكاتب المُلهَم وما هو من الواضع الرئيسي وأعني به الله تعالى، أي أن نميز بين الإنسان وبين الله. ذلك أن الكاتب البشري لا يتمتع بالإلهام إلا في ما يتعلق بالرسالة الإلهية. فالله يعصمه من الخطأ في ما يتعلق بالحقيقة الموحاة، ولكنه في العلوم الأخرى لا يكون معصوما. فمَن أراد أن يقرأ الكتاب المقدس، عليه أن يهدف من وراء ذلك إلى فهم الحقيقة كما قالها الله. فالكتاب المقدس لا يُقدّم حلولا  للمسائل العلمية والتاريخية. هدف الكتاب المقدس هو تعليم سر الخلاص الذي حققه يسوع المسيح "الطريق والحق والحياة" (يو 14/5). ففي يسوع الإنسان وفي يسوع ابن الله معا نجد كمال الوحي. وفيه أيضا يجد العهد القديم معناه الأخير.

461
ما  مكانة العذراء مريم أم يسوع في الإسلام؟ 

يروي القرآن ولادة "عيسى" أي المسيح في سورتين: آل عمران ومريم. ويصف كيف هيّأ الله مجيئه إلى هذه الأرض تهيئة فريدة. فقد اختار له أمّا تدعى مريم، وهي تنتسب إلى عائلة عُرِفت بالتقوى والورع والأخلاق العالية. وقد وُلدت مريم من أم عاقر لا يذكر اسمها (وهي امرأة عمران) التي كانت تصلي وتطلب من الرب أن يكرمها بفرح الأمومة بالرغم من عقرها وتقدمها في السن. فحملت وكانت تأمل أن يكون مولودها ذكرا وإذا به أنثى، فسمّتها مريم ونذرتها للرب. وعندما كبرت مريم قدمتها أمها إلى الهيكل بفرح وسرور. 

ثم يتحدث القرآن عن ظهور الملائكة لمريم. فأعلموها أن الله طهرها واصطفاها على جميع النساء. ولما حان الوقت أرسل الله الملاك ليحمل إليها البشرى فعرفت أنها ستصبح أمّا للمسيح، كلمة الله: "إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين". فاضطربت مريم وسألت "أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر" فكشف لها الملاك عن السر لكي تكون مطمئنة ومرتاحة الضمير.  فالله أحاطها باهتمام بالغ ورفع مكانتها إلى أعلى درجة فوق نساء العالمين. إنها فتاة طاهرة لم تعرف في حياتها رجلا. والمسلمون يعظمون طهارة مريم العذراء.

ولما ولدته حملته وأتت أهلها فسألوها عنه مستغربين. فأجابتهم بالإشارة أن إسألوا الصبي، فنطق الطفل  وراح يدافع عن أمّه معلنا أن الله قد اختاره نبيا ليرسله إلى الشعب كافة.  

462
هل من فرق جوهري بين المسيحية والإسلام بالنسبة لميلاد المسيح؟

يصرح القرآن كالأناجيل بأن الحبل بيسوع قد تم بدون رجل ويعتبر المسلمون ذلك حدثا فريدا في تاريخ البشرية. والقرآن يجعل المسيح يتكلم وهو في المهد كي يدافع عن طهارة أمه ضد اليهود. ولكن المسلمين قارنوا هذه الولادة بولادة آدم اذ أن الله خلقه مباشرة دون أب ودون أم، وقالوا إن هذه الولادة لا تكفي لكي تمنحه الألوهية ويُسمّى "ابن الله" في المعنى المطلق لأن الله يخلق كما يشاء. يقول عبد العزيز عبد المجيد في كتابة "المسيح"، سلسلة اخترنا لك – دار المعارف – مصر د.ت، صفحة 139: 

" إن ولادة عيسى من أم عذراء قد استحقت أعظم إحترام ممكن لأنه من روح الله الذي تجسد على صورة إنسان"

أما المسيحيون فيقولون بأنه، في الواقع، كان لا بد لله من أن يخلق الإنسان الأول، بدون أب وبدون أم لأنه أول إنسان على وجه الأرض، ولا يكون خلقه بأب وأم.  لكن يسوع المسيح هو الأوحد الذي ولد بهذه الطريقة العجيبة الفريدة. فقد اتخذ جسدا من أم عذراء، بريئة من كل دنس. لم تمسها الخطيئة ولم يمسها الشيطان. فهو ابن الله في المعنى المطلق، كان قبل أن يتجسد ولكنه "تجرد من ذاته متخذا صورة العبد وصار على مثال البشر" (فل 2/7).

463
ماذا يفهم المسلمون بقولنا إن يسوع هو "ابن الله"، وماذا نعني نحن بها؟

1 - يعتبر المسلمون القرآن المرجع النهائي للوحي. فاستنادا إلى الوجه القرآني من  جهة، وإلى تحليل علماء المسلمين لبعض نصوص الإنجيل من جهة أخرى، يُنكر المسلمون أن يسوع هو ابن الله في المعنى المطلق. ويقولون إن  عبارة "ابن الله" وردت في الأناجيل بالمعنى العام وهي لا تعني البنوة الإلهية. ويقولون بأن هنالك آيات في العهد الجديد فيها يسمى يسوع "ابن الله" وآيات أخرى يُسمّى فيها اشخاص آخرون أبناء الله. يسوع يدعو الله "أباه السماوي" (متى 7/21) وقال لتلاميذه أيضا أن يدعوا الله أبا لهم. ويستنتج الكُتّاب المسلمون أن البنوة الإلهية ليست ميزة خاصة بيسوع وإنما تنسب أيضا إلى جميع الذين يؤمنون بالله. ويعتقدون أنه من الخطأ أن تنسب بنوة إلهية الى شخص في معناها المطلق. ويقولون بأن الإعتقاد بأن يسوع هو ابن الله بالمعنى المطلق لا يقبل به العقل، وأن الأبوة التي يتحدث عنها يسوع ليست أبوة لحم ودم  كالتي تربط بين الآباء والأبناء. فالله تعالى هو أب لجميع الناس وبالتالي تؤخذ الأبوة والبنوة بالمعنى المجازي أو بالمعنى الواسع ويرفضون أن تؤخذ بالمعنى الحقيقي ويعتبرون ألوهية المسيح إنحرافا عن التوحيد.

2 - أما المسيحيون فيعتبرون الكتاب المقدس والتقليد المقدس مرجعين نهائيين للإيمان. والكتاب المقدس هو كلمة الله المكتوبة بلغة البشر، ويسوع المسيح هو كلمة الله المتجسد. ففي سر التجسد، لا يؤله المسيحيون إنسانا، ولا يجعلون لله شريكا في الألوهية بل يؤمنون بأن كلمة الله الأزلي الكائن قبل كل الدهور المولود والغير مخلوق، إتخذ جسدا.

أ - إن عبارة "ابن الله" تشير إلى أصل يسوع الإلهي وإلى حقيقة وجوده قبل ولادته الإنسانية من مريم البتول. فهو ابن الله بالمعنى المطلق، وبنوّته هذه ليست من لحم ودم. فهو"نور من نور" أي كما تنبثق الأشعة من الشمس، هكذا ولادة الكلمة من الآب الازلي. وكما أنه لا وجود للشمس بدون نورها، ولا وجود للنور بدون الشمس، كذلك ولادة الكلمة من الله. فالشمس والنور لا ينفصلان، وما دامت الشمس شمسا ومنذ أن بدأت الشمس وجودها بدأ النور وجوده. هكذا ولادة الابن فهو "مولود غير مخلوق" أي منذ أن كان الله، وبالتالي منذ الأزل، والله لا بداية له ولا نهاية. ولذلك يؤمن المسيحيون بأن في المسيح طبيعتين: الإلهية والبشرية. وقد رفضت الكنيسة على مر العصور الهرطقات التي كانت تجعل منه إلها فقط، أو إنسانا فقط. الحقيقة هي أنه إله وإنسان معا، حتى لو عجزنا عن تفسير هذا الواقع لأنه موضوع إيمان ولا يمكن للعقل البشري أن يحتويه.

ب –  جاءت عبارة "ابن الله" في العهد القديم، ومرارا في العهد الجديد بالمعنى العام دلالة على حب الله للبشر. ولكنها جاءت أيضا مرارا في الإنجيل بالمعنى المطلق أي أن يسوع هو ابن الله حقا. ردّا على سؤال  يسوع الذي وجهه إلى تلاميذه: "أنتم من تقولون إني هو؟" أجاب بطرس قائلا: "أنت المسيح ابن الله الحي" (متى 16/16) فقال له يسوع: " ... ليس اللحم والدم  كشفا لك هذا بل أبي الذي في السموات" (متى 16/17). فالموضوع هو موضوع وحي وإيمان وليس من اختراع البشر. 

ج - بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من قيامة يسوع وصعوده إلى السماء دوّن الإنجيليون حياة يسوع، كل منهم بحسب أسلوبه الشخصي، حيث أعلنوا إيمانهم وإيمان الجماعة المسيحية الأولى. وأعلنوا أن يسوع هو ابن الله الحي، قام من القبر بقوته الذاتية ولن يموت، مستندين إلى تعاليم يسوع  وأقواله وعجائبه وقيامته المجيدة. فلقد كان يسوع يُعلّم بسلطان أدهش مستمعيه (مر 1/22). وعدّل مفهوم الشريعة وأعطاه بٌعده  الكامل. فالله هو مصدر الشريعة. ويسوع وجّه كلامه بشأنها إلى اليهود بسلطان، لكونه الله حيث قال لهم: "لقد سمعتم أنه قيل للاوّلين: لا تقتل ... "أما أنا فأقول لكم من غضب على أخيه إستوجب القضاء ..." (متى 5/22) وأعلن أن السماء والأرض تزولان وأما كلامه فلا يزول (متى 24/35). وبدأ مرقس إنجيله بقوله: "بدء بشارة يسوع المسيح ابن الله" (مر 1/1). وذكر في عماد يسوع أن صوتا انطلق من السموات يقول: "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" (مر 1/11). وعلى جبل طابور، إنطلق صوت من السماء يقول: "هذا هو ابني الحبيب فله إسمعوا" (مر 9/7) فالله الآب أعلن أن يسوع هو ابنه الأوحد. ويذكر مرقس أن الأرواح النجسة كانت ترتمي عند قدمي يسوع وتصيح: "أنت ابن الله"  (مر 3/11). 

بالاضافة إلى ذلك فإن الملاك جبرائيل قال لمريم بأنه "ابن الله يدعى" ( لو 1/35). وقال ليوسف في الحُلم أنه "عمانوئيل" أي "الله معنا" (متى 1/23)، وهذا تأكيد لوجوده السابق لدى الآب السماوي، قبل الحبل به. 

د - صرّح يسوع مُعلنا بنوّته الإلهية حين قال:  "قد أولاني أبي كل شيء فما من أحد يعرف الابن إلا الآب ولا من أحد يعرف الآب إلا الابن ومن شاء الابن أن يكشفه له" (متى 11/27). وحين سأله رئيس الكهنة رسميا أمام المجلس الملتئم لمحاكمته: "أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا أأنت المسيح ابن الله؟ أجاب يسوع: "هو ما تقول، وأنا أقول لكم سترون بعد اليوم ابن الإنسان جالسا عن يمين القدير وآتيا على غمام السماء" (متى 26/64). فالمسيح، في هذا الموقف الرسمي أعلن  بأنه حقا ابن الله بالمعنى الحقيقي للكلمة. 

يوحنا في مطلع إنجيله، يضعنا في قمة الوحي الإلهي: 

"في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله" (يو 
 1/1).  "في البدء "،

أي قبل أن يخلق الله الكون. " كان الكلمة" أي كان للكلمة وجود مطلق منذ الازل.  وهذا ما يعنيه يسوع بقوله لليهود: " قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8/58). ويضيف  يوحنا بوضوح تام قائلا:" والكلمة هو الله". واعترف يوحنا المعمدان بحقيقة يسوع إذ قال: "وأنا رأيته وشهدت أنه هو ابن الله" (يو 1/34). وقد أعلن يسوع وقال: "أنا والآب واحد ... أريد ان يكونوا واحدا معنا، كما أني أنا وإياك واحد، أيها الآب" (يو 10/30، 17/21). وكتب يوحنا في ختام إنجيله قائلا: "وأتى يسوع أمام التلاميذ بآيات أخرى كثيرة لم تُكتَب في هذا الكتاب. وإنما كُتِبت هذه لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله ولتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه" (يو 20/30-31)

هـ –  وإذا ما عدنا إلى المعجزات التي كان يسوع يصنعها، لاكتشفنا أن الطريقة التي كان يتبعها يسوع تختلف تماما عن طريقة الأنبياء. كان الأنبياء يصنعون المعجزات بسلطان الله، أما يسوع فكان يصنعها بسلطانه، بإشارة  منه أو بحركة أو بكلمة واحدة. وكان مفعولها يتم حالا (مر 1/31-41، 2/11...). وكان يسوع يجري معجزاته لمن كان يطلبها  بروح الإيمان الحقيقي. وأما المعجزات التي أجراها فهي تلك التي تنبّأ عنها الأنبياء في العهد القديم وقالوا إنها علامات لمجيء المسيح وملكوت الله (متى11/2-6، لو 7/18-23). فالعجائب التي إجترحها تثبت أنه المسيح المنتظر الذي تنبأ عنه الأنبياء، كما تثبت أن سلطانه سلطان الله على النفوس والأجساد، إذ أعلن أن له سلطانا لمغفرة الخطايا. قال للمقعد:  "يا بني غفرت لك خطاياك" (مر 2/5). وكان اليهود يعرفون أن غفران الخطايا هو من خصائص الله وحده. لذلك كان تَصرّف يسوع يذهلهم. وكانت معجزاته ومعجزة قيامته من بين الأموات تعكس سرّ شخصه الإلهي. كذلك أظهر يسوع أنه فعلا المسيح الإله، بسيادته على يوم السبت: "ابن الإنسان سيّد السبت أيضا" (مر 2/28)، وبمقارنته بالعريس (مر 2/18-20). والعريس، في العهد القديم، يرمز إلى الله تعالى. 

منذ انطلاقة المسيحية آمن تلاميذ المسيح وآمن المسيحيون بأن يسوع المسيح هو إبن الله الحي، اي كلمة الله الأزلي الذي تجسد، متخذا جسدا من مريم البتول. أما  الذين لم يؤمنوا به فاعتبروه مسيحا دجالا ويجدف على الله وحكموا عليه بالموت صلبا، وهكذا حققوا مقاصد الله من حيث لا يدرون.

464
لماذا لا يُرغِم الله جميع الناس على دين واحد؟

1 - إن الله خلق الإنسان حرا عاقلا. فللإنسان تفكيره وله اختياره وحريته. والله يحترم حرية الإنسان ولا يرغمه على دين معين، وإنما يدعوه إلى الإيمان القويم وإلى الإلتزام بحفظ وصاياه وعمل الخير للجميع. قال السيد المسيح للرسل : "إذهبوا وبشروا". رسل المسيح يعرضون الخلاص للناس، والناس إمّا يقبلون وإمّا يرفضون. 

2 - تعدّدت الأديان وكثرت المذاهب وكثر الأئمة والمفسرون، واختلف الناس دينا ومذهبا. ولم يذكر التاريخ أن البشر في يوم من الأيام دانوا بدين واحد وخضعوا لنظرية واحدة وفلسلفة واحدة. في العهد القديم، فشل اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب في توحيد دياناتهم. وفشل الإسكندر الكبير في توحيد الشعوب التي انتصر عليها بإقامته زواجات بين مختلف الجنسيات. وفشلت الدول والحضارات التي حاولت أن تفرض على شعوبها دينا واحدا، وأتهمت الناس بالزندقة وجلدت الخارجين عن خط الجماعة، وأعدمت  الأدباء والشعراء.

الإنسان كائن مستقل له فرادته وشخصيته قبل أن يكون ظاهرة اجتماعية. فلا يمكن الولوج إلى سره بالعنف أو بالقوانين التي تحد حريته الدينية، أو بالقتل والإرهاب. الطريق الوحيد إلى سر الإنسان هي اقناعه واحترام حريته.

3 - للتغيير بالعنف عواقب وخيمة كما يعلمنا التاريخ.  فمن جهة، مهما بَرَرت الدكتاتوريات ذاتها بغطاء ديني وسياسي، ومهما كان القائمون عليها عباقرة وناجحين سياسيا، فإنما كان دائما نجاحهم مؤقتا، لأن لهم ضعفهم وحدودهم. ومن جهة أخرى للناس نزواتهم وأوهانهم وآراؤهم وتنوعهم، ولهم حريتهم وكرامتهم. فالدين قضية فردية، والدين حالة داخلية في أعماق الإنسان، وعلاقة شخصية قبل أن يكون مظهرا اجتماعيا أو حاجة بشرية.

4 - لا يحق لأية أمه أن تفرض على شعبها دينا بالقوة. ولا تستيطع أن تُلزم الأنسان على الإيمان بما لا يقتنع به ولا يرتاح إليه. وفي الدول التي تلجأ بقوانينها وانتمائها الثقافي والديني إلى مختلف انواع العنف، يتظاهر كثير من المواطنين بالإنتماء إلى دين الجماعة ولكنهم في داخلهم  يؤمنون ويعيشون بخلاف ذلك. فلا يستطيع أحد أن يجبر الإنسان  على الإعتقاد بما لا يريد أو بما لا يرتاح إليه ضميره. الإنسان مسؤول عن أعماله وقراراته، ويتحمل نتائجها. وعليه أن يُحسن استعمال حريته. فلا تستقيم حياته إلا إذا كان حرا يملك إرادته ويسيطر على ذاته. وفي بلادنا لا أدل على ذلك من ان كثرة دور العبادة وعلو مآذنها وجرسياتها لم تحقّق فعليا تربية المواطنين على الإخلاص في العمل، والاتقان في الأداء، ولا في قبول الآخر واحترامه في كامل حقوقه الانسانية والوطنية، وفي حقه على اختيار إنتمائه الديني دون ضغط أو إكراه.

465
قل لي بحقك لماذا أمام عجزنا عن اللحاق بمواكب التقدم والحضارات نكتفي بالتغني بأمجاد صلاح الدين الأيوبي والفتوحات العربية ، مع العلم أن صلاح الدين كان  كرديا ولم يكن عربيا، ؟

أجيب على السؤال بدون مواربة وأقول: إن الذين يكتفون بالتغني بأمجاد الماضي التي طواها التاريخ إنما يبررون عجز الأمة العربية عن اللحاق بالحضارات، ويقفون عاجزين أمام حركة التاريخ وسُنّة التطور والمساهمة في بناء المستقبل، ولذلك تراهم يعيشون  وهما قاتلا  لا مبرر له.

أمراض حاضرنا العربي هي ثمرة ماضينا الذي يتباكى عليه الكثيرون. نحن ابناء اليوم ولسنا ابناء البارحة. وبين أيدينا حاضرنا وعلينا تقع مسؤولية بناء المستقبل. كثيرا ما نسمع في هذه الايام عن "الربيع العربي" ولكننا أمام كثرة المظالم والعنف وسفك دماء الأبرياء والدمار وغياب الأمن والإستقرار نتساءل هل نحن حقا أمام ربيع حقيقي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فالربيع العربي إلى أين؟ لقد قال السيد المسيح "من ثمارهم تعرفونهم" ... ويبدو واضحا أن "الربيع العربي" لم يثمر  ثمارا طيّبة.

466
هل ترجم المسيحيون العرب الكتاب المقدس أو الأناجيل أو أجزاء منها إلى العربية قبل مجىء الإسلام؟

إني أعتقد جازما أن المسيحيين العرب الذين  اعتنقوا المسيحية في سوريا والعراق والحجاز، مئات السنين قبل مجىء الاسلام، عرّبوا الكتاب المقدس، أو قلما يكون الأناجيل والمزامير، واتخذوها مرجعا لهم  في الليتورجية وفي تعليم الدين لابنائهم.

من الواضح أنه لم تصل الينا ترجمة الأناجيل أو ترجمة أي جزء من الكتاب المقدس على يد المسيحيين العرب الذين عاشوا قبل مجىء الإسلام. وقد إختلفت الآراء بهذا الشأن. فهناك فريق من العلماء يقولون بأنه كان لدى المسيحيين العرب في الجاهلية ترجمة الأناجيل، منهم الأب لويس شيخو، والمستشرق باومشتارك (Baumstark) وألفريد غليوم ( Guillaume)، وجورج غراف (Graf) وغيرهم. وبالرغم من أنه لم تصل الينا أية نسخة عربية عن الأناجيل أو عن أجزاء من الكتاب المقدس. كتب جوّاد علي يقول في كتابه "المفضل في تاريخ العرب قبل الإسلام" الجزء السادس،  بيروت،  دار المعلم للملايين الطبعة الثانية  1978:

"يظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطّلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق قد عرّب بنفسه الكتابين كُلا أو بعضا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين ... ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة لِمَا عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل. وقد برز منهم نفر ... وقد لا يُستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها لتكون في متناول الأيدي، ولاسيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يُستبعد أيضا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى، لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير" (صفحة 681-689)

467
بماذا تنصحني لكي أقنع زميلي المسلم  بأن عقيدة الله الواحد في ثلاثة أقانيم، لا تنفي وحدانية الله بل تؤكدها وتقول أن الله محبة ؟

إن أول ما يجب أن يتبادر إلى ذهنك هو أن تنطلق من الإيمان المشترك بينك وبين صديقك المسلم. والإيمان المشترك هو أن الله واحد، وأن الله الواحد ليس موضوعا للشرح والإقناع وكأنه حقيقة علمية، بل هو موضوع إيمان. عقل الإنسان يكتشف الحقائق العلمية ويقبلها وهو يجهل سِرّها.  العقل المخلوق والمحدود لا يستطيع أن يحتوي الله الخالق غير المحدود. وإنما يمكنه أن يصف الله بما يميزه عن كل ما سواه. فيقول بأن الله روح محض، وأنه غير محدود وسرمدي، وقدوس وعادل ومحب  ونور وحق، لا بداية له ولا نهاية... الخ. فالله غير مُدرَك في حقيقته، وهو لا يتجزأ وهو موجود بكل كماله في السماء والأرض وفي كل مكان. فنحن لا نستطيع أن نتصور الله كما نتصور أية خليقة. لا نستطيع أن نتصور  كيف أن الله  دائم الوجود ليس له بداية وليس له نهاية، ولا نستطيع أن نتصور كيف أن الله لا يتجزأ وأنه موجود كاملا في كل مكان وزمان. فالله غير محدود لا يدركه عقل محدود. فهو، سبحانه وتعالى، موضوع إيمان: 

1 - نحن المسيحيين نؤمن بأن الله واحد، ولا نؤمن بثلاثة آلهة. هذا هو إيماننا عبر التاريخ منذ إنطلاقة المسيحية قبل ألفي سنة. ونؤمن بأنه واحد في كمالاته، وأنه شخص حي وعاقل، واجب الوجود بذاته، وله كل مقومات الشخصية في كمالها غير المحدود والفائق الإدراك. وهو المدرِك لذاته إلى أقصى الحدود، والمدرِك لكل شيء صنعه. وهو ليس جسما  يُرى ويُلمس ويُدرك بالحواس البشرية بل هو روح محض قائم بذاته. 

ونؤمن بأن الله الواحد ذو ثلاثة أقانيم: الآب والإبن والروح القدس. الثلاثة هم إله واحد، وحقيقة إلهية واحدة وجوهر إلهي واحد. فليست الأقانيم الثلاثة ذوات قائمة بذاتها، إنما هي ذات إلهية واحدة. فاذا قلنا إن أحد الأقانيم الإلهية هو الله فاننا نقصد أن الأقنومين الآخرين ملازمان له وأن كلا منهم مساو للاخر في الجوهر، له كل ما له في كل شيء. فالقول بثلاثة أقانيم لا يعني القول بثلاثة آلهة لأن تعداد الخواص والصفات لا يستلزم تعداد الذات. فالمسيحيون بعقيدة الثالوث الأقدس لا يعنون ولا يؤمنون بأن في الله أكثر من جوهر واحد لا يقبل الإنقسام ولا يتجزأ.  والمراد هنا بالجوهر، الذات الإلهية الواحدة.

2 - وإذا ما تأملنا في الموضوع استنادا إلى الأدلة العقلية والمنطقية والحكمة الإنسانية لتوصلنا إلى القول  بأن الثالوث في الوحدة أمر حتمي، ذلك لانه: 
 
* لا يمكن لله الواحد الذي أوجد الموجودات كلها، أن يكون هو نفسه بلا وجود. 
* ولا يمكن لله الذي خلق الإنسان ناطقا أن يكون هو نفسه غير ناطق بالكلمة. 
* ولا يمكن لله الذي خلق الحياة في كل كائن حي أن يكون هو نفسه غير حي بالروح.

وهذا هو الإله الواحد المثلث الاقانيم الذي يؤمن به المسيحيون.

3 - كذلك إشرح لصديقك سورة النساء، آية 171 حيث يذكر القرآن  ثالوث الله الواحد كما نؤمن به نحن المسيحيين، أي أن الثالوث هو ذات الله وكلمته وروحه:

"إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه".

ففي هذه الآية يتضح ان الله له:

ذات   ...    في قوله رسول  " الله"
وكلمة  ...  في قوله "وكلمته" فالهاء ضمير يعود إلى الله
وروح ...  في قوله "وروح منه" فالهاء في "منه" ضمير  يعود إلى الله

هذا ما نفهمه نحن المسيحيين في هذه الآية، وهذا ما نؤمن به وهو بالطبع لا  يقتضي الشرك بالله. 

4 - يستند إيماننا المسيحي إلى وحي الله في الكتب المقدسة كما نقله الينا الوحي في أسفار العهد الجديد. والوحي هو فعل الله. ومضمونه هو من الله. فإيماننا ليس من اختراع الناس، ولا يناقض العقل البشري بل يفوقه وهو ليس خروجا على التوحيد. السيد المسيح خاتم الأنبياء وقمة الوحي كشف لنا سر الله الواحد المثلث الأقانيم. وبما أن الله واحد فالدين الذي يوحي به وينزله هو واحد. وما من دين سواه. 

ويمكنك أن تستشهد أيضا بكلام السيد المسيح لرسله قبل صعوده إلى السماء حيث قال: "إذهبوا وتلمذوا جميع الامم، وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس" (متى 28/19). فالمسيح لا يخلط مخلوقات (الإبن والروح القدس ) مع الله الخالد، ولا يخلط ما هو زمني مع الله الذي ليس له بداية ولا نهاية، فالله الواحد الذي نؤمن به هو الله الآب والإبن والروح القدس. وقانون الإيمان  يبدأ بالقول: "نؤمن باله واحد".

قال يوحنا الحبيب في مطلع إنجيله: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله" (يو 1/1). وأما قوله: "في البدء كان الكلمة" فيعني أنه كان قبل الدهور. وقوله "الكلمة" يدل على أنه غير مخلوق. ويقول صراحة: "والكلمة هو الله". وسبق أشعيا النبي وقال:"كلمة إلهنا تبقى إلى الأبد" (أشعيا 40/8). كذلك يقول يوحنا: "فيه كانت الحياة، والحياة  نور الناس" (يو 1/4) أي أن الله هو الله،  وهو النور، والحياة في كلمته وروحه منذ الأزل، لا بداية له ولا نهاية. وقال يوحنا في رسالته الأولى: "الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس وهؤلا الثلاثة هم واحد" (1 يو5/7).
 
5 –  كذلك إشرح له بالامثال لتقرب إلى ذهنه ما تؤمن به، لأنه بالأمثال يسهل على الإنسان ان يرى ما لا يُرى، وأن يعرف ما كان يجهل. والأمثال كثيرة نتوقف على البعض منها: 

أ – للإنسان ثلاثة أركان: فكر وشعور وإرادة. والإنسان هو واحد  لا يتجزأ، وهو ليس ثلاثة،  فانطلاقا من هذا التشبيه يمكنك أن تُقرِّب إلى ذهنه أن الله واحد لا يتجزأ في أركانه الثلاثة:الآب والإبن والروح القدس. بالإمكان الدخول إلى حقيقة الإنسان الواحد انطلاقا من الفكر أو من الشعور أو من الإرادة، هكذا يمكن الدخول إلى الله الواحد انطلاقا من الآب أو من الإبن أو من الروح القدس، وفي جميع هذه الأحوال الثلاث هو الله الواحد الأحد. 

ب – الإنسان هو واحد مع كلمته وروحه، وليس ثلاثة، ولا تنفصل كلمته عن روحه، ولا روحه عن كلمته. هكذا الله تعالى: إنه واحد مع كلمته وروحه، وليس ثلاثة آلهة، إذ لا يمكن أن ينفصل عنه كلمته وروحه.

ج - ويمكنك أن تعطيه تشبيها آخر من الطبيعة: فالشمس مع أشعتها وحرارتها هي شمس واحدة، وهي ليست ثلاثة شموس. ولا تكون الشمس شمسا بدون حرارتها ونورها. وكما أن النور والحرارة لا ينفصلان عن الشمس بل هي مصدرهما وهي شمس واحدة  معهما ، هكذا حقيقة الله المثلث الأقانيم. ونحن نؤمن بأن الله دائم الوجود مع كلمته وروحه. فمنذ الأزل، له كلمته ينبوع النطق، ومنذ الأزل ينبثق  الروح  ينبوع الحياة.

د – ويمكنك أن تأخذ مثلا من واقع حياة الناس فتقول له على سبيل المثال: لك بيت واحد وله ثلاثة أبواب. فاذا دخلت من الباب الأول أو الثاني أو الثالث  فأنت تدخل بيتا واحدا لا يتغير، وهو ليس ثلاثة بيوت بل بيت واحد بأبواب ثلاثة يتميز الباب عن الباب. هكذا  الله  في المسيحية، فهو واحد، ويمكن أن تدخل إليه من باب "ألله الآب"، أو من باب "الله الإبن / الكلمة" أو من باب  "الله الروح القدس". في الحالات الثلاث الله واحد، جوهره واحد، وهو ليس ثلاثة آلهة.

هـ - ويمكنك أن تشرح لصديقك أن الإيمان بالله الواحد المثلث الأقانيم يشرح أن الله محبة.  ذلك أن عناصر المحبة هي ثلاثة: مُحِب ومحبوب وحب يربط  بينهما. وهذه هي حقيقة الله الواحد المثلث الأقانيم. والعناصر هذه كلها هي في حقيقة الله الواحد، أي في جوهره الواحد، وهي ليست خارج كيانه الإلهي. فلو كان أحد هذه العناصر خارجا عن كيانه الإلهي لما كان الله إلها كامل الوجود  وقائما بذاته .

6 –  وأخيرا أذكّرك بأمر أساسي وهو أن تحترم صديقك في حريته الدينية وإيمانه وأن يحترمك صديقك في حريتك الدينية وإيمانك. فإذا توصلت وإياه  إلى ذلك، كانت صداقتكما متينة. فالحوار هو ثقافة التمييز بين الإختلاف والخلاف. أنتما تختلفان دينا، ولكن لا يقوم خلاف بينكما بسبب ذلك. لكل منكم الحق على الإختلاف في دينه، وعلى الإحترام المتبادل. فإذا ما توفرت هذه القاعدة سهل على المواطنين، مسيحيين ومسلمين، بناء علاقات تتسم بالإحترام والقبول المتبادلين، والعمل يدا بيد  في سبيل الوطن الواحد والمصير الواحد.

468
ما هو التثليث الذي حاربه الإسلام؟
 
1 - التثليث الذي حاربه الإسلام ليس تثليث المسيحية، لأن تثليث المسيحية لا يقول بثلاثة آلهة، بل بإله واحد لا شريك له، له الملك والمجد، وهو على كل شيء قدير. 

الآيات القرآنية تحارب تعليما يحمل معنى الإشراك بالله وتعدّد الآلهة، وتعليما ينافي تعليم المسيحية وعقيدتها. فهي تحارب تثليث بدعة المريميين. وكان أصحابها من الوثنيين الذين اعتنقوا المسيحية وكانوا في وثنيتهم يعبدون كوكب "الزهرة" ويسمونها ملكة السماء. وعندما اعتنقوا المسيحية حاولوا التقريب بين ما كانوا يعبدون وبين العقيدة المسيحية. فاعتبروا مريم هي ملكة السماء أو آلهة السماء بدلا من الزهرة ولذلك أطلقوا على أنفسهم اسم "المريميين" وأصبحت عقيدتهم بأن هناك ثلاثة آلهة: الله ومريم والمسيح.

وهذه البدعة حاربها الإسلام  بعد أن حاربتها المسيحية وحرمت أتباعها من شركة الإيمان حتى قضت عليها، فاندثرت في نهاية القرن السابع. فكانت سهام الإسلام موجّهة ضد بِدعة حاربتها المسيحية قبل قيام الإسلام بقرون. وعندما ظهر الإسلام حارب البدع في التثليث أينما وُجدت، كما حاربتها المسيحية، ويتضح ذلك من:

أ – الآية 116 من سورة  المائدة:

"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ..."

واضح أن المقصود من الإعتراض هنا هم المريميون الذين نادوا بأن مريم هي إلهة، وهذا بالطبع ما حاربته المسيحية.

ب – الآية 101 من سورة الأنعام:

"بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شيء عليم"

هذه الآية تعترض على قول المريميين بأن مريم إلهة وصارت لله صاحبة ومنها أنجب الله ولدا. وقولهم هذا مرفوض على الإطلاق، من المسيحية والإسلام.

ج – الاية 1-4 من  سورة الاخلاص 

"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد"

ترد هذه الآية على بدعة المريميين الذين يقولون إن هناك  ثلاثة آلهة: الأب والأم والإبن، وإن هذا الابن جاء عن طريق التناسل، وهذا بالطبع مرفوض كليا مسيحيا وإسلاميا.

د – اآية 73 من سورة المائدة:

"لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد"

فالآية تنفي ما ذهب اليه المريميون بوجود ثلاثة آلهة.

2 - بالاضافة إلى بدعة المريميين، كان في الجزيرة العربية، عند ظهور الإسلام بِدَع أخرى كالمرقيونية التي حرمتها الكنيسة وحاربتها وحرمت أتباعها لأن أتباع هذه البدعة كانوا يؤمنون بثلاثة آلهة: إله عادل أنزل التوراة، وإله صالح نسخها، وإله شرير هو إبليس. وكذلك حرمت الكنيسة أتباع المانوية الذين كانوا يؤمنون بوجود إلهين اثنين، أحدهما للخير  وهو إله النور، والآخر للشر وهو إله الظلمة. وقول القرآن: "ولا تتخذوا إلهين اثنين" يشير إلى هاتين البدعتين.

فالإسلام يحارب ثالوثا غير ثالوث المسيحية، وتعليما غير تعليمها، وعقيدة غير عقيدتها. بالإضافة إلى ذلك فإن عددا من علماء المسلمين، يفهمون التثليث المسيحي على حقيقته كما يفهمه المسيحيون،  نذكر منهم على سبيل المثال الإمام أبا حامد الغزالي في كتابه "الرد الجميل"، والإمام فخر الدين الرازي في "التفسير الكبير" وابن سينا الملقب بالرئيس وغيرهم.

وختاما نلاحظ أن عدد المسلمين الذين  يطبقون هذه الآيات أو ما شابهها على التثليث المسيحي آخذ بالإزدياد، لسبب بسيط وهو أن معظم معلمي الدين الإسلامي في المدارس والجامعات يجهلون الإيمان المسيحي ويجهلون التاريخ والبِدَع الكثيرة التي إستهدفها القرآن، والتي كانت منتشرة في الجزيرة العربية.  وهذا مؤسف حقا ويؤثر سلبا على العلاقات الطيبة  بين المسلمين والمسيحيين. 

469
ما هي البنوّة التي حاربها الإسلام؟


ان الإسلام حارب البنوة التناسلية في الله: 

"بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شيء عليم" (سورة الانعام 101) 

وقد وردت في القرآن آيات غيرها أشارت إلى نسبة البنوّة بولادة تناسلية وحاربتها.

إن المسيحية لا تعلم ولا تؤمن ببنوة تناسلية في الله. تعليم البنوة التناسلية هو مخالف للدين المسيحي كما هو مخالف للدين الإسلامي. فما ورد بهذا الشأن  في سورة الانعام وفي غيرها من السُّور إنما يحارب تعليما حاربته المسيحية قبل الإسلام، وبقي غريبا عن تعاليمها ومعتقدها. نذكر منها في زمن ظهور الإسلام بدعة المريميين. وكان أتباع هذه البدعة يؤلهون مريم العذراء والله والمسيح. فالإسلام لم يحارب إيمان المسيحية بأن الله واحد له ذات واحدة، ناطق بالكلمة،  حي بالروح  كما جاء في الآية 171 من سورة النساء: "انما عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ...  وروح منه"

470
نجد اليوم عددا من معلمي الدين الإسلامي يعلّمون طلابهم بأن المسيحيين مشركون وأنهم يعبدون ثلاثة آلهة. فهل في القرآن الكريم  آيات تناقض تعليمهم المنحرف عما يقوله القرآن؟

نعم، نجد آيات كثيرة في القرآن بهذا الصدد: 

1 –  الآية 62 من سورة البقرة التي نصت على ما يلي:

"ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون". 

فلو اعتقد الإسلام أن النصارى يؤمنون بالله على غير توحيد لما صرح بأن لهم أجرهم عند ربهم، وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لانه يكون بتصريحه هذا قد وعد المشركين بالأجر والثواب. 

2 – الآية 82 من سورة المائدة، وكثير من المسيحيين يعرفونها عن ظهر القلب: 

"لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون". 

يتضح من هذا النص أن النصارى ليسوا مشركين بالله. فالمشركون واليهود هم أشد الناس عداوة للمسلمين، وأما النصارى فهم أقرب الناس مودة لهم.

3 – الآية 5 من سورة المائدة: 

"اليوم أُحِل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم، وطعامكم حِل لهم، والمحصنات من المؤمنــات والمحصنات من الذين أوتــــوا الكتـاب من قبلكــم اذا آتيتموهن اجــورهن محصِّنين غير مسافحين ولا متخذي اخدان ... ".

ويتضح من هذه الآية أن الإسلام الذي حرّم على المسلمين أن يتزوجوا بالمشرِكات، دون أن يتخذن الإسلام  دينا، يتيح للمسلم أن يتزوج من المرأة النصرانية، مع بقائها على دينها، ومع الحرص على حقها أن لا يهضم. فلو اعتبر الإسلام الفتاة النصرانية مشركة لمنع الزواج منها ولاشترط الإسلام عليها لجواز هذا الزواج وصحته. 

4 –  الآية 46 من سورة العنكبوت:

"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون"

فالقرآن بهذه الآية يشهد أننا نحن المسيحيين (النصارى) نعبد الله الواحد: "إلهنا وإلهكم واحد".

5 – الآية  113/114 من سورة آل عمران:

"مِن أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين"

من الواضح أن هذه الآية تذكر بأن أهل الكتاب (أي المسيحيين) يؤمنون بالله الواحد، يتلون كتابه الموجود بين أيديهم في أيام محمد، ويسجدون لله ويعبدونه واحدا.

7 – الآية 55 من سورة آل عمران:

"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ... "

فالنص يوضح أن الذين تبعوا المسيح وهم المسيحيون، ليسوا كفرة بل أن الله ميّزهم عن الكفرة ورفعهم فوقهم.

ليس المسيحيون مشركين. إنهم يؤمنون بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض، وهم يسيرون على  تعليم السيد المسيح: "أحبب الرب الهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء" (متى 22/34-40).

وأما بالنسبة للثالوث الأقدس، فالمسلمون ينظرون إلى الله في ذاته ولا ينظرون إليه في سر حياته الخاصة ويعتبرون ذلك سرا لا يوحى به ...  بينما المسيحيون يؤمنون بأنه سر أوحى به الله في كتبهم المقدسة.

471
نحن المسيحيين نؤمن بسر التجسد.  هل المسلمون يؤمنون أيضا بهذا السر العظيم؟ 

المسلمون لا يؤمنون إطلاقا بسر التجسد، ويقولون إن الله لم يتخذ ولدا من جوهره. ويرون أن سر التجسد يحط من عظمة الله  وسموّه ويُدخل في كيانه التغيير والتبديل.  ويقولون إن الآيات في العهد الجديد التي تشير بوضوح إلى أن الله قد اتخذ جسدا وأصبح بشرا ليست نصوصا موحاة، وإنما هي فكرة وثنية، كتب يوحنا الإنجيلي نصوصها متأثرا بالفكر اليوناني. وأما بالنسبة لكتابات بولس، فإنهم يرفضونها لأن بولس، في رأيهم، هدم مسيحية المسيح. ويعتقدون أيضا أن المبشرين بالمسيحية، كانوا في البداية يعلنون أن الله واحد لا شريك له. ولكن عندما أخذت المسيحية تنتشر في الأوساط اليونانية والرومانية الوثنية روّج المسيحيون لفكرة نزول الله على الأرض وذلك إرضاء للعقلية الرومانية واليونانية، ولجذبهم إلى الدين المسيحي.

أما المسيحيون فيؤمنون إيمانا ثابتا بأن سر التجسد هو حقيقة من حقائق الإيمان الأساسية. ومفهوم هذا السر العظيم هو أن كلمة الله، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس قد تجسد أي أنه اتخذ طبيعة البشر وصار إنسانا، بنفس عاقلة ناطقة كنفسنا، وبجسد  حقيقي كجسدنا، وأصبح شبيها بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. وهذا يعني أن اللاهوت اتحد بالناسوت، أي الطبيعة البشرية دون أن يفقد  اللاهوت من جوهره شيئا. وهذا الاتحاد تم دون تغيير أو استحالة، أي دون أن يتحول اللاهوت إلى الناسوت، ودون أن يتحول الناسوت إلى اللاهوت. وقد تجسد كلمة الله لكي ينتصر على إبليس (1 يوحنا 3/8) ويخلصنا من الموت الحقيقي الذي سببته خطيئة آدم وحواء، ويصالحنا مع الله ويجعلنا أبناء الله.

لقد ركزت الأناجيل على حقيقة شخص يسوع في طبيعتيه الإلهية والإنسانية. بشر الملاك مريم وقال لها: "إن الروح القدس سينزل عليك وقدرة العلي تظللك، ولذلك يكون المولود قدوسا وابن الله يدعى" (لو1/35). وبدت هذه الحقيقة ساطعة سطوع الشمس يوم عماد يسوع (مر 1/11)، وفي تجليه  على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه (مرقس 9/7)، حيث سُمِع صوت يُعلن  يسوع ابنا لله. ويوحنا الإنجيلي، بعد أن أعلن أن الكلمة هو الله (يو 1/1) أعلن أن: "الكلمة صار بشرا فسكن بينننا فرأينا مجده، مجدا من لدن الآب لابن وحيد" (يو 1/14). وفي رسالته الأولى أكد أنه رآه  وسمعه ولمسه (1 يو 1/1-3). 

في الأناجيل نصوص كثيرة تُبرز طبيعة يسوع البشرية. فهو وُلد من مريم البتول وأكل وشرب، وتعب ونام وفرح وحزن وتألم ... الخ. جميع هذه الأمور تدل على أن يسوع ابن الله لَبِس حقا طبيعتنا البشرية من أجل خلاصنا (متى 9/13 ، لو 19/10). فالكلمة اتخذ الوجود البشري كاملا دون أن يفقد شيئا من كيانه الإلهي. وهذا التجسد هو في الواقع التعبير عن حب الله العظيم الذي جاء ليكشف عن نفسه للإنسان ويعبّر له عن إرادته لإنقاذه، وإعادته إلى الحياة الإلهية التي خسرها.

بولس الرسول يؤكد أن يسوع كان في مجده الإلهي قبل ظهوره للعالم، وصار بتجسده شبيها بالبشر محتفظا دائما بطبيعته الإلهية: "لما تم الزمان أرسل الله ابنه مولودا لإمراة، مولودا في حكم الشريعة" (غلا 4/4)، أرسله في جسد يشبه جسدنا الخاطىء. وقد قَبِل الموت بملء إرادته: "وضع نفسه وأطاع حتى الموت، الموت على الصليب" (فل 2/8) ليصالح البشرية مع الله وينال لها الخلاص ... ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيدا لله الآب (فل 2/11).


472
أعتقد أن المسلمين يؤمنون بأن آدم  ارتكب فعلا الخطيئة، ولكن هل يؤمنون بتأثير خطيئته على ذريته؟ وبعبارة أخرى هل يؤمنون بما نسميه نحن الخطيئة الأصلية وبنتائجها السلبية على البشر؟

يؤمن المسلمون بأن آدم عصى الله وتمرد عليه  وارتكب الخطيئة  فخسر السعادة التي كان ينعم بها. ويؤمنون بأنه ارتكب  خطيئته في لحظة ضعف، ولم تكن خطيئة كبرياء. كما يؤمنون أن خطيئته أصابته هو وحده فقط ولم تنتقل نتائجها إلى ذريته لأن الرب سامحه وعفا عنه واختاره نبيا ليكون خليفته على الأرض. وطلب إليه أن يُعلّم  ذريته الشرائع الإلهية، وأصبح بذلك أول نبي على الأرض وأبا لجميع الأنبياء الذين وعد الله بإرسالهم الواحد بعد الاخر كي يحفظوا ذريته في الطريق المستقيم. وأصبح آدم بذلك المثال الذي يجب اتباعه، فإن أخطأ الإنسان فعليه بالتوبة والعودة إلى خالقه لطلب الصفح. ولن يتأخر الله عن العفو عنه لأنه الرحمن الرحيم. فالدين الإسلامي لا يعترف بالخطيئة الموروثة أو الخطيئة الأصلية. كل إنسان هو المسؤول عن أعماله بعد ولادته لا قبلها. ويقول المسلمون بأن بولس الرسول هو الذي اخترع فكرة الخطيئة الاصلية.

أما إيماننا المسيحي فيميز بين الخطيئة الفردية التي يرتكبها الإنسان بحريته وهو مسؤول عنها وعن نتائجها المدمرة، وبين الخطيئة الأولى التي ارتكبها الإنسان الأول والتي نسميها  الخطيئة الأصلية، نسبة إلى آدم أصل الجنس البشري، وهي تدل على الحالة التي يولد فيها البشر. فلو لم يتمرد آدم لبقيت ذريته تنعم مثله بصداقة الله وسعادته، ولكنه تمرد ففَقَدَ ما كان ينعم به عند الله وبالتالي فإن ذريته تولد ملطخة بجريرته. آدم بخطيئته جعل ذريته كلها في حالة الإنفصال عن الله تعالى، وراحت هذه الحالة  تنتقل وراثيا إلى ذريته.  فكل مولود يولد في حالة أهله، ووجوده في حالتهم هذه يتم قبل اتخاذه أي قرار شخصي. آدم وضع البشرية كلها في الحالة الخاطئة  وهي تعاني من عواقبها الوخيمة. وعندما انفصل آدم عن الله ينبوع الحياة، نتج عن هذا الإنفصال موت الإنسان. وهكذا دخل الموت العالم كعقاب للخطيئة (رو 5/12) وهذا الموت هو موت روحي وأبدي. وما الموت المادي إلا نتيجة للموت الروحي. فالموت اذن ليس من صنع الله. فالله لم يخلق الإنسان للفناء والإنحلال. دخل الموت العالم على يد الشيطان. فقد آدم النعمة المبررة فلم يورثها لذريته وأصبحت ذريته محرومة منها، فكثرت الخطيئة وكثر الحقد والبغض والكبريا والعنف والظلم في تاريخ البشرية وأصبح الناس عبيدا للخطيئة. 

يوحنا الحبيب  في حديثه عن العالم أبرز شمولية الخطيئة. وبولس الرسول قارن بين آدم الأول وبين المسيح آدم الثاني. ويقول إن الموت دخل العالم  مع آدم الأول وكثرت الخطايا بحيث ان الجميع قد أخطأوا بآدم. أما مع يسوع الفادي فقد عادت الحياة لأنه اكتسب للبشر فداء أبديا (عبر 9/6/14). آدم الأول هدم ما صنعه الرب ورمى ذريته في حالة الخطيئة أي الإنفصال عن الله بينما يسوع المسيح آدم الجديد فقد أسس الحياة الجديدة ونال للعالم الخلاص الأبدي بموته على الصليب ذبيحة فداء مرضية .

473
هل يؤمن المسلمون بسر الفداء؟

1 - المسلمون لا يؤمنون بالفداء، ولا بصلب المسيح ولا بالقيامة من بين الأموات، ويرتكزون في ذلك على الآية القرآنية:

"وقولهم انا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا" (سورة النساء 157).

هذه الآية لا تذكر اسم وشخصية الشبيه، وتبقى هويته مجهولة. ولا تذكر متى انقذ الله يسوع. فاختلف الكُتّاب المسلمون من نتائج هذا الغموض. وهذا يعني أن موقف المسلمين ليس اجماعيا، إذ أنهم مختلفون حول اسم البديل ولحظة ومكان انقاذه ورفعه. وكل ما نستطيع استخلاصه هو أن الله تَدَخّل مباشرة للدفاع عن نبيه  ورفعه إليه. فهذا هو الموقف الإسلامي من الصلب والفداء.

وراح المسلمون يفسرون نصوص العهد القديم عن الفداء وموت المسيح تفسيرا مغرضا يناسب نظرياتهم وأعلنوا أن تفسيرهم هو الذي يعطي المعنى الحقيقي لها، ويقولون إن موت المسيح على الصليب يعتبر انتحارا، ومن المحال أيضا أن يميت الله نبيه البرىء بأيدي اليهود الأثمة لأن هذا العمل، بحسب رأيهم، ينافي عدالة الله.  ولذلك  فإنهم يقولون بأن خلاص الإنسان لم يتم بموت المسيح بل  باتباع رسالة الأنبياء التي تحدد لهم  الطريق المستقيم.

2 - أما المسيحيون فيؤمنون بأن المسيح رضي أن يُكفّر عن خطيئة آدم وخطايا جميع البشر وذلك بقبوله الموت على الصليب طوعا واختيارا. فلما تم الزمان الذي حدده الله بنفسه أرسل إبنه الوحيد فتأنس متخذا جسدا من مريم البتول، وكشف عن حب الله للإنسان. فقدم يسوع  ذاته  فدية عن البشر الخطأة (غلا 4/4، يو 3/17) وهرق دمه ليطهر الإنسان ويصالحه نهائيا مع الله وأعاد اليه الحياة الأبدية وأقام بين الله والناس عهدا جديدا (يو 22/20)، وجعل الإنسان يستعيد سموه الإلهي. فهو وحده القادر على تحقيق كل ذلك. الإنسان لا يستطيع أن يحقق الفداء وحده ما دام هو الخاطىء الغارق في الخطايا. فجاءه  الفداء من عند الله الرحيم والرؤوف. لقد ضل اليهود وزاغوا عن الطريق المستقيم الذي رسمه الله لأن فكرة القومية اليهودية، سيطرت عليهم، وهذا ما جعلهم لا يتعرفون على حقيقة المسيح فحكموا عليه بالموت. وقد قبل يسوع طوعا هذا الموت، الموت على الصليب الذي أصبح مركز تاريخ الخلاص. قالت القديسة كاترينا السيانية في  "كتاب الحوار في العناية الإلهية" مناجية الله عز وجل :

"مَن كان السبب لتضع الإنسان في مثل هذه الكرامة الرفيعة؟ هو حبك الذي لا يُدرك ... فقد أردتَ أن تصالح الجنس البشري، ومن دون مقابل، فوهبتنا ابنك الوحيد، شفيعا ووسيطا حقيقيا. كان هو عدلنا، إذ أخذ عنا آثامنا وتحمل العقاب عنا، بالطاعة التي طلبتها منه، أيها الآب الأزلي، لمّا قررت أن يتخذ طبيعتنا الإنسانية. حبك هوّة عميقة لا يُسبر غورها".

474
هل من فرق في معنى الخطيئة بين الإسلام والمسيحية؟ وهل الخطيئة في الإسلام كما في المسيحية تكون أيضا فكرا؟ 

1 – في المسيحية، 
قد يرتكب الإنسان الخطيئة بالفكر والقول والعمل والإهمال. والخطيئة هي انحراف عن الله خالقنا وهدف حياتنا الوحيد. وهذا الإنحراف يكون بالنزوع إلى الشر  والإنفصال عن الخير. إنها الخروج على وصايا الله  وما تعلّمه الكنيسة المؤتمنة على الوحي والإيمان من أخلاق قويمة ومن وجوب احترام كرامة الإنسان وقدسية حياته. وأما أكبر الوصايا  في المسيحية فهي أن يحب الإنسان الله بكل قلبه وكل نفسه وكل فكره وأن يحب قريبه حبه لنفسه.

والخطايا، منها المميتة لأنها تفصل النفس عن الله حياتها وتقضي فيها على حياة النعمة الإلهية. ومنها العرضية التي تهين الله ولكنها لا تفصل النفس عنه تعالى. فالله خلق الإنسان كائنا حرا. ولذلك باستطاعة الإنسان دائما أن يختار بين الخير والشر، بين الحياة والموت، أي باستطاعته أن يسير في درب الخلاص الأبدي وأن يرفض الله وتدبيره الخلاصي. وتولد الخطيئة أولا في قلب الإنسان وضميره.  قال السيد المسيح: "مِن فيض القلب يتكلم اللسان. فالإنسان الطيّب من كنزه الطيّب يخرج الطيب. والإنسان الخبيث من كنزه الخبيث يخرج الخبيث" (متى 12/34-35). فما من خطيئة إلا وتتحقق أولا في الضمير. قال يوحنا الحبيب: "إذا قلنا إننا بلا خطيئة ضللنا أنفسنا ولم يكن الحق فينا. وإذا اعترفنا بخطايانا فإنه أمين بار يغفر لنا خطايانا ويُطهّرنا من كل إثم. وإذا قلنا إننا لم نخطأ، جعلناه كاذبا ولم تكن كلمته فينا" (1 يو 1/8-10). لولا الخطيئة لما جاء السيد المسيح ليخلص الإنسان منها. فقد جاء ليدعو الخطأة إلى التوبة. 

خلاصة القول فإن الخطيئة، في معناها العميق هي رفض الله ومحبته وحنانه والإنحراف عن طريق الخلاص الأبدي الذي حققه السيد المسيح بتجسده والآمه وموته وقيامته. فالله خلق الإنسان ودعاه إلى الحياة الأبدية. والإنسان، في ختام حياته على الأرض، ينال الخلاص الأبدي أو الهلاك الأبدي، نتيجة لمواقفه من الله الذي أحبه وخلقه وأراد له الخلاص الأبدي. 

2 – وفي  الإسلام، 
فإن الخطايا من أهم العوامل في شقاء الإنسان، وهي محرمة لأنها ضارة بالفرد في صحته وعقله وعمله، وضارة كذلك بالمجتمع، فهي تجعله منقسما على نفسه، عرضة للقلاقل والثورات والفتن (الخطايا في الإسلام. تأليف عفيف عبد الفتاح طبّارة 1976 دار العلم للملايين صفحة 16). والخطيئة ليست ضد الله بل ضد الشريعة التي سنها الله،  لأن الله كائن متعال لا تمسه الخطيئة ولا ينال منه شر. ولذلك "فإن الله لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، ولكن الله حذر من المعصية لما فيها من أضرار بفاعلها والمجتمع ورغّب في الطاعات لما فيها من خير لصانعها وللغير" (صفحة 16)". فالخطيئة هي مخالفة خارجية للتشريع القرآني. فهو الذي يحكم على أعمال الإنسان. والخطايا في الإسلام تنقسم إلى كبائر وصغائر. والكبائر هي كل ما نهى الله عنه أو ما نص القران على تحريمه. ويذكر الإمام الحافظ في كتابه  "كتاب الكبائر" سبعين من الكبائر والمحرمات منها: ترك الصلاة ومنع الزكاة والزنا وعمل قوم لوط، والكذب والسرقة، وتشبه المرأة بالرجال وتشبه الرجال بالمرأة والنميمة  والمكر والخديعة ...الخ

أما الصغائر من الذنوب فهي، بحسب ما جاء في كتاب (الخطايا في الإسلام) المذكور آنفا: "الذنوب التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، وهي مثلا  في خطايا الجنس كل ما هو دون الزنا كالقبلة، والغمزة، والنظرة" (صفحة 13).

475
في حديث ودي مع لأصدقائنا المسلمين، نتطرّق مرارا إلى أمور الدين وإلى إيماننا بأن المسيح صلب ومات وقام في اليوم الثالث، بينما هم لا يؤمنون بذلك. فهل لك أن  تعطيني البراهين المسيحية على صلب المسيح؟

أولا - إن الآم المسيح وموته وقيامته هي أحداث تاريخية وقعت في مكان وزمان معروفين في عهد الإمبراطورية الرومانية، وفي ظروف سياسية خاصة بفلسطين وبالشعب اليهودي الذي كان يرزح تحت الإحتلال الروماني، وعلى يد حكّام مدنيين ودينيين معروفين. وقد شاهد الآمه ألوف من اليهود من المحبين والمبغضين. وشهد لها مئات من المحبين الذين  شاهدوه قائما من بين الأموات ممجدا، وبشروا بقيامته ووصلت إلينا البشرى وكتبوها في ما نسميه كتب العهد الجديد من الكتاب المقدس. 

أما اليهود عامة فلا يؤمنون بالمسيح، وكانوا منذ نشأة الكنيسة ألد أعداء  المسيحيين. ولكنهم مع ذلك يعترفون بالأحداث التاريخية وبالحكم على يسوع بالموت صلبا وبتنفيذ الحكم فيه. قالوا في التلمود: "لقد صُلِب يسوع قبل الفصح بيوم واحد... إنه ساحر قصد أن يخدع إسرائيل ويضلّه". 

فمن ينكر الآم المسيح وموته على الصليب ينكر حدثا تاريخيا أكيدا، وعليه أن يقدم براهين تاريخية مناقضة للبراهين التاريخية التي تؤكد صلبه وموته وقيامته. وهذا غير متوفر.

ثانيا - بالإضافة إلى ذلك فإن الآم المسيح وموته على الصليب وقيامته المجيدة هي أيضا موضوع إيمان المسيحيين. وهذا يعود بنا إلى الكتاب المقدس، في عهديه، القديم والجديد:

1 –   نبوءات العهد القديم تحققت بالآم يسوع وموته وقيامته. فقد جاء في كتابات الأنبياء الذين أوحى الله اليهم نبوءات كثيرة تتحدث عن الآم المسيح وموته وصلبه، نذكر منها:

أ – بيعه بثلاثين من الفضة، وشراء حقل الفخاري بثمنه، وطعنه بحربة (زك 11/12-13،  12/10).

ب – التنكيل به قبل أن يصلب (مز 22/16/17). الجند يتقاسمون ثيابه بالقرعة (مز 22/18). "إلهي إلهي لماذا تركتني (مز 22/1). الطعن بالحربة وعظامه لا تنكسر (مز 34/20).

ج – يُثخن بالجراح ويتقبل أوجاعه بصمت ويُجلَد أثناء محاكمته ويُبصق على وجهه، ويُصلب  بين لصين  (أش 53/597 ، 50/6).

فحين نقرأ العهد الجديد نرى أن كل نبوءات العهد القديم قد تحققت فيه.

2 – تنبأ المسيح  مرارا عن موته  صلبا وقيامته  في اليوم الثالث. ذكر يوحنا الإنجيلي أن يسوع، بعدما طرد الباعة من الهيكل، قال لليهود في جداله معهم: 

"أُنقُضوا هذا الهيكل أقمه في ثلاثة أيام. فقال اليهود: بُني هذا الهيكل في ست وأربعين سنة، أوأنت تقيمه في ثلاثة أيام؟ أما هو فكان يعني هيكل جسده. فلما قام من بين الأموات، تذكّر تلاميذه أنه قال ذلك" (يو 2/19-22).

وبعد أن أعلن بطرس بوحي من الآب السماوي أن يسوع هو ابن الله الحي  بدأ يسوع من ذلك الحين يُظهر لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويعاني الآما شديدة من الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة ويُقتل ويقوم في اليوم الثالث. عندما قال له بطرس "حاشَ لك يا رب، لن يصيبك هذا، قال لبطرس: "إن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار الناس (متى 16/21-23). ففي فكر الله أن يُقدّم المسيح ذاته كفارة  وذبيحة فداء لخلاص العالم.

قال متى أيضا: "وأوشك يسوع أن يصعد إلى أورشليم، فانفرد بالإثني عشر، وقال لهم في الطريق: ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فابن الإنسان يُسلم إلى عظماء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الوثنيين، ليسخروا منه ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم" (متى 20/17-19). وكذلك في مرقس 10/32-34، وفي لوقا 18/31-33 ذلك أن عمله الخلاصي يستلزم موته على الصليب لكي يخلصنا. وكما قال يوحنا في سفر الرؤيا أن المسيح: "هو الشاهد الأمين والبكر من بين الأموات، وسيد ملوك الأرض ... أحبنا فحلّنا من خطايانا بدمه، وجعل منا مملكة من الكهنة لإلهه وأبيه، له المجد أبد الدهور. آمين." (رؤ 1/5 – 6).

وقد بيّن يسوع المعنى الذي أعطاه لالآمه وصلبه وموته. قدم ذاته ضحية ليكفّر عن خطايا جميع البشر وينال للخاطئين الخلاص ويعيد الإتحاد بين الله والبشر. موت المسيح هو حقا حدث الخلاص، وبتعبير آخر فإن المسيح قد أعاد الصداقة الحميمة بين الله والإنسان كما كانت في الفردوس قبل سقوط آدم وذلك ببذل حياته كلها على الصليب بملء حريته فداء عنا. فيسوع بموته غلب الموت والخطيئة والقوات الشيطانية. والصلب هو قبل كل شيء تنفيذ حكم الله على الخطيئة. 

ويذكر الإنجيليون اعتقال يسوع في بستان الجسمانية وحكم المجلس عليه ثم حكم بيلاطس بالصلب، وحمل يسوع الصليب وتسميره عليه وموته ودفنه وقيامته المجيدة، وظهوره لتلاميذه وأنه أراهم يديه وجنبه "ففرح التلاميذ لمشاهدتهم الرب" (يو 20/20). ثم ظهر لهم مرة أخرى وقال لتوما: "هاتِ إصبعك إلى هنا فانظر يَدَيّ، وهاتِ يدك فضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل كن مؤمنا" (يو 20/27). آثار الصلب ومكان المسامير بادية في جسمه. فالقيامة من بين الأموات هي برهان لا يُنقض على أن المصلوب هو يسوع المسيح. وقال السيد المسيح لتلاميذه بعد قيامته بعد أن فتح أذهانهم ليفهموا الكتب: "كُتِبَ أن المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وتُعلن باسمه التوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم، إبتداء من أورشليم" (لو 24/46-47).

3 – شهادة الرسل وكرازتهم بالمسيح المصلوب. أعلن جميع الرسل البشرى السعيدة بقيامة المسيح وأكّدوا أن قيامته هي جسدية ونفسية معا. فجسده لم يَرَ فسادا كبقية الأجساد، وحياته الجديدة والممجّدة تتجاوز آفاقنا البشرية وتحيّر العقول. فالمسيح الذي صُلب مساء الجمعة العظيمة هو إذن حي دائما أبدا، وقيامته هي تأكيد لخلاصنا ولقيامتنا في نهاية العالم .

أ - منذ إنطلاقة الرسل للتبشير بالمسيح، يوم العنصرة، ومنذ أول خطاب لبطرس، قال معلنا الحقيقة التاريخية التي يعرفها أهل أورشليم وكثيرون غيرهم وهي: "إن يسوع الناصري، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما تعلمون ... فقتلتموه إذ علقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت" (رسل 2/22-24). 

وذكر أيضا يوحنا  في سفر الرؤيا أن يسوع هو "البكر من بين الأموات" (رؤ 1/5)، أي أنه أول من قام من بين الأموات بعد أن مات. 
 
ب - بولس الرسول قال لأهل غلاطية: "معاذ الله أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح وفيه أصبح العالم مصلوبا عندي وأصبحت انا مصلوبا عند العالم." (غلا 6/14). وقال لأهل كولوسي أن يسوع: "حقق السلام بدم صليبه" (قو 1/20  وذكر لأهل فيلبي أن هناك كثيرا من الناس: "يسيرون سيرة أعداء صليب المسيح." (فل 3/18). وقال لأهل كورنتس: "إني لم أشأ أن أعرف شيئا، وأنا بينكم، غير يسوع المسيح، بل يسوع المسيح المصلوب" (1 كو 2/2). وقال لهم أيضا: 

"إن لغة الصليب حماقة عند الذين يسلكون سبيل الهلاك، وأما عند الذين يسلكون سبيل الخلاص، أي عندنا، فهي قدرة الله ... فإننا نبشر بمسيح مصلوب، عثار لليهود وحماقة للوثنيين، وأما للمدعوين، يهودا كانوا أم يونانيين، فهو مسيح، قدرة الله وحكمة الله، لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله أوفر قوة من الناس"( 1كو 1/18-25).

4 - وقد أصبح الصليب أداة تعارُف بين المسيحيين منذ إنطلاقة المسيحية حين كانوا عرضة للاضطهاد. ولم يستحيوا بصليب ربنا يسوع المسيح، وقد نقشوه على أضرحة الموتى وفي السراديب التي كانوا يحتمون فيها خوفا من المضطهِدين.  

أما أن يرفض المسلمون الإيمان بقيامة المسيح فهو أمر منطقي بالنسبة لهم، لأنهم لا يؤمنون بصلبه وموته.

476
سألت أحد أصدقائي المسلمين: لماذا يرفض المسلمون الصليب ويعتبرونه ذلا وعارا؟ فتلعثم في الجواب. فهل لك أن تزيدني معرفة ونورا؟

1 - المسلمون يرفضون الصليب  والفداء ويرون أنه من المحال أن يكون  يسوع رسول الله قد قَبِلَ الموت على الصليب بملء إرادته، ومن المحال أن يقضي الله عليه بأيدي اليهود الأثمة. وهم يستندون إلى الآية 157 من سورة النساء:

"وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّهَ  لهم..." 

إلا أنه وردت أيضا آيتان في القرآن تؤكدان أن المسيح مات وهما: 

أ -  الآية 55 من سورة آل عمران:

"يا عيسى اني متوفيك، ورافعك إلىّ، ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"  

وهذه الآية تبين بوضوح أن الله رفعه إليه بعد أن توفاه. ولكن علماء المسلمين اختلفوا في تفسير هذا النص. فمنهم من يقول أن الوفاة هنا لا تعني الموت، بينما يقول غيرهم أنها تعني الموت وأن المسيح مات فعلا موتا طبيعيا لكنه لم يمت مصلوبا.

ب – والآية 33 من سورة مريم: 

"والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا" .

ولكن هل مات المسيح مصلوبا؟ 
نجيب نحن المسيحيين: نعم. مات المسيح مصلوبا وهذا ما يؤكده التاريخ  وما تؤكده كتبنا المقدسة. قد يعتبر غير المسيحيين أن الصلب والصليب مذلة ومهانة وخزي وعار. أما عندنا نحن المسيحيين فهو سر اعتزاز وعنوان افتخار لأن المسيح مات على الصليب من أجل خلاصنا وقام من القبر حيا ممجدا وفتح أمامنا طريق الفردوس وأعطى معنى لحياتنا والآمها. هذا هو إيماننا عبر العصور منذ انطلاقة المسيحية قبل ألفي سنة. 

ومن جهة أخرى، فان إيمان المسيحيين بصلب المسيح هو بحد ذاته برهان قاطع على صحة الكتاب المقدس وسلامته من التحريف. لأنه لو حُرف الإنجيل لما بقي للصلب والصليب من ذكر لأن كل الناس، خصوصا في الأجيال المسيحية الأولى، كانوا يعتبرونة سببا لرفضهم المسيحية وسببا لاضطهاد المسيحيين. 

2 - إن الله قَبِل ندامة آدم الذي اتضح له جسامة خطيئته وهي خطيئة تمرد وكبرياء. إنما بقي عليه التعويض والتكفير عن خطيئته خصوصا أن نتائجها تمس العالم كله. فآدم كان غنيا بما جاد به الله عليه من مواهب روحية وإنسانية، ولكنه بخطيئته خسر هذا الغنى الروحي والإنساني وحل محله الفقر الروحي والجهل والضعف أمام الخطيئة، وبالتالي من البديهي أن ترث عنه سلالته فقره وضعفه وجهله. ولما كان الإنسان يفتقر إلى القدرة على التكفير عن خطيئته. فكان لا بد  لشخص له الصفات البشرية والألوهية في آن واحد ليكون فعلا الوسيط بين الله والبشر. ويسوع هو الإله الحقيقي والإنسان الحقيقي الذي قدم نفسه ضحية ليحقق المصالحة والفداء لكل البشرية من آدم وحواء وحتى آخر إنسان يولد على الأرض، لأن التكفير الذي صنعه المسيح، بقبوله الموت على الصليب، كان فائضا شمل جميع البشر وجميع خطاياهم. فالخطأة  الذين ماتوا قبل المسيح وهم مصرون على خطاياهم قد هلكوا، وأما الصالحون منهم الذين اتقوا الله وعملوا الصالحات فقد ماتوا على رجاء الخلاص. وهذا ما يفسر إيماننا  بنزول المسيح إلى مقر الموتى القديسين الذين كانوا ينتظرون مجيئه.

3 - عقيدة الفداء بحسب المفهوم المسيحي غائبة كليا عن الإسلام.  فالخلاص، في نظر المسلمين، بدأ مع العفو عن آدم فلم يعد أمام الإنسان سوى أن يتبع شرائع الله. والمسلمون يؤمنون أن الخلاص يتم بالكتاب، أي بالقرآن. أما نحن المسيحيين فنؤمن، إستنادا إلى كتبنا المقدسة، أن الخلاص تم بيسوع المسيح كلمة الله المتجسد الذي ولد من مريم البتول. وقد صنعه بالآمه  وصلبه وموته وقيامته. 

477
هل يؤمن المسلمون بعودة المسيح  في نهاية العالم؟

1 – يؤمن المسلمون عموما بأن المسيح سيعود ليثبّت المؤمنين في إيمانهم ويكشف للجميع أن الدين عند الله الإسلام. ولكن لن يبقى المسيح إلا زمنا قصيرا ثم يموت ويُدفن حسب الشريعة الإسلامية. ورجوعه هذا هو علامة من علامات  نهاية العالم إلا أن هذه النهاية تبقى فقط في علم الله. وبعد أن يُبعث الموتى من قبورهم سيقفون أمام الله الذي سيدين الشعوب كلها في حضور الأنبياء والرسل، فيدخل الصالحون إلى السماء ويذهب الأشرار إلى جهنم. وأما الذين آمنوا ولم يكن سلوكهم محمودا فسوف يسمح الله لبعض الأنبياء ولا سيما لمحمد أن يشفعوا لخلاصهم، وهكذا لن يمكثوا في جهنم إلى الأبد.

2 – أما بالنسبة للمسيحيين، فالمسيح سيعود في نهاية العالم في مجده بعد حدوث اضطرابات كونية، ولا يعرف تلك الساعة إلا الله وحده. ويسبق الدينونة العامة  قيامة جميع الاموات أي أنهم سيعودون إلى الحياة وسيقفون أمام عرش المسيح. فيفصل الصالحين عن الإشرار ويكافىء الصالحين ويدخلهم إلى النعيم حيث السعادة الخالدة ويعاقب الأشرار فيذهبون إلى جهنم حيث العذابات الأبدية المعدة لإبليس وملائكته.

الدّيان هو المسيح لأنه الله، بينما  المسلمون يرفضون ذلك لأنهم يعتبرون المسيح نبيا فقط.

478
يحكم المسلمون علينا نحن المسيحيين  العرب من خلال الغرب، وينسبون إلينا مواقفه السياسية من مشكلة فلسطين. ولا أرى مبررا لموقفهم هذا. فما رأيك؟

1 - الدين الإسلامي هو دين ودولة. وعِبر التاريخ الإسلامي لم تحدث قط أية محاولة لفصل الدين عن الدولة. وبقي فصل الدين عن الدولة رأيا شخصيا عند بعض المسلمين المثقفين الذين يعتقدون أن محمدا لم يكوّن دولة. قالوا إن الله أراد للإسلام أن يكون دينا، ولكن الناس أرادوا له أن يكون سياسة. والدين إنساني وشامل بينما السياسة فهي قاصرة، متقلّبه محدودة ومؤقتة. ولم يؤثر إطلاقا رأيهم هذا على المجتمعات الإسلامية. 

في نظر المسلمين، الدين والدولة هما من صنع الله، ولذلك لا يفرقون بينهما. فالله أرسل الإسلام دينا كاملا يحوي الوحي كاملا منظِّما حياة الإنسان في جميع المجالات الروحية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية. هذه النقطة العقائدية لدى عامة المسلمين تشرح لنا لماذا  ينظر العالم الإسلامي إلى الدين المسيحي عِبر الغرب وأمريكا، فيربطون سياسة الغرب، مثلا بالنسبة للقضية الفلسطينية، بالدين المسيحي وبالتالي يحترسون من المسيحيين سواء كانوا غربيين أم شرقيين. فموقفهم السلبي هو ثمرة موقف ديني حيث الدين والسياسة في "خُرج" واحد، وثمرة جهل للواقع التاريخي والإجتماعي والمصيري للعرب المسيحيين الذين يكوّنون جزءا لا يجزأ من أمتهم العربية. نضيف إلى ذلك أن تأسيس إسرائيل سمّم الأجواء بين المسلمين والمسيحيين. نحن لا نبرّر الجفاء المتزايد الذي نلحظة في الشارع الإسلامي ولا نبرر رفضه المتنامي للمواطن المسيحي. ولكن هذه هي الخلفية لربط المسلمين السياسة الغربية بالمواطنين المسيحيين.

أما واقع الدين المسيحي في الغرب وأمريكا، فهو يختلف تماما عن واقع الدين الإسلامي، إذ في الغرب وفي أمريكا هناك فصل تام بين الدين والدولة، لا بل إضطهدت الدولة الكنيسة في الدول الغربية إضطهادات شديدة أراقت دماء عشرات الألوف من الشهداء، ويكفي أن نُذكّر بشهداء الثورة الفرنسية، والنازية والشيوعية. ولا تزال الكنيسة تعاني الأمرين من الدول الغربية التي لم تعد تكترث للدين والأخلاق بحجة الحرية. نضيف إلى ذلك وجود اتجاهات يمينية وأصولية دينية قوية تؤثر في القرار السياسي لدى بعض الدول الغربية، كما أن اللوبي اليهودي في أمريكا يلعب دورا كبيرا في تحديد سياسة الولايات المتحدة.

2 - نحن المسيحيين العرب مواطنون نعيش مع إخواننا المسلمين حياتنا الوطنية والإجتماعية والإقتصادية، يدا واحدة وقلبا واحدا. وفي الجامعات ووسائل النقل والوظائف العامة والخاصة تجد المواطن الأردني المسيحي إلى جانب المواطن الأردني المسلم. العائلات المسيحية والإسلامية  ترتبط بعرى الصداقة والجوار. فعلينا أن نستثمر في وسائل الإعلام هذا الواقع المعاش لكي  نُطلِع الشارع الأردني على وجوب الأخذ بعين الاعتبار أن الكنيسة في الغرب منفصلة كليا عن السياسة وعن السلطة المدنية، وأن الكنيسة في الشرق ليست غطاء للإستثمار والاستعمار والاستعباد، ولا علاقة لها إطلاقا بالشأن السياسي الغربي. وأن الكنيسة سواء كانت في الشرق أم في الغرب، فهي تطالب بإلحاح أن تعيش شعوب العالم بأسره في روح التضامن الأخوي والمحبة واحترام حرية المواطنين مهما كان انتماؤهم الديني والعرقي، ومها كان مستواهم الثقافي. 

3 –  أعتقد جازما أن المواطنين المسيحيين والمسلمين مدعوون إلى مزيد من التعارف وإلى خلق جو إنساني من التعايش على جميع المستويات، وإلى العمل على توعية الرأي الإسلامي، وخصوصا الشارع الأردني، على التمييز القائم في الغرب وفي أمريكا ما بين الدين والدولة. فعلى سبيل المثال، سياسة الغرب وأمريكا من القضية الفلسطينية لا تعكس اطلاقا موقف المسيحيين من القضية. ويكفي أن نشير إلى موقف الفاتيكان المشرّف، المدافع عن الحق والمطالِب للفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم وحقهم الطبيعي في دولتهم المستقلة. هكذا يكتشف الشارع الأردني وجه الكنيسة الحقيقي. والكنيسة لا تستطيع اللجوء إلى القوة والعنف لتفرض إرادتها على السياسة الغربية التي لا تحسب للكنيسة حسابا على الإطلاق. كثير من المواطنين، المسيحيين والمسلمين، مطّلعون على هذه الحقائق ولكنهم يفتقرون إلى الجرأة للقيام بدور فعال لتوعية الشارع الأردني على الفرق الشاسع القائم في الغرب بين الدين المسيحي  والدولة. 

479
ما هي  البرامج السياسية الدينية للتيارات الإسلامية الأصولية؟

للتيارات الدينية الأصولية في الدول الإسلامية عدة صيغ من الشعارات السياسية والدينية. وشعاراتهم في الواقع، غير مدروسة علميا، ولا تأخذ بعين الإعتبار الأزمات الإقتصادية الخانقة، ولا تسعى إلى تقديم الحلول العلمية، وتتجاهل حضارات اليوم وتطور المجتمعات وتنوعها. وتلجأ إلى أسلوب الدعاية الذي يعتمد على التأثير من خلال التكرار، وتسعى إلى التغلغل في المجتمع مهما كان الثمن. 

وعلى وجه العموم، فإن التيارات الأصولية تريد ما يلي:

 1 –  أن تكون هي الوحيدة المسيطرة وصاحبة القرار في الساحة السياسية  والدينية. وتريد حكما دينيا لإقامة النظام الإسلامي حيث يكون الحكم لله وليس للبشر. فهي تريد دولة إسلامية. ولكن ما شكل وطبيعة هذه الدولة؟ هل هي دولة يرأسها فرد واحد، وتمنحه سلطة مطلقة، وعصمة وقداسة دينية أم تقوم على نظام دقيق ومؤسسات محددة لا يكون الحاكم فيها إلا جزءا هاما من أداة الحكم،  ولا يكون بديلا للنظام؟ وهل يكون الحكم حكرا على علماء الدين أم يجوز لأي مسلم صالح أن يكون حاكما، خاصة مع قيام المؤسسات في نظام الدولة الحديثة وتَفرّع التخصصات وتنوّعها في شتى العلوم؟ وهل تؤدي الحكومة حسابا عن حكمها أمام الشعب أم أن مسؤوليتها لا تكون إلا أمام الله في الحياة والآخرة؟

2 – إن تطبق الشريعة الإسلامية. وهي لا تقبل بأي حل لأية مشكلة إلا الإسلام، سواء كانت المشكلة مجتمعية أو وطنية أو دولية. وتعتبر أن الجهاد فريضة لمواجهة أعداء التيار من حكام ومفكرين، ولضم دار الحرب إلى دار الإسلام. 

3 – أن تفرض الجزية على المواطن غير المسلم، بحجة أن فرض الجزية واجب لكي يُعتبر المجتمع  مسلما وفقا للشريعة الإسلامية وليس مجتمعا  كافرا بالله.

4 – وأخيرا فإنها تريد أن لا يكون للمسلم أية جنسية إلا الإسلام، وأن يكون ولاؤه لجماعة المسلمين وليس للوطن.

 

480
اكتشفت أن أحد أصدقائي المسلمين يحبذ فصل الدين عن الدولة. وقال لي أن كثيرين من المسلمين الأردنيين يحبذون ذلك ولكنهم يفتقرون إلى الجرأة للمجاهرة برأيهم، فما رأيك بهذا؟

لك صديق يحبذ فصل الدين عن الدولة، ولي أيضا أصدقاء كثيرون يحبذون ما يحبذه صديقك لأنهم:

1 - يرون عموما ما في السياسة من غياب الأخلاق مما يؤدي بها إلى استباحة العنف والظلم وهدر كرامة المواطنين وهضم الكثير من حقوقهم للبلوغ إلى الغاية التي ينشدونها. هذا هو الواقع المعاش في السياسة العالمية وفي السياسة العربية والشرق أوسطية. 

إن السلطة المدنية في الدول الإسلامية عندما تلبس ثوب الدين والتحزب تستغلّ لحسابها كل ما يتصل بالدين والشريعة، مما يُذيب الكثير من القيم الإسلامية السامية. والأمثلة في التاريخ كثيرة جدا. وعلى سبيل المثال، ففي تاريخ الخلافة، أصبح الخليفة خليفة لله وليس خليفة للمسلمين. وصار معصوما في فعله وقوله واستبداده. والويل كل الويل لمن ينتقده، ولا يبرز صفاته ومزاياه وعدالته وحكمته وتقواه.  ولا يزال هذا النهج سائدا في الدول العربية اليوم. بالإضافة إلى ذلك هناك دائما عدد من الفقهاء، عبر التاريخ وفي واقعنا المعاش، صاروا فقهاء السلطة يبررون مظالمها وأخطاءها ويُلبسونها ثوبا دينيا والدين منها براء. وقد أثر ذلك كثيرا ولا يزال يؤثر على الفقه الإسلامي وعلى جماعة المسلمين. 

2 – يرون التناقضات الصارخة في الفتاوي التي تصدر لدعم المواقف السياسية. وأشاروا بنوع خاص، إلى التناقضات  في الفتاوي التي صدرت في السعودية والعراق والدول الإسلامية إبان حرب الخليج لتبرير هذا الموقف أو ذاك من الحرب وتلبيس المواقف السياسية ثوبا دينيا ... والدين من المظالم السياسية براء. 

3 – إنهم  يرون أن الخلط بين الدين والسياسة، على المستوى الشعبي، فرّق المسلمين فِرَقا. وكل فريق يلجأ إلى الدين لتبرير مواقفه ويحتمي بفتاوي فقهائه. فقامت خصومات شديدة، ظاهرها ديني وباطنها سياسي، وهدفها الطموح إلى السلطة. وقد أثر بطش السلطة المدنية الملتحفة بالدين، على أخلاقيات المسلمين وأبعَدَتهم، على وجه العموم، عن الإهتمام بالخير العام، وأخذ الكثيرون من ذوي الكفاءات يهتمون فقط بمصالحهم وشؤونهم الخاصة. وأصبح  معروفا عنهم لدى المجتمع أنهم يقولون  في السر غير ما يذيعونه في العلن، خوفا من ملاحقة السلطة، وأن ظاهرهم غير باطنهم.  

4 – إنهم يتمنون أن يروا شيوخهم يهتمون فقط بأمور الدين للدين وهداية الناس إلى الله والأخلاق الحميدة

5 – يعتبرون أن نظام الحكم في البلاد الإسلامية ليس من صميم الدين الإسلامي. فالقرآن الكريم تحدث عن القيم العامة التي يمكن للسياسة أن تقوم عليها، وعلى سبيل المثال: العدل والشورى. فنظام الحكم في الإسلام ليس من أصول الدين أو الشريعة. والسياسة ليست دينا والدين ليس سياسة. ولذلك حفاظا على سلامة الدين وكرامته لا بد من فصل الدين عن السياسة، وفصل رجالها وأهدافها عن رجال الدين وأهدافهم السماوية. ويقولون أخيرا إنه لو كان هناك فصل بين الدين والسياسة في الدول الإسلامية لكان وضعها السياسي أفضل مما هي عليه اليوم، ولما أريقت دماء عشرات الألوف من الأبرياء في ما يسمى بالربيع العربي.
 
إن البشرية كلها عانت ولا تزال دول كثيرة تعاني من الحكم الذي يستند إلى سلطة الدين كي يضفي على الحكام عصمة وحصانة فيطابق الحكام  بين إرادتهم وإرادة الله. فلا بد من حصر السياسة  في مجال السياسة كي تجري الأمور السياسية في نطاق الصواب والخطأ، وتستهدف المصلحة العامة، وتعفي الدين من أخطاء السياسة وأخطاء رجالها. إن قرارات السلطة السياسية وأعمالها وأقوالها إما أن تكون صائبه وإما ان تكون خاطئة. وكذلك الحال بالنسبة لآراء وقرارات أحزاب المعارضة. قال أبو بكر الصديق عندما وُلّي الخلافة: "وُلّيت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني". وقال عمر بن الخطاب: "إن رأيتم فيّ إعوجاجا فقوّموني" وهذا يعني أنهما وضعا الأساس للحكم الإسلامي بأن يكون صادرا عن الناس، وأن  على الناس مراقبة الحاكم وتقويمه.

وبهذا الشأن، فإني اختصر خبرة الكنيسة الكاثوليكية المنفصلة في الغرب انفصالا كليا عن الدولة كما يلي: 

1 - لقد ارتبطت الكنيسة بالدولة مئات السنين. وكانت حصيلة هذا الإرتباط بعض الإيجابيات وكثير من السلبيات. ذكر التاريخ الكثير مما ارتكبه الحكام وذوو السلطة من ظلم وانحرافات وعنف، تحت شعار الدين، كما ذكر الكثير من سيئات رجال السياسة ورجال الدين الذين كانوا يتظاهرون بثوب ديني، والدين منهم براء. أما بعد إنفصال الكنيسة عن الدولة وعن رجال السياسة ومصالحهم الدنيوية، فقد اكتسبت الكنيسة كامل حريتها واستقلاليتها. وتفرغت لأمور الدين والإيمان والذود عن الأخلاق القويمة، وانتهت رقابة الدولة عليها، ولم تعد مرتبطة معها بأية مصالح سياسية واقتصادية، مما أكسبها جرأة على محاربة الفساد والإباحية والذود عن الآداب العامة والأخلاق. وما أكثر الأمثال بهذا الشأن، ولكني أكتفي بأن أشير هنا إلى أن  قداسة البابا في زياراته لمختلف دول العالم يتطرق دائما في خطاباته إلى ما في تلك الدول من جنوح عن الآداب والأخلاق وانجراف إلى الإباحية البغيضة. كذلك فإن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني هو الوحيد بين رؤساء  دول العالم في الشرق والغرب، الذي قال لأمريكا صراحة وعلنا أن الحرب على العراق لا مبرر لها وأن الطرق السلمية لحل الخلافات هي الأجدى.

2 - أما على مستوى الشعب المسيحي في أوروبا، فإن فصل الدين عن الدولة أكسبه التخلص من كابوس الدولة والمجتمع، فاسترجع كامل حريته في انتمائه الديني، وأصبح هذا الانتماء أمرا يخص الفرد دون سواه. صحيح أن كثيرين من أبناء الكنيسة فتروا وأصبحوا مسيحيين بالاسم، وأن غيرهم  حادوا عن الدين صراحة، ولكن هذا الإنعتاق من الدولة والضغط الإجتماعي أفرز أيضا الفئة الصادقة من المسيحيين الذين يعيشون إيمانهم بكامل إختيارهم، ويقومون بواجباتهم الدينية بكامل حريتهم، بكل ثبات وبدون تزمت، وينظمون تجمعاتهم  الدينية ومؤسساتهم الخيرية على أفضل وجه، ويقومون بأعمالهم الخيرية في كل أنحاء العالم، من دون تمييز بين مسيحي وغير مسيحي، ويسارعون قبل غيرهم إلى نجدة المصابين بأية كارثة من الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية. إنهم يشهدون لإيمانهم شهادة حسنة ويبرزون الوجه الحقيقي للمسيحية.

وختاما، وانطلاقا من خبرة الكنيسة هذه، فإني أقول: إن انفصال الدين عن الدولة في العالم الإسلامي، سوف يمر بنفس الخبرة. فالإنفصال يعيد للمواطنين حريتهم الدينية كاملة، فيتحررون من سلطة الدولة وضغط المجتمع. صحيح أن عدد المصلين في بيوت العبادة سيتناقص تدريجيا. ولكن لن يهتز الدين من أجل ذلك. بل سيستعيد بهاءه الحقيقي ورسالته السماوية  ليقود المؤمن المسلم إلى الله. وعندئذ سيكون المسلمون المتمسكون بإيمانهم شهودا حقيقيين لدينهم وسيبرز، من خلالهم، وجه الدين الأصيل.

481
يقولون "لا إكراه في الدين" ولكن ما معنى التسجيل القسري للدين؟ ولماذا يرفضون رجوع المسيحي إلى دينه؟

أعتقد جازما أن التسجيل القسري للدين مناف للقرآن الكريم الذي أكد على حرّية العقيدة: "لا إكراه في الدين". التسجيل القسري للدين والحجر على المواطن يدمران  كيانه القانوني وأسرته وحاضره ومستقبله.

كثيرون ممّن يغيّرون دينهم، لا يغيّرونه لاقتناع في الدين بل لعدد من الأغراض. وعندما يعود المسيحي إلى مسيحيته، يُرفَض له تغيير إشارة انتمائه الديني في دفتر العائلة والبطاقة الشخصية، ويبقى في عِرف القانون مسلما، ويكون في حكم المحجور عليه. كما يُعتبر أولاده مسلمين شاؤوا أم أبوا. يذكر التاريخ أن بعض النصارى أسلموا طمعا في المال وكان هذا مما دعا أصحاب ابي جعفر بن أبي موسى الشريف الحنبلي إلى القول: "هذا إسلام الرشا لا إسلام القناعة". وكان ذلك في عهد خلافة المقتدي 1075-1094 ميلادية.

هذا التسجيل القسري هو إكراه بغيض في الدين:

1 -  يخالف مخالفة صريحة أبسط مباديء الحقوق الإنسانية، والمادة 5، د7 من الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري  الملزمة للأردن (الجريدة الرسمية للملكة الاردنية الهاشمية، عدد 4764  صفحة 2220) 

2 - ويخالف المواد 6، و7، و14 من دستور المملكة. 

3 - وهو كذلك مخالفة صريحة لواقع حال المعنيين بالأمر، ويقضي على الطمأنينة التي يجب أن توفرها الدولة للمواطن وفقا للبند الثاني من المادة 6 من الدستور. 

إن المشكلة الكبرى في الأردن هي في المستوى الإيديولوجي الإسلامي الذي يفسر النصوص الإسلامية تفسيرا متطرفا. وبهذا الصدد نقول بأن الدولة وحدها، وليست المراجع المذهبية المتطرفة، كفيلة بتحقيق مفهوم المواطنة للجميع، سواء أكان المواطنون مسيحيين أم مسلمين. وهي وحدها المسؤولة عن تطبيق دستورنا الأردني الذي يعزز التعددية البناءة ويخلق مساواة حقيقية بين المواطنين المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات.

نحن بحاجة لأن ننتقل من مُجتمع يحكمه التطرف بحجة الدين، إلى مجتمع يحكمه الدستور وإلى فقه الدستور،  للتأكيد على الوحدة الوطنية. نحن بحاجة لأن نُبرز العناصر الدينية البنّاءة في الإسلام والمسيحية، التي تجمع ولا تفرّق، وتدعم مسيرتنا الديمقراطية التي نعتز بها. فنحن بحاجة إلى نمط من التفكير العقلاني الواعي الجريء، وإلى المساواة بين المواطنين مهما اختلفوا دينا. فالدين لله والوطن للجميع.

كذلك لا بد من الإشارة إلى أن الإنتماء الديني هو من الأحوال الدينية وليس من الأحوال المدنية. فالمواطن الأردني هو مسلم وهو مسيحي. وفعليا، قد يكون أيضا بوذيا أو هنديا أو لادينيا ... الخ. ولذلك، في اعتقادنا الصميم، أن "حذف خانة الدين" من دفتر العائلة والبطاقة الشخصية – كما هو الحال في جواز السفر-  يوفّر على الحكومة وعلى المواطنين الكثير الكثير من المشاكل والهموم المذهبية، ويفتح المجال واسعا لتنفيذ الدستور الأردني في جميع أبعاده السمحاء.

نحن نأمل أن يتخذ  أصحاب القرار في أردننا الغالي قرارهم بحذف خانة الدين من دفتر العائلة والبطاقة الشخصية، فتعود الطمأنينة إلى الناس، ليعيشوا في وطنهم آمنين مستقرين، متمتّعين بكامل حقوقهم الوطنية.  

482
نحن نعيش  "الربيع العربي" والربيع منه براء. وفيه أخذ كثير من  المسلمين المتطرفين يشكّكون في انتمائنا المسيحي العربي، ويعتبروننا أناسا ذميين، علينا أن ندفع الجزية ونحن صاغرون. فما رأيك؟ 

إن السؤال يعود بنا إلى الماضي، كي نقرأ حاضرنا المسيحي، ونفكر في مستقبلنا:

1 – أولا بالنسبة إلى الماضي
فإن القبائل العربية المسيحية كانت تملأ بلادنا من قبل مجىء الإسلام بمئات السنين. وبعد مجىء الإسلام كان للمسيحيين حضور فاعل  في كل المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية، باستثناء الحضور السياسي. وعندما جاء الأتراك رزح تحت حكمهم المسلمون والمسيحيون، وذاقوا مُرّ العبودية. المسلم العربي استسلم للاتراك استسلاما كليا وكان يتعزى بكون أسياده الأتراك هم مسلمون. أما المسيحي العربي فكثيرا ما كان يتعرض للإضطهاد والعذاب والتفرقة لمجرد كونه مسيحيا. انتهت الحرب العالمية الأولى، فأصبح العرب، مسيحيون ومسلمون، مواطنين مُستَعمَرين في بلادهم، أبناء وطن واحد، ومصير واحد، من غير تفرقة بين مواطن مسلم ومواطن مسيحي. 

حمل  أجدادنا تطلعات أمتهم العربية وحملوا في قلوبهم تراث شعبنا، كما حملوا في ضميرهم انتماءهم الصادق إلى إيمانهم المسيحي. وقد ساهموا مساهمة فاعلة في بناء هذا الوطن الغالي، بنوع خاص في الثقافة والتربية والتعليم والإقتصاد، وفي الكثير من المجالات الإجتماعية،. وقد أخذ الدستور الأردني واقع اختلاف الدين بين المواطنين بعين الإعتبار، فضمن للمسيحيين محاكمهم الدينية للبت في مسائل الأحوال الشخصية بين المسيحيين، كما ضمنت القوانين والعرف والعادة مشاركة المسيحيين في الحكومات المتتابعة، وفي مجلسي النوّاب والأعيان. وللمسيحيين مؤسساتهم التربوية والخيرية الخاضعة لقوانين الدولة، شأنهم في ذلك شأن جميع المواطنين. فالمساهمة المسيحية في بناء الوطن مضمونة على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والفكرية والتربوية والخيرية. 

2 –  كيف نقرأ حاضرنا وكيف نفكر في مستقبلنا؟
نحن نعيش برئتين: واحدة مسيحية والأخرى وطنية، وعلينا واجب الإهتمام بهما والبقاء على الأمانة لهما.

أ -  من حيث الرئة المسيحية، فإن الثبات في الإيمان، هو المطلب الأول. وذلك يعني أن المسيحي يجب أن يكون مطّلعا على إيمانه، ثابتا فيه، منفتحا، مستعدا للخدمة مع جميع المواطنين في سبيل المصلحة العامة: الوطنية والمسيحية.

ولا يخفى على أحد أن المسيحي يجامل كثيرا، ولا يجرؤ على الكشف عن جراحه. نحن نعيش فترة تاريخية، لا تُجدي فيها المجاملات نفعا، فيجب أن نكون صريحين، وأن نكشف عن جراحنا وأن نطالب، في الوقت المناسب، بما يحق لنا كمواطنين أصيلين، أبناء هذه البلاد من قبل أن يأتي إليها الإسلام. مطلوب منا موقف صريح ، بنّاء ومتزن.

 نقرأ حاضرنا قراءة واقعية. أوطاننا العربية متعددة  الوجوه  والأعراق والأجناس. وعلينا أن نقرّ بأن الإنتماء الطائفي المسيحي في الشرق، كثيرا ما يتحكم بالتفكير الوطني. فنحن منقسمون إلى طوائف كثيرة، وقد وضع كثيرون من المسيحيين إنتماءهم الطائفي فوق كل إنتماء. ولا أبالغ في قولي بأن بعض المتزمّتين المسيحيين يضعون انتماءهم الطائفي فوق انتمائهم المسيحي. فأصبحوا في حقيقة الأمر غير قادرين على عيش مسيحيتهم في كل أبعادها المسيحية والوطنية والإجتماعية السامية. ولهذا السبب، ولأسباب كثيرة غيره، منذ سنوات كثيرة بدأ المعنى القانوني لكلمة "الطائفة" يأخذ معنى سلبيا جدا في المجتمع، بالرغم من أن العالم الإسلامي يعرّف علينا بأننا "مواطنون مسيحيون"، والعالم الغربي بأننا "مسيحيو الشرق". وبسبب هذا الإنغلاق الطائفي البغيض، باءت بالفشل جهود كثيرة لتوحيد كلمة المسيحيين للوقوف بفاعليه وشفافية، أمام التحديات الوطنية والإجتماعية والدينية الكثيرة التي أخذوا يتعرضون لها. 

حضورنا المسيحي الفاعل في أوطاننا لا يرتبط بانتمائنا الطائفي، بل بإيماننا المسيحي، وبنوعيته وعمقه وكثافته وأصالته وصدقه، وباتخاذ المبادرات الرّامية إلى توحيد كلمتنا لخدمة وطننا ووجودنا المسيحي في بلادنا المقدسة. التقوقع المسيحي في الإنتماء الطائفي يعرّض هويتنا الوطنية إلى الغربة والذوبان. وهذا يتطلب من المؤسسات المسيحية، التعليمية والخيرية، أن تسعى إلى توحيد صفوفها وتنظيمها تحت راية مسيحية وطنية واحدة، لكي تؤدي مزيدا من الخدمة الوطنية والإنسانية الشفافة. فنحن مطالبون بالعمل معا، بشتى الطرق والوسائل. ونحن، في السرّاء والضرّاء، نكون مسيحيين معا أو لا نكون. فقد حان الوقت كي ننظر معا إلى المستقبل بروح المسيح.

 ب - أما من حيث الرئة الوطنية، فالعالم الشرق أوسطي برمّته أخذ يؤمن بثورة إما على النظام وإما على القوانين الظالمة والمُغرضة التي اتخذها النظام. وفي بلدان عربية كثيرة التجأ المواطنون إلى العنف لتحقيق ثورتهم. أما في الأردن فلم يلجأ المواطنون إلى العنف والحمد لله، ولكنّ بذور الثورة أخذت تتأصل في عقول الكثيرين، في نظرتهم  إلى المستقبل وفي تخطيطهم له. 

المسيحي الأردني يدين العنف والفوضى. ولكنه لا يجرؤ على  قول كلمته في التشاريع التي تجرده من بعض حقوقه الإنسانية والوطنية، وفي الهجمة الخفية التي يتعرض لها صراحة في الشارع الإسلامي، وفي كتب الثقافة العامة وغيرها التي تُفرَض على الطالب المسيحي في المدارس والجامعات وتوجّه الطالب المسلم إلى رفض الآخر. 

نحن المسيحيين لا ننادي بالقضاء على حُكم قائم شرعا يحقق ما في استطاعته للخير العام، بل همّنا أن ندعم هذا الحكم، وأن نجعل من روح الثورة الذي أخذ يتغلغل في العقول، وسيلة للوقوف بوجه الظلم والفساد، وللعودة إلى الذات لتغيير ما في الذات الأردنية، المسيحية والمسلمة، من عيوب وسلبيات لأن كل ما يبدو من خير وشر في العالم ليس سوى مظهر من الخير أو الشر الكامن في داخل الناس. فنحن الأردنيين نحتاج إلى رجوع مستمر وصادق إلى الذات، في خِضمّ الصراعات السياسية التي تدور رحاها في الدول العربية، لكي نتعلّم من غيرنا، ونتحاشى العنف ونحقق الإيجابيات المرجوّة، ولا نبقى  نتباكى ومتقوقعين في عالم الوهم والأحلام. فالعنف يدمّر ولا يبني، ولا يحقق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المطلوبة. كذلك لا يغيب عن بالنا أن الوضع الثوري السائد في العالم العربي بنوع خاص، إنما هو بسبب الإستغلال الرأسمالي العربي والعالمي.  

وخلاصة القول: نحن أردنيون مسيحيون. هذا هو رصيدنا. فيجب أن نحقق الثورة أولا في داخل كياننا المسيحي  لكي نَعبُر من شاطىء التقوقع الطائفي القاتل إلى  بَرّ الأمان، أي إلى الروح المسيحي المُحيي، ومن شارع الإنتماء الطائفي إلى قلب بيتنا المسيحي الذي يضم جميع فئات المسيحيين، على مصلحة وطنية مسيحية واحدة، مهما اختلفوا في انتمائهم الطائفي وطقوسهم الليتورجية. ومن الشروط الأساسية للنجاح في بناء الوطن وتقدّمه وازدهاره، أن تكون إرادة المواطنين، مسلمين ومسيحيين، متضامنة  لتحقيق الأهداف الإنسانية والوطنية المرجوة كي يعيش المسيحيون والمسلمون، الفقراء والمسحوقون، بكرامتهم الإنسانية والوطنية.