المجموعة الخامسة - مريم العذراء

أضيف بتاريخ 07/25/2023
rania.kattan

المجموعة  الخامسة
 
مريم العذراء
 
 
361
ماذا يجب أن نفهم بعقيدة الحبل بلا دنس؟ لا أعرف كيف أشرح هذه العقيدة لطلابي في الصف السادس، إنهم بأسئلتهم يحرجونني !
 
1 - عقيدة الحبل بلا دنس تعني أن مريم العذراء التي حُبل بها كما يُحبل بكل إنسان، صانتها مسبقا نعمة المسيح الفدائية وحَفَظَتها منذ اللحظة الأولى من الحبل بها في بطن أمها حنة، من وصمة الخطيئة الأصلية، بحيث أن مريم بدأت حياتها، منذ اللحظة الأولى من الحبل بها خالية من الخطيئة، متسربلة بالنعمة المبررة. وهذا ما يعنيه أيضا سلام الملاك لها: "السلام أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك" (لو 1/28). فبما أنها ممتلئة نعمة فهي خالية من كل خطيئة. قدرة العلي ظللتها منذ اللحظة الأولى من الحبل بها. 
 
2 - أدركت الكنيسة على مر العصور أن مريم التي امتلأت من نعمة الله قد افتُديت منذ حُبل بها. آباء التقليد الشرقي يسمون والدة الاله "الكلية القداسة"، ويؤمنون بأنها عُصِمت من كل وصمة خطيئة لأن الروح القدس أبدعها خالية من العيوب والذنوب، وبقيت  طول حياتها بريئة بنعمة الله من كل خطيئة شخصية (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 493).
 
قال البابا بيوس التاسع سنة 1854 حين أعلن عقيدة الحبل بلا دنس:
8
"إن الطوباوية العذراء مريم كانت، منذ اللحظة الأولى للحبل بها، سالمة من كل لطخة من لطخات الخطيئة الأصلية، وذلك بنعمة من الله الكلي القدرة، نظرا إلى استحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري" (، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 491).
 
هذا ما نؤمن به. فالله حفظها من الخطيئة الأصلية كما حفظها بريئة من الخطيئة الفعلية وصانها من كل ميل إلى الشر. لقد تمتعت بكامل حريتها وتقبلت إرادة الله راضية. الكنيسة ترى في مريم كيف أن الإنسان يزداد كمالا ويسير في طريق السعادة عندما يقبل إرادة الله ويسير في هذه الحياة وفقا لتعاليمه. فمريم العذراء البريئة من الخطيئة هي المثال الأعلى للإنسان كما أراده الله. 
 
3 – عقيدة الحبل بلا دنس، مثل عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء، يتضمنها الكتاب المقدس على نحو غير مباشر  وبوجه استنتاجي استنادا إلى النظرة الإيمانية الشاملة لما ورد في الكتاب المقدس عن مريم ودورها في تاريخ الخلاص، واستنادا إلى إيمان الكنيسة على مدى القرون والأجيال. 
 
362
يسوع  أعلن مريم، وهو على الصليب، أمّا ليوحنا الحبيب ولم يعلنها أما لنا؟ فلماذا تعلم الكنيسة ان مريم هي امنا؟
 
1 - عَلَّمَت الكنيسة المقدسة وتُعلم عبر القرون والأجيال أن مريم العذراء هي أمنا. الأساس اللاهوتي لهذا التعليم هو أن السيد المسيح بتجسده أصبح أخا لكل إنسان، وأن كل إنسان يصبح بالعماد عضوا في جسد المسيح السري. وهذا يعني أن مريم لكونها أم يسوع هي في نفس الوقت أم  لجميع إخوة يسوع. وقد أعلن يسوع رسميا أمومتها الروحية وهو على الصليب عندما قال لها: "ايتها المرأة هذا ابنك" ثم قال للتلميذ: "هذه أمك" فاخذها إلى بيته من تلك الساعة" (يو 19/26-27). وقد علّمت الكنيسة على مر العصور أن يوحنا، عند أقدام الصليب، كان  يمثلنا جميعا.
 
2 - هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنيسة تعلم مع بولس الرسول القائل لأهل كورنتس:
 
"إذا كان هناك جسم بشري، فهناك أيضا جسم روحي، فقد ورد في الكتاب: "كان آدم الإنسان الأول نفسا حية"، وكان آدم الآخر روحا محييا. ولكن لم يظهر الروحي أولا، بل البشري، وظهر الروحي بعده. الإنسان الأول من التراب فهو أرضي، والإنسان الآخر من السماء. فعلى مثال الأرضي يكون الأرضيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما حملنا صورة الأرضي، كذلك نحمل صورة السماوي" (1 كو 15/ 44-49).
 
فيسوع  هو آدم الجديد، مخلص البشرية، وأمه مريم هي حواء الجديدة، وكما أن حواء الاولى هي أم لجميع الأحياء، فكذلك مريم، حواء الجديدة هي أم لجميع الذين يحيون وينتمون بالعماد إلى ابنها المسيح، وأن  ممارسة مريم لامومتها الروحية تدوم بدون انقطاع حتى نهاية العالم إلى أن يبلغ جميع المختارين المجد الدائم، تماما كما أن أمومة حواء الأولى لكل البشر تدوم بدون انقطاع حتى نهاية العالم. وهذه الأمومة الروحية لمريم، هي رسالة خلاصية، إذ بعد انتقال مريم الى السماء، ينال أبناؤها على الأرض بشفاعتها الدائمة نعم الخلاص الأبدي. إنها تسهر بحنان الأم على إخوة ابنها في الكنيسة  المجاهدة على الأرض للوصول إلى فردوس النعيم (دستور عقائدي في الكنيسة 62). فمريم هي أمنا في نظام النعمة. ومن أحب المسيح أحبها.
 
3 - قال البابا يوحنا بولس الثاني، في رسالته العامة "أم الفادي" إن السيد المسيح قد أبرز علاقة جديدة مع العذراء: ابنا وأما. وأكّد واقعها وحقيقتها. فإذا كانت امومة مريم العذراء للجنس البشري قد برزت، فإن السيد المسيح الآن يؤكد بوضوح تام أنه اعطاها أمّا لكل المؤمنين. كلمات يسوع التي قالها على الصليب تعني أن أمومة مريم العذراء التي ولدت المسيح تجد لها امتدادا في الكنيسة ومن خلال الكنيسة، ويوحنا يمثلها ويرمز اليها. فمريم العذراء الممتلئة نعمة قد أرادها الله في سر المسيح لتكون أم الله، والمراة" التي تكلم عنها سفر التكوين (3/15) في البداية، كما تكلم عنها سفر الرؤيا (12/1) في ختام مسيرة الخلاص، وفقا لمخطط الله الأزلي. إن أمومة مريم العذراء الإلهية قد أفيضت على الكنيسة كما يبين ذلك التقليد في الكنيسة. واستنادا إلى التقليد فإن أمومة مريم العذراء للكنيسة إنما هي انعكاس وامتداد لأمومتها لابن الله".
 
راجع أيضا بهذا الخصوص التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم 967 – 970.
 
4 - يوحنا عند أقدام الصليب هو "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" التلميذ الذي يمثل كل المسيحيين تلاميذ المسيح المحبوبين الذين في حياتهم الصالحة وجهادهم الروحي يرافقون المسيح حتى الجلجلة.  بالنسبة إلى الكنيسة، فإن مريم في رسالتها ودعوتها، لا تنفصل عن المسيح. والارتباط بين مريم والمسيح في عمل الخلاص يتجلى منذ حبلها البتولي بالمسيح حتى موته. فدعوة مريم لم تتوقف عند كونها "أم يسوع" فحسب، بل تشمل أيضا أمومتها للكنيسة، أمومتها للمؤمنين، لإخوة ابنها يسوع في كل جيل وفي كل مكان.
 
يوم البشارة، تجسد ابن الله، اتخذ جسدا من مريم البتول. فكان أول عمل له أنه اتخذ مريم البتول أمّا له في الجسد. وكان آخر عمل قام به وهو على الصليب أنه أعلن أمّه أمّا روحية لجميع البشر، وجعلنا إخوة له وابناء لها. 
 
363
من أين اقتبست الكنيسة الكاثوليكية الفكرة أن مريم نقلت جسدا ونفسا إلى السماء؟ ألم تمت مريم العذراء كما يموت الناس أجمعون؟
 
ليست القضية قضية مزاجية، بل هي قضية إيمان. فنحن نؤمن بأن مريم العذراء، في ختام حياتها الأرضية نُقلت جسدا ونفسا إلى السماء. ففي سنة 1950 أعلن قداسة البابا بيوس الثاني عشر عقيدة انتقال مريم إلى السماء نفسا وجسدا.
 
1 - في القرن السادس كتب القديس غريغوريوس من مدينة تور  في فرنسا، أن السيد المسيح في ختام حياة أمه مريم، أمر بأن يُنقل جسدها إلى السماء لكي تلتحق به وبالقديسين. الإيمان بأن مريم في السماء جسدا ونفسا لم يكن في يوم من الأيام موضوع شك في الكنيسة. فبعد أن أعلن البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بمريم العذراء بلا خطيئة، وردت من المؤمنين والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، ملايين الرسائل إلى روما تطالب بإعلان عقيدة انتقال مريم العذراء إلى السماء نفسا وجسدا. وهذا ما فعله البابا بيوس الثاني عشر في 1/11/1950 حين أعلن رسميا أن مريم أم الله، الدائمة البتولية، البريئة من الخطيئة الأصلية والفعلية، في ختام حياتها الأرضية نُقِلت إلى السماء نفسا وجسدا.
 
2 - أما الأسباب اللاهوتية التي دفعت الكنيسة إلى إعلان عقيدة الإنتقال فهي أن مريم كانت بريئة من كل خطية أصلية وفعلية، وأن انحلال الجسد هو من نتائج الخطيئة التي لم تكن لديها إطلاقا، فهي بالتالي لم تختبر فساد القبور. بالإضافة إلى ذلك فإن جسد مريم قد حمل جسد يسوع الفادي فشارك جسدها جسده البر والقداسة  فكان يجب أن يشاركه المجد في السماء.
 
3 - الكنيسة لم تحدد أبدا هل مريم العذراء ماتت أم لا. القديس يوحنا الدمشقي في القرن الثامن يذكر تقليدا قديما في الكنيسة بأن مريم ماتت ودفنت بالقرب من الجسمانية. وبعد ثلاثة أيام قضاها الملائكة مرنمين ومسبحين الله حول القبر انقطع الملائكة عن الترنيم والتسبيح، ففتح الرسل القبر فلم يجدوا فيه جسد مريم.
 
بيوس الثاني عشر يقول ان مريم اختبرت الموت على مثال ابنها المسيح، ولكنها على مثاله أيضا لم تختبر فساد القبور.
 
364
ماذا تعني الكنيسة عندما تُعلّم بأن مريم شريكة في الفداء؟
 
"إن العذراء الطوباوية التي أُختارها الله أمّا حنونا للفادى الالهي، جعلها أيضا تشارك بسخاء فائق في عمل المسيح الخلاصي، وذلك بقبولها ارادة الله عليها، بحبلها بالمسيح وبولادته وتربيته وتغذيته وتقدمته في الهيكل وبمشاركته الآمه في سبيل خلاص العالم. لقد اشتركت، بطريقة فريدة للغاية، في عمل المخلص بطاعتها وايمانها ورجائها ومحبتها الحارة لتردّ إلى النفوس الحياة الفائقة الطبيعة. وقد غدت لهذا السبب أمّا لنا في نظام النعمة"(الدستور العقائدي في الكنيسة 61).
 
راجع أيضا بهذا الشأن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 963 -975
 
365
هل تتمتع سيدتنا مريم العذراء بصفة الألوهية؟
 
إن المسيحية لم تعتقد في يوم من الأيام أن مريم العذراء كانت إلهة ولا أقنوما من أقانيم الله الواحد. إن سيدتنا مريم العذراء ليست إلها وإنما هي فقط أمّا للكلمة المتجسد، والله عصمها من الخطيئة الأصلية والفعلية وجَمّل نفسها بمختلف المواهب الروحية وجعلها آية في التواضع وحفظ كلمة الله والتأمل فيها، وشريكة المسيح في الآمه على الصليب وكانت في وسط  جماعة الرسل والتلاميذ يوم حلول الروح القدس. وكل ذلك يبرز دورها العظيم في سيرة المسيح والكنيسة والمؤمنين. 
 
 
 
366
ماذا نعني بقولنا: "مريم هي أم الله"؟ وكلنا نؤمن بأن الله موجود قبل مريم العذراء؟
 
لا تعني أمومة مريم الإلهية أن "الله الكلمة" لم يكن له وجود قبل مريم وأن وجوده إلها بدأ مع الحبل به في احشائها. كلنا نؤمن أن الله لا بدء له ولا نهاية، وأنه موجود قبل وجود للمخلوقات كلها. 
 
نعني بقولنا "مريم هي أم الله"، أنها أم يسوع المسيح، الذي هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس،  ابن الله المتأنس الذي اتخذ من جسدها جسدا. 
 
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإذا كانت الأمومة تعني أكثر من حدث جسدي خالص، وإذا كانت اكثر من الحبل والولادة الجسدية، فكم بالحري يكون إيمان مريم عظيما وقد أعربت عنه بقرارها واختيارها، عندما قبلت قول الملاك:"ستحملين وتلدين ابنا تسمينه يسوع، فيكون عظيما وابن العلي يدعى" (لو 1/32) وإيمانها هذا لا يُفصل عن تاريخ خلاصنا. 
 
وجدير بالذكر أن الكنيسة أكدت إيمانها بمريم على أنها أم الله في دفاعها عن الإيمان بالثالوث الأقدس وبالمسيح في القرون  الأربعة الأولى من تاريخها. فالكلمة الإلهي تجسد أي أخذ جسدا وولد حقيقة من مريم، وأن مريم هي حقيقة والدة الكلمة المتجسد الذي هو الله. الإكتفاء بالقول بأن مريم هي أم المسيح الذي اعتمده النساطرة، ينكر ألوهية المسيح، ويجعل المسيح مسيحَين. 
 
367
قل لي ما أهم ما يجب  أن يؤمن المسيحيون به بخصوص أمنا مريم العذراء؟
 
إن ما يجب على المسيحيين أن يؤمنوا به، بموجب تعليم الكنيسة، هو:
 
1 – أن مريم كانت تنتظر مجىء المخلص، كما كان ينتظره الناس في إسرائيل. وأنها، بكل حب وإيمان، قالت للملاك الذي بشرها: "ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك"، فاعطت ابن الله في حشاها البتولي، الحياة الإنسانية التي تمكنه من أن يخلّص الإنسان، وأصبحت بذلك الأم المحبوبة للفادي الالهي مع بقائها بتولا. ونظرا إلى اتحاد الطبيعيتن في المسيح فقد صارت والدة الله (لو 1/43). فلا يمكن أن نفصل مريم عن يسوع، ولا يمكن أن نفصلها عن الإنجيل. وهي في صميم سر التجسد. قبولها يوم البشارة، أن تكون أما ليسوع مخلص البشر كان حدثا حاسما في تاريخ الخلاص. لقد تم سر التجسد وسر الفداء لأن مريم قبلت، بالنعمة الإلهية المعطاة لها، أن يأخذ ابن الله من جسدها جسدا، وبالتالي أن تكون له أمّا. 
 
2 –  أن مريم ظلت دائما بتولا. فقد  حبلت بالمسح ابن الله  بدون رجل. وهذا ما تؤكده لنا الكتب المقدسة بصورة قاطعة. ومولد المسيح بدون أب، دليل على  بداية جديدة للعمل الخلاصي، وعلى أن تاريخ البشرية اكتسب منذ ذلك الحين نمطا جديدا، ووصل إلى مرحلته الأخيرة، مرحلة بدء تحويل العالم المادى بواسطة قيامة يسوع.
 
3 - لا نعرف إلا القليل عن حياة مريم على الأرض. فهي من بيت داود، وعاشت مجهولة من شعبها وذلك بتدبير إلهي، تحت غطاء زواجها الشرعي من يوسف، الذي تم بخطوبة وكتاب بحسب الشرائع والعادات اليهودية. وقضت حياتها الخفية في العمل والفقر والقبول السخي المتهلل لتدابير الله التي لا تُدرك. لوقا  ذكرالقليل عنها: ذهبت مسرعة لزيارة أليصابات وقدمت يسوع بفرح للرعاة والمجوس، ثم قدمته للرب في الهيكل، حيث قربت فدية الفقراء، وسمعت سمعان يتنبأ لها أن ابنها يسوع سيكون هدفا للمخالفة وأن سيفا من الحزن والألم سيطعن نفسها. ولما ضاع الطفل يسوع في الهيكل، بحثت عنه هي ويوسف متألمين ووجداه في الهيكل مهتما بشؤون أبيه. ولم يفهما قوله لهما. غير أن أمه مريم كانت تحفظ ذلك وتتأمل به في قلبها.
 
أما في حياة يسوع العلنية، فإننا نراها في عرس قانا الجليل تتوسط  وتتشفع وتنال من يسوع المسيح أن يصنع لها أولى معجزاته وأن يقدّم من أجلها ساعته. وفي الساعة الحاسمة من حياة المسيح، كانت واقفة عند أقدام الصليب، تشارك المسيح الآمه في سبيل خلاص البشر، وهناك اعلنها يسوع في شخص يوحنا الحبيب أما للبشر أجمعين. وبعد أن رُفع إلى السماء، نرى مريم حاضرة في العلية، في مكانها الصحيح في كنيسة المسيح، محاطة بجماعة التلاميذ والتلميذات تصلي معهم ويصلون معها استعدادا لحلول الروح القدس. وقالت الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني:
 
"إنها إذ حملت في أحشائها المسيح، وولدته، وأرضعته منها لبنا وقدمته في الهيكل للآب، وتألمت معه وشاركته بالروح موته على الصليب، فإنها أسهمت، بما أبدت من طاعة وحب وإيمان، في عمل المخلص إسهاما لا مثيل له على الإطلاق، من أجل أن تُعاد إلى النفوس الحياة الفائقة الطبيعة. لذلك كانت لنا، في نظام النعمة، أما" (الدستور العقائدي في الكنيسة، 61).
 
4 -  تؤمن الكنيسة أن مريم أم يسوع وإن كانت من جنسنا الخاطىء بخطيئة آدم، قد امتلكت النعمة الحالية المبرِّرة منذ أول لحظة من وجودها. فنظرا لاستحقاقات المسيح، ولدورها الفريد في سيرة الخلاص أمّا وشريكة للمسيح. فقد عصمها الله من الخطيئة الأصلية عصمة وقائية، وأُعتِقت من كل خطيئة وشهوة وميل.
 
5 – كذلك تؤمن الكنيسة أن مريم أم يسوع هي  حواء الجديدة، هي الأم العذراء، وهي قدوة في الإيمان وأنموذج في المحبة. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: 
 
"إن العذراء الطوباوية، بحكم موهبة الأمومة ومهمتها اللتين تربطانها بابنها الفادي، وبحكم ما كان لها من النعم  الفريدة، تتحد أيضا بالكنيسة اتحادا وثيقا. فأم الله، بحسب تعليم القديس أمبروزيوس، هي للكنيسة قدوة في الإيمان والمحبة والإتحاد الكامل بالمسيح. ففي سر الكنيسة، تحتل الطوباوية مريم المقام الاول... فهي حواء الجديدة ... التي ولدت ابنها بكرا بين اخوة كثيرين (رو 8/29) أي بين المؤمنين الذين تساهم بحب الأم في مولدهم وتربيتهم" (دستور عقائدي في الكنيسة رقم 63).
 
لقد أتمت مريم إرادة الله القدوسة بإيمان كامل، طيلة حياتها وحتى النهاية. فهي أم يسوع (يو 2/4). ونظرا الى مركزها هذا المحوري في تاريخ الخلاص فان لها مكانة محورية ومُطلَقَة في خلاص الإنسان. فهي  صورة للإنسان الذي افتداه المسيح بصورة كاملة. وبذلك صارت مريم أنموذجا بديعا لأهل الخلاص، وأنموذجا للكنيسة بأسرها.  
 
6 – تاريخيا لا نعلم عن موتها شيئا، انما موتها أكيد  لا يرقى الشك إليه. فقد ماتت كما يموت سائر الناس أجمعون. ماتت كما مات المسيح. لكن الكنيسة تؤمن أنها نُقلت بعد موتها القصير إلى السماء جسدا ونفسا. فاصبحت بذلك صورة كاملة للإنسان المُفتدى. ونظرا لوضع مريم الفريد في تاريخ الخلاص، فإن الكنيسة تكرمها باعتبارها وسيطة للنعم تقوم بملء الخدمة التي قوامها التضرع لخير النفوس. 
 
7 - إن يسوع وحده هو مخلص البشر، وهو وحده خلاص جميع الناس: "الوسيط بين الله والناس الذي جاد بنفسه فدى لجميع الناس" (1 طيم 2/5).  وكانت أمه مريم، الأمَة المتواضعة التي أدت دورها في مسيرة الخلاص كما أراده الله. وكانت أولى المخلَّصين. فيسوع خلّصها كما خلّصنا، ووقاها، بإنعامه الالهي، من وصمة الخطيئة الأصلية والفعلية. ولذلك فإن شفاعتها مرتبطة ارتباطا تاما بعمل الخلاص الذي قام به يسوع المسيح وتستمد قدرتها من قدرته، وهي تعبر عن تضامن جميع أعضاء جسد المسيح السري، كما قال بولس الرسول إلى أهل كورنتس: "اذا تألم عضو تألم معه سائر الأعضاء، وإن أُكرم عضو أُكرم معه سائر الأعضاء" (1 كو12/26). فالله سبحانه وتعالى يستخدم من الناس من يشاء ليهب الخلاص لأناس آخرين. فمريم التي  قبلت يوم البشارة أن تكون أما للمسيح الوسيط الوحيد لكل النعم لا تزال وسيطة في الخلاص. وللتعبير عن مكانتها لدى يسوع المسيح مخلص البشر، فإنها تُدعى "أم الكنيسة". ومن الواضح في تعليم الكنيسة أن الهدف الأخير من تكريم مريم هو تمجيد الله  وخلاص النفوس.
 
8 – تؤمن الكنيسة أيضا أن مريم لكونها أم الله القديسة المشاركة في أسرار المسيح هي قدوة في فضائلها للكنيسة. كما تؤمن بأنه يجب على جميع الاجيال المسيحية أن يطوبوها أي يعظموها، كما تنبأت هي نفسها بذلك. فقد أراد الله لها هذا المقام الفريد والرفيع في تاريخ الخلاص، وهو فخر واعتزاز للبشرية برمتها. تكريم مريم هو، في النتيجة، مديح لما صنعه الله فيها لخلاصنا، وهو بالتالي فعل إيمان فريد، به نعلن أن كلمة الله تأنس متخذا من مريم جسدا لخلاص البشر وجعلها أمّه وأعلنها ليوحنا الحبيب وهو على الصليب أمّا للخلق أجمعين. فهي تستحق الحب والإكرام. 
 
368
كثيرون اليوم  يدّعون أن  مريم العذراء ظهرت لهم أو أن السماء كلّفتهم بمهمه ... ما موقف السلطة الكنسية المحلية من هذه الأمور؟ 
 
المطران صاحب السلطان في الأبرشية، هو راعيها ومرشدها، وعليه أن يُعلّم ويرشد الشعب ويشرح لهم حقائق الإيمان التي يجب أن يؤمنوا بها، والآداب والأخلاق التي يجب أن يعيشوا بموجبها، وذلك عن طريق كرازته المتواترة، واستعمال مختلف وسائل الإعلام الحديثة. وعليه أيضا أن يراعي بدقة أحكام القانون المتعلقة بخدمة الكلمة، وعلى الخصوص بالكرازة والتربية الدينية، بحيث تصل العقيدة المسيحية كلها إلى الجميع. كما عليه أن يدافع بحزم عن سلامة الإيمان ووحدته، بالوسائل التي يراها أكثر إيجابية (القانون 386 من مجموعة الحق القانوني).
 
هذا من حيث المسؤوليات والصلاحيات العامة، أما عندما يدعي أحدهم بأن العذراء ظهرت له  أو بأن السماء كلفته بمهمة، فيجب أن يتحلى المطران والمؤمنون بالحذر والتريث، وأن يتحاشى المطران التسرع والهرولة إلى المكان. وفي الوقت المناسب يتخذ المطران الإجراءات التي يراها مناسبة للتحقق مما يجري، وإذا اقتضى الأمر يستشير ذوي الدراية والخبرة في الكنيسة بالنسبة لهذه الامور، قبل اتخاذ أي قرار أو إصدار أي اعلان بالنسبة لصحة الظهور أو لصحة الرسالة التي يدعي حاملها أنها من السماء.
 
المبدأ الذي أشار اليه جملائيل بقوله:
 
"كفّوا عن هؤلا الرجال، واتركوهم ، فإن يكن هذا المقصد أو العمل من عند الناس فإنه سينتّقِض، وإن يكن من عند الله، لا تستطيعوا أن تقضوا عليهم، ويُخشى عليكم أن تجدوا أنفسكم تحاربون الله" (رسل 5/38-39).
 
كل مطران يتحلى بالحكمة يعتمد هذا المبدأ في تصرفه بالنسبة للظهورات والرؤى المزعومة. لكننا لا نستبعد للعذراء ظهورا لتحث الناس على التقوى والتوبة. فالله على كل شيء قدير.
 
369
ما هي الإجراءات التي تتخذها الكنيسة للتثبّت من صحة ظهور مريم العذراء أو أحد القديسين؟
 
عندما تنقل وسائل الإعلام خبرا بأن العذراء مريم قد ظهرت في مكان ما لاشخاص ما، فإن مطران ذاك المكان يرسل أولا شخصا أو اكثر من شخص ليجمع له المعلومات حول الموضوع.  فإذا تبيّن له أن الأمر يستأهل الاهتمام عندئذ يؤلّف لجنة لكي تتقصى الحقائق كاملة حول الموضوع وحول الأشخاص المعنيين بالأمر. وبعدئذ يمكنه أن يعلن للمؤمنين أن الأمر جدير بالتصديق أو جدير بالاستنكار. 
 
ويدرك المطران أن الحكمة تتطلب التأني والتروي، ولذلك فإن هذه الإجراءات تستغرق سنوات كثيرة. وعلى سبيل المثال، بالنسبة لظهورات العذراء في بلدة فاطمة في البرتغال فإن مطران الأبرشية ألّف لجنة بعد الحوادث لتقصي الحقائق  سنة 1917. وكانت النتيجة أنه في 1/10/1930 أي بعد الحوادث ب 13 سنة أعلن مع اساقفة البرتغال أن ما نقله الرعاة الثلاثة عن العذراء  "كان جديرا بالتصديق".
 
370
هل الشمس رقصت حقا  بعد آخر ظهور من  ظهورات العذراء في بلدة فاطمة / البرتغال؟
 
من شهر أيار وحتى شهر تشرين الأول سنة 1917 ظهرت مريم العذراء ست مرات لثلاثة رعاة اطفال في البرتغال في بلدة صغيرة اسمها فاطمة. وقد أرتهم جهنم وقالت لهم إن الحرب العالمية الثانية سوف تحدث إن لم يُقلع العالم عن طرق الشر، وأن الشيوعية سوف تجتاح روسيا ووعدت برجوع روسيا إلى قلبها الأقدس إذا الشعب المسيحي صلى كثيرا وتاب وعوّض عن خطاياه.
 
في 13/10/1917 أجرت مريم العذراء الأعجوبة التي وعدتها للأطفال لكي تقنع عشرات الألوف الذين كانوا مجتمعين في المكان، أن يأخذوا بعين الاعتبار رسالتها وهي التوبة إلى الله وتلاوة السبحة الوردية. ما حدث في ذلك اليوم وصفه أناس كثيرون بالتفاصيل، ووصفه ملحد في جريدة العاصمة ليشبونة O Seculo   الإلحادية  والذي جاء إلى فاطمة لكي يجد أن الأطفال الرعاة كانوا كذابين وأنهم غرروا بالجماهير.
 
في عددها الصادر بتاريخ 15/10/1917 كان العنوان الكبير على الصفحة الأولى: "أمر غريب حدث: عند الظهر، الشمس ترقص في فاطمة". استنادا إلى شهود العيان كان الشتاء غزيرا جدا، وإذا به يتوقف دفعة واحدة عند الظهر وخرجت الشمس عن مدارها. وكان باستطاعة الناس أن يشاهدوا الشمس مباشرة دون أن تؤذي الشمس أعينهم. فاخذت الشمس تدور على ذاتها وترتفع وتهبط وترسل أشعة بالوان مختلفة. ثم أخذت الشمس تهوى إلى الارض فاخذ الشعب يصيح من الرعب وفكروا بأنه في خلال لحظات سوف يموتون وسوف ينتهي العالم فرفعوا أصواتهم إلى الله تائبين وطالبين الرحمة فتوقفت الشمس عن الإنحدار وعادت إلى مكانها واستعادت حالتها فلم يتمكن الناس عندئذ  أن ينظروا اليها مباشرة.
 
شاهد هذه الأعجوبة حوالي سبعين الفا كانوا حاضرين ونقلتها جميع وسائل الإعلام  في البرتغال سواء كانت كاثوليكية أو شيوعية أو غيرها.
 
371
هل حدّدت روما  موقفها من ظهورات العذراء في مديغورية Medjugorje / في يوغسلافيا؟
 
إن الكرسي الرسولي لا يتخذ عادة أي قرار بالنسبة لأية ظهورات للعذراء مريم أو للرب يسوع أو للقديسين. هذا الأمر هو من صلاحيات وواجبات المطران المحلي.
 
سنة 1991 بعد التحقيق المكثّف في ظهورات  Medjugorje ودراسة المعطيات، مجلس أساقفة يوغوسلافيا صوت على ما يلي: "هل نحن أمام ظهورات فائقة الطبيعة أم لا" فكانت نتيجة التصويت 19 بالنفي وصوت واحد بالإيجاب.  
 
وفي اكتوبر 1993 أعطى مطران  Medjugorje  التصريح التالي: "إن الكنيسة تحث المؤمنين على الصلاة والصوم والتكفير والمصالحة والتوبة. وأنا لا أريد أن أمنع أي إنسان أن ياتي ويصلي إلى الله. ولكني لا استطيع أن أوافق أن يعلن الكهنة من على منابر الكنيسة أن العذراء مريم ظهرت هنا، مع العلم ان السلطة الكنيسة صاحبة الاختصاص لم تعترف باي ظهور فائق الطبيعة للعذراء"
 
" وبعد التحقيق والاصغاء إلى رأي الخبراء والمختصين، أعلن مجلس الاساقفة بأن ظهورات Medjugorje غير فائقة الطبيعة بالرغم من كثافة الحجاج وبالرغم من كثرة المعتقدين بأنها ظهورات فائقة الطبيعة. وهذا يدل على أن كنيسة الله الحي في القرن العشرين: "هي عمود الحق وركنه" (1 طيم 3/154). وأنا أعلن ذلك بدون أي التباس وأنا مسؤول عما أُعلن ... "
 
372
هل اعترفت الكنيسة بأن الأطفال الذين ظهرت لهم العذراء في فاطمة قد شاهدوا  جهنم، وهل من الثابت أن في جهنم نفوسا كثيرة؟ 
 
جهنم موجودة. وتسقط فيها النفوس التي تصر على رفض الله ورفض النعمة التي يقدمها لها في حياتها الأرضية لكي تنال الخلاص الأبدي. هذا هو تعليم الكنيسة منذ زمن المسيح. وفي وصفه للدينونة الأخيرة، نبهنا السيد المسيح،  بأن من لا يعمل الخير للقريب ولا يسير في طريق البر والتقوى سوف يُفصل عنه إلى الأبد (متى 25/31-46) 
 
 لا نستطيع أن نتحد بالله ما لم نختر حبّه بحرية، ولكننا لا نستطيع أن نحب الله ونحن نرتكب خطايا ثقيلة ضد الله أو ضد أنفسنا: "من لا يحب يثبت في الموت، كل من يبغض اخاه فهو قاتل، وتعلمون أن كل قاتل ليست له الحياة الأبدية ثابتة فيه" ويحذرنا الرب أننا سننفصل عنه إن أهملنا الاحتياجات الخطيرة لدى الفقراء والمساكين الذين هم إخوته. الموت في الخطيئة دون التوبة ودون تقبل محبة الله الرحيمة، يعني البقاء في حالة انفصال عن الله انفصالا دائما باختيارنا الحر. وتلك الحالة من الإقصاء الذاتي عن الشركة مع الله ومع الطوباويين هي ما يدل عليه بلفظة جهنم (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1033).
 
ويؤكد تعليم الكنيسة كذلك وجود جهنم وأبديّتها. إن نفوس الذين يموتون في حالة الخطيئة المميتة تهبط بعد موتها على الفور إلى الجحيم، حيث تقاسي عذابات جهنم "النار الأبدية". ويقوم عذاب جهنم الرئيسي في الانفصال الأبدي عن الله الذي فيه وحده يستطيع الإنسان الحصول على الحياة والسعادة اللتين خُلق لأجلهما وإليهما يتوق (التعليم الامسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1035). 
 
373
نحن نؤمن بأن مريم أم يسوع بقيت بتولا طيلة حياتها،  ولكن كيف تشرح لي متى 1/25: يقول "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر؟
 
كتب القديس متى الرسول إنجيله في اللغة اليونانية. والكلمة التي استعملها في اليونانية (هيوس هو) تُرجمت في اللغة العربية بكلمة "حتى"، هي في الواقع ترجمة غير موفقة، لأن الكلمة اليونانية  - وهي الأصل -  تنفي العمل في الماضي ولا توجب وقوع الفعل الذي تم ّ قبلها، على ما بعدها. ومن الواضح من النص أن الغاية التي يقصدها متى  بكلامه في هذه الفقرة هي أن يثبت أن مريم حبلت  بيسوع من الروح القدس وأنها ولدته من غير علاقة جسدية بينها وبين القديس يوسف. والنفي بأن يوسف لم "يعرف" مريم قبل ولادتها ليسوع، لا يعني إطلاقا أنه "عرفها" بعد ولادة يسوع.
 
لكلمة "حتى"، في اللغة العربية، أكثر من معنى. في الصفوف الإعدادية، كان المعلم يعطينا للاعراب الجملتين التاليتين كي يبين الاختلاف في المعنى:  "أكلت السمكة حتى رأسَها" أي أكلت السمكة ورأسها، و "أكلت السمكة حتى رأسِها" أي أكلت السمكة وتوقفت عند رأسها ولم آكله. وبالتالي فهي لا  تشير إلى أني أكلته أو لم آكله في ما بعد. 
 
وقد وردت "حتى" مرارا في الكتاب المقدس، وهي تعني أن الامر لم يحدث الى تلك الساعة. ولا تعني أنه حدث أو لم يحدث بعدها. فهي لا تعني ما بعدها. وعلى سبيل المثال، فقد ورد في سفر صموئيل الثاني: "ولم تلد ميكال ابنة شاول (زوجة داود النبي) ولدا إلى (حتى)  يوم وفاتها (2 صموئيل 6/23).  فهذا لا يعني أنها ولدت بعد يوم وفاتها.  وإذا قلت لك أن عمي يعقوب لم يتزوج حتى مات في حادث السيارة، فهل يعني ذلك أنه تزوج بعد موته؟ 
 
وأما كلمة "البكر" فهي تعني أول مولود  للمرأة سواء ولدت غيره من بعده أم لم تلد. والابن الأول يُسمى "الابن البكر" دون انتظار ولادة آخرين. وكان يجب أن يُقدم للرب، بعد أربعين يوما من ولادته،  كما ورد في سفر الخروج (13/11-16) وهذا ما فعلته مريم ويوسف إذ قدما الطفل يسوع لله في الهيكل في اليوم الأربعين. فكلمة البكر لا تتوقف على ولادة غيره من الأولاد.
 
374
هل صحيح أن مريم العذراء كان لها من العمر 14 أو 15 سنة عندما خطبها يوسف البتول؟
 
ليس هنالك أي برهان على أن مريم العذراء كانت تبلغ 14  او 15  من العمر عندما خطبها مار يوسف أو عندما حبلت بيسوع وولدته في بيت لحم.
 
التقليد الذي يقول بأن مريم كانت بنتا صبية في مقتبل العمر يرتكز على  عادات  اليهود في الزواج. فالبنت في ذلك الوقت كانت تُخطب في سن 12 - 15 وكانت تذهب لتعيش مع زوجها بعد الخطبة بسنة. وأما الرجال فكانوا يخطبون عادة ما بين 18  و  24  من عمرهم.
 
ومن المعروف أن الخطبة لم تكن مجرد وعد بالزواج، كما هو الحال اليوم، ولكنها كانت زواجا شرعيا، ولكن من غير أن ياخذ الخطيب خطيبته إلى بيت الزوجية. فكان الزوجان يعيشان مدة سنة عند أهلهما، ولمدة شهر إذا كانت الفتاة أرملة. وكانت حفلة الزواج هي حفلة دخول الخطيبة إلى بيت خطيبها. وإذا ما حبلت الخطيبة وهي في بيت أهلها، فمن المعروف لدى المجتمع برمته أنها حبلت من خطيبها، وكان هذا الأمر يعتبر شرعيا ولا غرابة فيه.
 
375
عندما نقابل بين موقف زكريا عندما بشره الملاك جبرائيل بيوحنا، بموقف مريم عندما بشرها الملاك جبرائيل بالمسيح، فإن زكريا لم يصدق وسأل مستفسرا وكذلك مريم؟ فلماذا عاقب الملاك زكريا فاصبح أبكم لا يتكلم، بينما لم يُعاقب مريم؟
 
عندما نقابل بين موقف زكريا وموقف مريم من بشارة الملاك لهما نلاحظ ما يلي:
 
1 – أن زكريا شك ولم يصدق رسالة السماء، وسأل علامة لكي يصدق إذ قال: "بم أعرف هذا وأنا شيخ كبير وامرأتي طاعنة في السن" (لو 1/18). وأعطاه الملاك العلامة حالا وبدون انتظار إذ قال له: "ستصاب بالخرس، فلا تستطيع الكلام إلى يوم يحدث ذلك، لأنك لم تؤمن بأقوالي وهي ستتم في أوانها" (لو 1/20)
 
أما مريم فداخلها اضطراب شديد، "وسألت نفسها ما معنى هذ السلام". أي أنها أرادت أن تفهم، قبل أن تقرر. ولم تقل للملاك: "بم أعرف هذا وما هي العلامة التي تعطيني إياها، بل سألت مستفهمة: "كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلا" ( لو 1/34). أرادت مريم أن تعرف الطريقة التي بها يكون الأمر ممكنا، لأنها، بإلهام من الرب، كرست حياتها لله على الطهر والبتولية. فهي لم تُعبِّر عن شك في إمكانية حصول المعجزة  بل استفسرت كيف يكون ذلك. فشرح لها الملاك كيف يكون ذلك من غير أن تعرف رجلا إذ أجابها قائلا: "إن الروح القدس سينزل عليك وقدرة العلي تظللك، لذلك يكون المولود قدوسا وابن الله يدعى" (لو 1/35).  وأما بالنسبة لزكريا فإن الملاك جبرائيل قرأ الشك وعدم الثقة في قلبه لأنه طلب إشارة من الله إذ قال للملاك: "بِم أعرف هذا وأنا شيخ كبير وامرأتي طاعنة في السن؟" (لو1/18). إن الروح القدس الذي ألهم مريم أن تكرس حياتها لله على الطهر والبتولية، ألهمها أيضا أن تعطي قرارها بكل تواضع قائلة: "أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1/38). 
 
376
ماذا نفهم بقول الملاك لمريم بأنها ممتلئة نعمة؟
 
1 - محبة الله الفياضة أدت به إلى أن يتجسد ويفتدي الإنسان ويسكن فيه ليعطي الإنسان سعادة وحياة أبديتين. فالله هو الذي يبدأ برفع الإنسان من سقطته ويفتح أبواب الملكوت أمامه بسر الفداء، أي سر الآم المسيح يسوع وقيامته المجيدة. والنعمة، في مفهومها الأساسي هي حياة الله في الإنسان المفتدى، وهي ترفعه إلى مرتبة فوق قواه الطبيعية. هذا بالنسبة لكل إنسان ينال نعمة الله ويستجيب لها. 
 
وأما بالنسبة لشهادة السماء، على لسان الملاك جبرائيل يوم البشارة: "إفرحي، أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك" فلا شك في أن عبارة "الرب معك" تفتح الآفاق لشرح الامتلاء من النعمة. في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، في شرح صلاة "السلام عليك يا مريم، نقرأ:
 
"الممتلئة نعمة، الرب معك" هاتان العبارتان من السلام الملائكي توضح أحدهما الأخرى. فمريم هي الممتلئة نعمة لأن الرب معها. والنعمة التي ملأتها هي حضور مَن هو ينبوع كل نعمة. أفرحي (...) يا ابنة صهيون (...) في وسطك الرب إلهك (صف 3/14 ، 17). إن مريم، التي جاء الرب عينه ليسكن فيها، هي بذاتها ابنة صهيون، تابوت العهد، الموضع الذي يقيم فيه مجد الرب: "إنها مسكن الله مع الناس" (رؤ 21/3).إنها، وهي الممتلئة نعمة، موهوبة كلها لذاك الذي جاء ليسكن فيها والذي ستعطيه للعالم" (2676).
 
2 - الروح القدس، الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس: "هيّأ مريم بنعمته. فقد كان يليق بأن تكون "الممتلئة نعمة" أم الذي فيه "يحل كل ملء اللاهوت جسديا" (قو 2/9). فبمحض نعمة حُبل بها دون خطيئة كأوضع الخلائق والأكثر قدرة على تقبل عطية الله القدير التي تفوق الوصف. وبحق حياها الملاك جبرائيل تحية ابنة صهيون: "افرحي"، وما رفعته إلى الآب في نشيدها، وهي تحمل في حشاها الابن الأزلي، إنما هو شكر شعب الله كله، أي الكنيسة." (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 722). وبوحي من الروح القدس، كرست مريم العذراء ذاتها على البتولية لله، فهي تخصه من دون حدود، ووضعت ذاتها في خدمته: "ها أنا امة الرب فليكن لي بحسب قولك"، فصنع الرب فيها عظائم التجسد والفداء.
 
"لقد تحقق في مريم قصد الله الحنون، فحبلت بابن الله وولدته، وقد صارت بتوليتها الفريدة خصبة بقدرة الروح والإيمان". وجعل الروح القدس من مريم "المرأة" حواء الجديدة "أم الأحياء"، أم المسيح الكلي". وبتلك الصفة هي حاضرة مع الإثني عشر، المواظبين على الصلاة معها بنفس واحدة (رسل 1/14)، في فجر "الأزمنة الاخيرة" التي افتتحها الروح القدس في صباح العنصرة مع تجلي الكنيسة" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 722 – 726).
 
377
ماذا نعني بأن مريم العذراء هي شريكة في الفداء، واذا كانت شريكة وهي المخلوقة مثلنا، فهل نحن أيضا شركاء كوننا مخلوقين ومدعوين إلى الملكوت مثلها؟ مع العلم ان الفادي هو واحد وهو يسوع المسيح؟
 
1 - السؤال يعود بنا إلى مريم أم يسوع وإلى سر الفداء الذي صنعه يسوع بتجسده والامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء، كما يعود بنا إلى مشاركة كل من يطلب الملكوت السماوي.  فمريم العذراء، بالإضافة إلى ذلك هي عضو فائق السمو وفريد في جسد المسيح السري، لانها تقبلت الرسالة السامية بأن تكون والدة المسيح وأصبحت ابنة الآب المفضلة وهيكل الروح القدس، وفاقت بهذه النعمة الخارقة، جميع الخلائق السماوية والأرضية. وبالتالي من المنطق أن تشارك في سر الفداء بطريقة مميزة. وأجمل تعبير عن مشاركتها هذه جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي في الكنيسة":
 
"إن العذراء الطوباوية التي اختيرت أمّا لله منذ الأزل، حيث تقرر تجسد الكلمة، كانت على هذه الأرض، بتدبير العناية الإلهية، أمّا حنونا للفادي الإلهي، وشريكة سخية في عمله أكثر من الجميع، وأمَة الرب المتواضعة. وهي إذ حبلت بالمسيح وولدته وغذته وقدمته في الهيكل إلى أبيه وتألمت معه على الصليب، قد اشتركت، بطريقة فريدة للغاية، في عمل المخلص بطاعتها وإيمانها ورجائها ومحبتها الحارة لترد إلى النفوس الحياة الفائقة الطبيعة. وقد غدت لهذا السبب أمّا لنا في نظام النعمة" (رقم 61).
 
وأمومة مريم في تدبير الخلاص تستمر بعد انتقالها إلى السماء. فبموجب هبة الأمومة الإلهية ومهمتها التي تربطها بابنها الفادي، وبموجب نعمها ومهامها الفريدة، تتحد أيضا بالكنيسة اتحادا وثيقا. وبالتالي من بديهيات الامور أن تكرمها الكنيسة تكريما خاصا، وأن يتخذها المؤمنون قدوة في الايمان والمحبة والاتحاد التام بالمسيح. وقد سبقت وتنبأت بإلهام الروح القدس: "سوف تطوبني جميع الأجيال لأن القدير صنع بي عظائم" (لو 1/48-49).
 
2- إن المسيح وحده هو الفادي ومريم هي المفتداة الأولى. والمسيح  وحده مات على الصليب لخلاص البشر وأتم سر الفداء بالقيامة والصعود إلى السماء. أما مريم فانها تشترك في الآمه. فيسوع هذا الذي كان معلقا على الصليب أمامها هو ابنها، هو من لحمها ودمها، وعذابه هو عذابها الذي اراد له الله ما أراد من قيمة. كانت هناك واقفة مشتركة في كل شيء، متحملة كل شيء معه. وكونها أمّه فانها بهذه الصفة تحس وتحقق في ذاتها سر يسوع، إلى حد من الالفة والعمق يفوقان إدراك البشر، وبالتالي تبقى مريم  مرتبطه بالمسيح الفادي في سر الفداء، بامتيازات فريدة، من حيث الكيان والنعمة. وإذا حق لبولس الرسول أن يقول: "قد صلبت بالمسيح، فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيى فيَّ" (غلا 2/19-20) فكم بالأحرى العذراء القديسة اتحدت باطنيا بيسوع المعلق أمامها على الصليب، و"صارت على صورته في الموت" وعُلّقت بالروح معه على الصليب. فهي في أمور الفداء كما في أمور التجسد تبقى على مستوى منفرد. وتحملت من أجلنا عذابا عظيما وأتمت في كيانها كله ما ينقص بعد من شدائد المسيح من أجل جسده الذي هو الكنيسة. 
 
3 – وأما بالنسبة لنا نحن أعضاء الكنيسة جسد المسيح السري، ورأسها هو المسيح الفادي. فإن هذا الجسد السري يشارك الرأس في سر الفداء بما يتعرض له اعضاؤه، من الآم  ومضايقات واضطهادات. قال بولس الرسول لأهل كولوسي: " يسرني الآن ما أعاني لأجلكم فأتمّ في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (قو 1/24) وكلنا نؤمن أنه لا يوجد أي نقص في الآم المسيح الخلاصية.  أما النقص فهو في جسده السري أي الكنيسة، التي يجب أن تشارك رأسها ورئيسها أي المسيح باحتمالها مختلف الصعاب والمحن التي تتعرض لها على هذه الأرض. 
 
نحن أعضاء في جسد المسيح السري. فمن باب العدل والمحبة والحكمة الإلهية أن نضم عذابنا وصلبان حياتنا وهمومها إلى يسوع على الصليب. إنه مطلب القداسة. وعلينا أن نشارك في الآم المسيح بمقاومتنا الخطيئة والأهواء، وبأمانتنا على الإيمان وحفظ الوصايا، وبما نتعرض له من مشاكل وهموم في الحياة. فالمسيحي مدعو لأن يشارك المسيح الآمه لكي ينال الخلاص الذي صنعه له بالآمه وموته وقيامته.
 
 
378
المسيح  شفيع أوحد فلماذا نطلب شفاعة مريم العذراء والقديسين؟
 
 
أجمل رد على هذا السؤال نجده في الدستور العقائدي في الكنيسة رقم 62
 
"أمومة مريم في تدبير الخلاص تستمر بلا انقطاع إلى أن يبلغ جميع المختارين المجد الدائم، منذ أن أبدت إيمانها يوم البشارة ورضاها الذي حافظت عليه بلا تردّد تحت الصليب. ولم تتخلَّ عن هذه المهمة الخلاصية بعد انتقالها إلى السماء، إذ انها بشفاعتها لا تزال تنال لنا نعم الخلاص الابدي. وأنها تسهر بحنان الأم على إخوة ابنها الذين لم ينته شوطهم بعد، وإنما يعانون وطأة المشاق والمِحَن، حتى يصلوا إلى فردوس النعيم. لأجل ذلك تتضرع الكنيسة إلى العذراء الطوباوية وتدعوها معينة وشفيعة ووسيطة. هذه الألقاب لا تقلل ولا تزيد المسيح كرامة وقدرة بوصفه الوسيط الأوحد". 
 
إن يسوع، الوسيط الوحيد، هو طريق الخلاص. ومريم أمّه وأمنا تدل على الطريق وهي هادية ومرشدة توجه النفوس إليه.
 
وفي كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية:
 
"منذ الرضى الذي أبدته مريم يوم البشارة، والذي احتفظت به عند الصليب، تستمر أمومتها هذه، بلا انقطاع، في تدبير الخلاص، إلى أن يكتمل نهائيا جميع المختارين، فانها بعد انتقالها إلى السماء لم تنقطع مهمتها في عمل الخلاص. إنها بشفاعتها المتصلة لا تني تستمد لنا النعم التي تضمن خلاصنا الأبدي (...) من أجل ذلك تُدعى العذراء الطوباوية في الكنيسة بألقاب مختلفة، فهي: المحامية، والنصيرة، والظهيرة، والشفيعة والوسيطة" ( رقم 969).
 
"دور الأم الذي تقوم به مريم تجاه الناس لا يضير شيئا ولا ينقص البتة من وساطة المسيح الوحيدة، بل يُظهر، على خلاف ذلك، فعاليتها. ذلك بأن كل تأثير خلاصي من العذراء الطوباوية (...) يصدر عن فيض استحقاقات المسيح، ويستند إلى وساطته، التي بها يتعلق كل شيء، ومنها يستمد كل شيء فعاليته". "فما من خليقة البتّة يمكن جعلها على مستوى الكلمة المتجسد والفادي. ولكن كما أن كهنوت المسيح يشترك فيه، على وجوه مختلفة، خدام المسيح المكرسون والمؤمنون، وكما أن جودة الله الواحدة تفيض بوجوه مختلفة على المخلوقات، كذلك وساطة الفادي الواحدة لا تنفي، بل تبعث في المخلوقات، على خلاف ذلك، تعاونا مختلفا مرتبطا بالمصدر الواحد" (رقم 970)).
 
379
كيف تستطيع سيدتنا مريم العذراء أن تسمع جميع طلبات وتضرعات ابنائها وهي ليست إلهة؟ 
 
وهل من الضروري أن تكون مريم إلهة لكي تكون على اطلاع تام  في السماء بكل ما يجري على الأرض وبحالة النفوس الروحية والزمنية.؟ الإدعاء بأن سيدتنا مريم العذراء لا تستطيع أن تسمع جميع طلبات وتضرعات أبنائها لأنها ليست إلهة، إنما هو اعتقاد باطل وهرطقة لسببين رئيسيين: 
 
1 -  مَن يدّعون ذلك ينكرون إيمانهم بأن الله قادر على كل شيء. وينكرون قول الله على لسان الملاك المبشر، يوم البشارة، الذي قال لمريم: "لا شيء يعجز الله" ( لوقا 1/37). 
 
فمِن الخطأ أن نحصر قوة الله وقدرته الفائقة بالإمكانات البشرية، ومِن الخطأ أن نحصرها في عقولنا وتفكيرنا  وفي مقاييس البشر المحدودة. فالله لا بداية له ولا نهاية، وهو كائن قبل الزمن وفي الزمن وبعد الزمن، وهو في كل مكان وزمان قادر على كل شيء. فما لا يُرى وما لا يتصوره العقل البشري هو أكثر بكثير مما يتصوره العقل، لأن ما يُرى هو زمني ومحدود وأما ما لا يرى فهو أبدي. قال بولس الرسول لأهل كورنتس:
 
"ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر، ذلك ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2/9).
 
طرقي ليست طرقكم يقول الرب. فالله لا يحصر ذاته  في منطق ولا يخضع لمقاييس. 
 
عزيزي صاحب السؤال: لك كامل الحرية أن تؤمن بذلك وأن لا تؤمن، ولكنك  لن تنعم بحرية أبناء الله إلا إذا آمنت حقا  بأن لا شيء يعجز الله (لو1/37) وأن عقلك وتصوراتك  تعجز عن استيعاب قدرة الله وعن حصرها في حدود. 
 
2 – مَن يدعون ذلك ينكرون إيمانهم بشركة القديسين التي تضم الكنيسة المجاهدة على الأرض، والكنيسة المنتصرة في السماء، والكنيسة المتألمة في المطهر. كلهم يشكلون جسد المسيح السري الواحد الذي فيه يقف جميع المؤمنين أمام الله بعضهم من أجل بعض. 
 
إن شركة القديسين هي تضامن محبة وإيمان ورجاء بين أعضاء جسد المسيح السري الذين في السماء والذين في المطهر والذين على الارض. فأصغر عمل خير أو تقوى وعبادة نقوم به يتردّد صداه في أعماق السماء، وبه ينتعش الأحياء والأموات، ويصلّون بعضهم لبعض، ويطلبون من الرب أن تكون مشيئته على الأرض كما هي في السماء. ولذلك أمنا مريم العذراء ليست وحدها التي تستطيع ذلك، بل كل سكان السماء ينعمون بهذه الموهبة لأن الله هو إله البشر ومحب البشر ويريد خلاص الجميع، وهو يهبنا حياته ومحبته في هذا الترابط بين أعضاء جسد المسيح السري في السماء والمطهر والأرض. 
 
فالكنيسة المنتصرة في السماء برمتها - وليس فقط مريم العذراء – بقوة الله القادر على كل شيء، هم على اطلاع كامل على ما تتعرض له الكنيسة المجاهدة على الأرض من صعوبات ومشاكل وهموم في مسيرتها نحو الملكوت السماوي، وعلى ما تمارسه من فضائل، وعلى احتياجاتها الكثيرة لمتابعة مسيرة الخلاص. فكل أهل السماء هم على ارتباط دائم وعلاقة روحية وخلاصية مع كل أبناء الكنيسة المجاهدة على الأرض. وهذا من ميزات كنيسة الله الواحدة، من ميزات شعب الله الواحد في الأرض والسماء والمطهر. فالله حاضر في كل واحد من القديسين حضورا حيا بقدرته الإلهية المبدعة. 
 
3 - بالإضافة الى كل ذلك، فإننا إذا ما نظرنا إلى  إمكانات الإنسانية المحصورة، نلاحظ أنك تستطيع، وأنت جالس على الكمبيوتر، أن تضع أمامك في دقائق معدودة أخبار العالم كله وأحوال الطقس وأخبار الناس  والكثير من الكتب والمعارف .... الخ، وفي السنين القادمة، سوف يكتشف الإنسان أكثر من ذلك بكثير. وهذه كلها وضعها الله الخالق في الطبيعة، والإنسان يكتشفها تدريجيا. فإذا كان ذلك على المستوى البشري ممكنا، أفلا يستطيع الله القادر على كل شيء، أن يجعل قديسي السماء يعرفون تماما كل ما يجري للكنيسة المجاهدة على الأرض؟ وأن يسمعوا كل صلواتها وطلباتها الموجهة إليه مباشرة أو عن طريق أمّنا مريم العذراء أو عن طريق القديسين؟ 
 
نحن نؤمن بأن لكل نفس مكانها في قلب مريم أمّنا السماوية، وأن لا أحد من المخلوقات يحبنا اكثر منها ولا أحد يعرف حاجاتنا وما هو مفيد لخلاصنا أكثر منها.  وأنت قد تكون ابنا صالحا لأمك مريم وقد تكون ابنا طالحا، وفي هذه الحالة فإن مريم تبكي على بُعدك عن الله وتشفع لك لكي تعود إليه تائبا لتنال الحياة الأبدية. نحن نشكر الله ونشكر أمّنا مريم العذراء وجميع القديسين على اهتمامهم بخلاصنا. 
 
380
لطفا إشرح لي، لماذا قال يسوع لأمه مريم مرتين: في قانا الجليل وعلى الصليب "يا امرأة" ولم يقل لها "يا أمي"  (يو 2/4،  19/26-27) ؟
 
يدّعي البعض أن السيد المسيح لم يحترم أمه عندما وجه كلامه إليها، في المناسبتين الرسميتين المذكورتين، أي في عرس قانا الجليل وعندما كان يقاسي الآم النزاع والموت على الصليب، حيث خاطبها قائلا لها: "يا امرأة". فهل هم على صواب أم على خطأ؟ 
 
للرد على السؤال نعود إلى الكتاب المقدس:
 
1 – نحن نؤمن بأن يسوع هو إنسان كامل شبيه بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. فهل من المعقول أن يخطأ بحق أمه وأن يقلل احترامه لها؟ فإذا صنع ذلك، فذلك يعني أن يسوع لم يُستَثن من الخطيئة وأنه إنسان خاطىء، وهذا يتنافى وإيماننا.
 
2 – ان الكتاب المقدس  بعهديه، القديم والجديد هو تاريخ مسيرة الخلاص، وهو كلمة الله للإنسان، وأن العهدين، مرتبط أحدهما بالاخر، وأن الجديد يشرح القديم ويتمم مقاصد الله الخلاصية. وكل من يطالع الإنجيل ويتأمل في تعاليم السيد المسيح  وعجائبه والأمثلة التي  يشرح من خلالها ملكوت الله، يدرك أن كلمة امرأة "على لسان المسيح" لا تأتي إلا للتعظيم ولم تأت أبدا للتحقير: 
 
أ - قال يسوع للمرأة الكنعانية "ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين" (متى 15/28). فيسوع عظمها بإيمانها وقال لها "أيتها المرأة". 
 
ب - يذكر متى أن يسوع دافع عن المرأة التي سكبت الطيب على رأسه وهو على الطعام عند سمعان الأبرص، وقال للذين انتقدوا فعلها: "لماذا تزعجون هذه المرأة؟ فقد عملت لي عملا صالحا" وفي قوله هذا تعظيم  لها وتقدير (متى 26/10). 
 
ج - وفي بيت سمعان الفريسي عندما جاءت المرأة التي كانت معروفة في المدينة بأنها خاطئة، ومعها قارورة طيب، ووقفت من خلف عند رجلي يسوع وهي تبكي، وجعلت تبل قدميه بالدموع، وتمسحهما بشعر رأسها، وتُقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب، قال يسوع لسمعان: "أترى هذه المرأة؟ ... لم تكف مذ دخلت عن تقبيل قدمي ...  فقال للمرأة إيمانك خلصك فاذهبي بسلام" (لو 7/44-50). فليس في قول المسيح  "أترى هذه المرأة؟" أي احتقار بل فيه كل الاحترام والتقدير.
 
د - قال يسوع للسامرية قبل أن يكشف لها أنه هو المسيح المنتظر: "صدقيني أيتها المرأة تأتي ساعة فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم ..." (يو 4/21)  ففي قوله لها "صدقيني أيتها المرأة" كل الاحترام والتقدير، والإشارة المبطنة إلى صدقها في انتظار المسيح المخلص. 
 
هـ - وعندما ظهر يسوع لمريم المجدلية، يوم أحد القيامة، وقد ظنت أنه البستاني، قال لها: "لماذا تبكين أيتها المرأة وعمن تبحثين؟، فقوله لها: "يا امرأة" ليس فيه أي احتقار  بل يدل على الاحترام والتقدير.
 
3 - يطلعنا سفر التكوين على أن آدم وحواء تمردا على الله. وكان لحواء دور كبير في هذه المصيبة التي حلت بالبشرية، فهي شريكة آدم في تمرّده وعصيانه. هذه الصورة المؤلمة للإنسان الأول – أي لآدم وحواء -  بدلتها صورة يسوع ومريم – آدم وحواء العهد الجديد. ولا بد من التذكير بأن يوحنا الحبيب لاهوتي كبير، وهو الإنجيلي الوحيد الذي يذكر المناسبتين الرسميتين حيث وجه يسوع الكلام إلى أمه قائلا لها: " أيتها المرأة"، وذلك في عرس قانا الجليل، وقبل ان يُسلم الروح وهو معلق على الصليب. ويبدو واضحا أن يوحنا الحبيب، بل أن يسوع، يربط بين "المرأة في سفر التكوين: "أجعل عداوة بينك وبين "المرأة" وبين نسلك ونسلها"  (3/15)  وبين أمه مريم، لأن أمه مريم هي حواء الجديدة، "امرأة" العهد الجديد، وهو أي المسيح، نسلها  "آدم الجديد" الذي يسحق رأس الحية الجهنمية ويصنع الخلاص. فبهذه التسمية (أيتها المرأة) فإن المسيح يدل على أنها تلك المرأة الفريدة بامتياز التي لها دور في سحق رأس الحية الجهنمية. وقالت الكنيسة في الدستور العقائدي في الكنيسة للمجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني:
 
"إن الأسفار المقدسة في العهد القديم والعهد الجديد والتقليد المكرم توضح جليا مهمة أم المخلص في تدبير الخلاص وتضعها لتأملنا. فأسفار العهد القديم تصف تاريخ الخلاص كتمهيد بطيء لمجىء المسيح إلى العالم ... وهذه الوثائق الأولى، حسبما اعتادت الكنيسة أن تقرأها وتفهمها في ضوء الوحي اللاحق، ترسم لنا صورة تزداد وضوحا شيئا فشيئا للمرأة أم الفادي، التي تظهرها نبوءة الوعد الذي قُطِع لأبوينا الأولين بعد سقوطهما بسحق الحية" (دستور عقائدي في الكنيسة 55). 
 
4 - إن يوحنا الحبيب لا يكتفي بأن يسرد لنا الأحداث الإنجيلية، بل يربط بعضها ببعض. ففي عرس قانا الجليل، كان الوقت حاسما لانطلاقة يسوع للبشارة والحياة العلنية. وكانت مريم تعرف وتؤمن منذ يوم البشارة، أن يسوع هو ابن الله وأنه جاء ليخلص العالم ويعيد الإنسان إلى الله، وأنه هو الذي يسحق رأس الحية الجهنمية بموته على الصليب. وفي عرس قانا الجليل، عندما رأت يسوع مع عدد من تلاميذه أدركت أن ساعته التي انتظرتها طويلا قد حانت. فكان طلبها: "ليس عندهم خمر" بمثابة  "إشارة الإنطلاق" لمباشرة يسوع رسالته الخلاصية. وفهمت مريم أن يسوع يعظمها بقوله لها "يا امرأة" كما فهمت أنه يستجيب لطلبها، ولذلك قالت للخدم: "مهما يأمركم به فافعلوه". وأطاع الخدم مريم فحوّل يسوع الماء إلى خمر جيدة. ويرى بعض المفسرين  في ذلك رمزا لتحويل العهد القديم الى عهد جديد. كذلك عند أقدام الصليب، كان الوقت حاسما ومهيبا في آخر دقائق من حياة يسوع على الأرض. وكانت مريم، بتدبير إلهي، حاضرة تتألم معه وتشاركه الآمه الخلاصية، إذ أراد الله لها دورا  معلوما في عمل الخلاص، كما كان لحواء الأولى دور في سقوط البشر. هذا ما تعلمه الكنيسة. 
 
وخلاصة القول:
 
1 - إذا كان المسيح يخاطب النساء الصالحات وغير الصالحات في نظر المجتمع، بكل تقدير واحترام، فبأولى حجة، يكرم يسوع أمّه ويحترمها ويقدرها. لقد خاطبها في قانا الجليل قائلا لها: "أيتها المرأة" تعظيما لها أمام الحضور، واستجاب طلبها وقدم من أجلها ساعته وحوّل الماء خمرا تعظيما لها وتمجيدا لمقامها. ويقول بعض المفسرين والمؤرخين أن يسوع بقوله لأمه: "أيتها المرأة" إنما اقتدى بالملوك والعظماء القدماء، الذين كانوا يخاطبون أمهاتهم "أيتها المرأة" في المناسبات الرسمية تعظيما لهنّ. 
 
2 - إن يسوع هو آدم الجديد، الذي، بالآمه وموته وقيامته نفّذ نبوءة الخلاص الأولى (تك 3/15). وفي قوله لامه "أيتها المرأة" إنما يشير بوضوح إلى "المرأة" الأولى في العهد القديم، أي إلى حواء التي، سقطت تحت  التجربة، ذلك أن أمّه  مريم العذراء هي "المرأة" في العهد الجيد، أي حواء الجديدة. لقد أراد الله أن يخلص البشر بابنه المتجسد وأن يكون لأمه مريم دور في تدبير الخلاص. 
 
إن وصية يسوع وهو على الصليب، ليست أمرا يتعلق بمسألة عائلية، بل هي أمر يتعلق، مثل غيره من أمور الصلب، برسالة المسيح الخلاصية. فالكلمات التي نطق بها يسوع على الصليب واقتراع الجنود على ثوبه، وعطشه وطعنه بالحربه، كلها تتعلق برسالته الإلهية، وجاء في إطار كتابي أكيد، ولاهوتي عميق. لقد كانت ساعة اكتمال الفداء، ولم تكن ساعة ترتيب أمور بشرية واجتماعية لأمه. فعندما وجه يسوع كلامه إلى أمّه وقال مشيرا إلى يوحنا: "هوذا ابنك" فكان ذلك إعلانا لأمومتها الروحية الشاملة، وتكريسا لدورها في رسالته الفدائية لخلاص العالم.
 
 
 
 
وختاما إليك صلاة إلى أمنا مريم العذراء سيدة الجبل الباكية (في 6/5/2010) دما وأسى على أبنائها الضائعين، لكي تصليها يوميا، مرارا وتكرارا، فتنال رحمة، وتكون من أبنائها الصالحين.
 
صلاة 
إلى سيدة الجبل الباكية
 
يا سيدةَ الجبل الباكية، يا أمي السماوية،
ويا أمَّ الرحمة والبشر أجمعين،
يا من تبكين دما وأسى على نفسي التائهة
وعلى نفوس بنيك الضائعين،
أسألك فامنحيني أن أكفكف دموعك الحرّى
بصادق توبتي وانسحاق قلبي
وعظيم محبتي ليسوع الرحيم.
بين يديك أضع ذاتي ومصيري،
فاذكريني لدى ابنك يسوع
الآن وعند ساعة موتي
كي أنال رحمة
وأكون بحبه من المخلَّصين.
آمين